قراءة في “صورة العربي في سرديات أمريكا اللاتينية” لـ ريجوبيرتو إرنانديث باريديس

Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي     

1– أسباب ومصادفات – الخلفية التاريخية للصورة السردية:

     “صورة العربي في سرديات أمريكا اللاتينية” لمؤلفه “ريجوبيرتو إرنانديث باريديس”، كتاب صدر عن مشروع كلمة، هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة في طبعته الأولى سنة 2015، الكتاب من ترجمة الأستاذ “أحمد عبد اللطيف” ومراجعة “د.علي المنوفي”، ويقع الكتاب في مائتين وست صفحات متوسطة، وللكتاب أهمية قصوى كونه يرسم ظلالا وارفة لصورة العرب الذين هاجروا من البلدان العربية، واستقروا بمختلف بلدان أمريكا اللاتينية، واندمجوا بهذه البلدان وأصبحوا مع مرور الوقت منصهرين كليا داخل مجتمعات أمريكا اللاتينية. 

     مؤلف الكتاب “ريجوبيرتو إرنانديث باريدس”، كاتب كوبي، ويعرف باسمه في اللغة الأجنبية ” RIGOBERTO MENENDEZ PAREDES “، ولد في مدينة ” هافانا ” سنة 1963، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ، تولى منصب مدير ” متحف بيت العرب ” التابع لإدارة مؤرخ ” هافانا “. نشر عدة أبحاث من بينها كتاب بعنوان ” العرب في كوبا – 2007 – هافانا – كوبا “، وبه فاز بجائزة ” كاتاورو “، وفاز بجائزة أخرى من كل من جامعة هافانا وأكاديمية العلوم، كما حصل على وسام الثقافة الوطنية.  

     مترجم الكتاب هو أحمد عبد اللطيف، من جنسية عربية مصرية، ولد سنة 1978، حصل على الإجازة في اللغة الإسبانية وآدابها من كلية اللغات والترجمة سنة 2000، ومن وقتها تفرغ للكتابة والترجمة. فاز بجائزة الدولة التشجيعية عن روايته ” صانع المفاتيح ” سنة 2012. ترجم عدة كتب إلى اللغة العربية تفوق خمسة عشر كتابا.    

     من المهم أن نؤكد بأن الكتاب الهام هذا محدد في موضوعه، ومضبوط في غرضه، فهو يقدم أمثلة حية لحضور العرب في المنتج السردي لدول أمريكا اللاتينية دون غيره من الواجهات الأخرى. والموضوع يلتمس خلفيته الموجهة في الارتباط بالهجرات الفردية والجماعية للعرب إلى دول أمريكا اللاتينية، وخصوصا في القرن التاسع عشر حيث حصول ذروة الهجرات في العالم. لقد أرجع الكتاب هجرات العرب المتعاقبة إلى الضغط الذي كانت تمارسه الإمبراطورية التركية العثمانية على دول مستعمراتها العربية، بالإضافة إلى بداية حضور الهيمنة الأوروبية، وكذلك الآثار السلبية للأزمة الاقتصادية على معيشة الأسر العربية وغيرها. منذ القرن السادس عشر تحتل الدولة التركية العثمانية حوض البحر المتوسط الشرقي، وبداية من أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر بدأت الدولة العثمانية تعرف مضايقة جدية من طرف التدخل الأوروبي، بالإضافة إلى الصراع الدرزي الماروني بلبنان في منتصف القرن التاسع عشر، وهو صراع كان له تأثير كبير على مسار هجرة العرب إلى دول أمريكا اللاتينية لأن اللبنانيين شكلوا أكبر كتلة في عملية الهجرة المذكورة. وقد كان العرب في هجرتهم يحبذون التوجه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والبرازيل، والأرجنتين، والمكسيك، والشيلي، ثم كذلك كوبا التي أصبحت عند بدايات القرن العشرين محطة لاحتضان هجرة كثير من اللبنانيين، والفلسطينيين، والسوريين، وقليل من المصريين، بعد أن كانت تشكل سابقا مركزا ونقطة عبور للوصول هجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

     أما فنزويلا وكولومبيا والإكوادور فقد كانت تشكل ما يمكن تسميته بالخيار الثاني في تحديد مكان الهجرة من أجل الاستقرار والحياة والاندماج. لقد كان العرب في هجراتهم المتعددة يختارون بلد الهجرة وفق شروط لها علاقة بدولة الاحتضان التي من الأفضل أن يكون بها استقرار سياسي، وإغراء اقتصادي، وفرص الاندماج الاجتماعي، ثم وهذا هو الأهم توفر هذه الدول على ترسانة قانونية تحتضن الأجانب، وتمنح لهم فرصا واضحة وأكيدة للحياة والاستقرار والمساهمة في الدورة الاقتصادية والتنموية. وقد عملت دول المهجر على استيعاب أعداد كبيرة من المهاجرين العرب الذين بدورهم عرفوا جيدا كيف ينصهرون في هذه الدول ويندمجون في نسيجها الاجتماعي والاقتصادي، وفي ظرف مائة عام تقريبا تحول العرب المهاجرون من صفة الوافد إلى صفة التكامل والاستيعاب، لقد أصبحوا فعلا أبناء فعليين في دول المهجر، وخاصة الأبناء الذين ولدوا في دول المهجر، فقد أصبحوا لا يعرفون وطنا إلا الوطن الذي يقيمون فيه، وفتحوا أعينهم في أجوائه، وبذلك بدأ فعل الهجرة يتقلص رنينه في كل مرة، ويتناقص حضوره مع مر الزمن.        

2– البائع المتجول والذين لا يعودون – الوجود العربي الخاطف في السرد الكوبي:

     إلى حدود سنوات جمهورية الكولونيالية الجديدة ( 1902 – 1958 )، لم يكن حضور العربي في السرد  الكوبي إلا باهتا، وضعيفا، فلم يعكس هذا الأدب بصيغة واضحة صورة الوافد اللبناني، أو الفلسطيني، أو السوري. لقد أشار الروائي الكوبي ” كارلوس لوبيرا ” إلى البائع العربي  في روايته ” خوان كريويو ” وذلك باختصار، وتحدث هذا الروائي عن العربي الذي يبيع سلعا تجارية بالتقسيط عن طريق عرضها على الناس وهو يمر في المدن والقرى الكوبية، وقد سمى الروائي الكوبي هذا البائع  “بالتركي “، وهي صفة كانت تطلق غالبا على المهاجرين اللبنانيين، والفلسطينيين، والسوريين في دول المهجر عند بداية استقرارهم بها لأنهم كانوا يحملون جوازات سفر مسلمة ( بفتح السين ) من طرف الدولة التركية العثمانية. وأشار الكاتب الكوبي ” ميجيل بارنت ” الحاصل على جائزة الدولة للآداب في روايته ” سيرة آبق ” إلى العرب وحضورهم كباعة متجولين من خلال تسميتهم ” بالأتراك ” وهم يروجون بضاعتهم في ثكنات العبيد منذ سنة 1899 في هافانا وضواحيها. وقد تحدث كذلك عن الحضور العربي في كوبا الشاعر والروائي اللبناني ” أنطون عرفات ” المولود في ” سانتياجو دي كوبا ” من خلال معايشته للجالية العربية بمسقط رأسه، فقد وصف هذا الأديب بدقة في روايته حياة الجالية العربية اللبنانية في كوبا حيث أصبح العرب المهاجرون ينسون بالتدريج بلادهم الأصلية من خلال الاندماج في كوبا، وكذلك من خلال إقبالهم على العمل الدؤوب من أجل توفير وسائل العيش بسبب فقرهم، وقد أكد هذا الأديب على الصعوبات التي كان يجدها المهاجرون في التعامل مع لغة أرض المهجر، ورغم ذلك يظل إصرارهم حاضرا بشدة في الارتباط بالأرض الجديدة وقطع كل سبل التفكير في العودة إلى لبنان أو البلاد العربية. والثابت هو أن الأدب الكوبي لم يتعامل مع صورة العربي بطريقة مركزية بل كان الأمر لا يعدو إشارات خاطفة في بعض الأعمال الروائية الأدبية، لأن الكوبيين لم يكونوا يحسون كثيرا بالحضور العربي في بلادهم، وكانوا كثيرا ما ينادون العرب ” بالمورو “، ولكن ليس بالمعنى القدحي بل بالمعنى الذي يحمل كثيرا من الود والمحبة، وأحيانا أخرى كانوا ينادون العربي المهاجر إلى بلادهم ” البولندي “، وهم بهذه التسمية يخلطون بين العرب وبين اليهود المولودين في دولة ” بولندا “، الشيء الذي يفسر قلة اهتمام الكوبيين بالحضور العربي في بلادهم، مع العلم أن هذا الحضور كان قليلا في مجمله، وكان أغلب المهاجرين العرب إلى كوبا من الفئة الفقيرة المعوزة.    

     في رواية ” الأطفال يتبادلون الوداعات ” للكاتب الكوبي ” بابلو أرماندو فرنانديث ” تتم عملية استعادة حياة العرب المهاجرين بطريقة سريعة من خلال التركيز على شخصية المرأة المسنة ” كلارا ” التي كانت ثرية تنتمي إلى أسرة ارستقراطية وتحس بنفور من العرب المهاجرين بسبب حسن سلوكهم ورقي تربيتهم، ورغم ذلك فإن أغلب شخصيات الرواية لا تبادلها هذا الرأي، بل بالعكس فهذه الشخصيات تتودد كثيرا إلى العرب المهاجرين، وتتعامل معهم، وترحب بهم في جميع أنشطتهم. أما الكاتب ” دانييل تشاباريا ” وهو ” أوروجوايي ” مقيم في كوبا ويكتب الرواية البوليسية فقد أشار في روايته ” أرملات الدم ” إلى شخصية عربية مهاجرة، بائع متجول ” المورو سعود ” من خلال استحضاره كشاهد على جريمة قتل.

     وقد عمل الروائي ” فليكس بيتا رودرجيث ” في قصة من قصصه الرائعة على ذكر مهاجر سوري وإن بطريقة عارضة، ويتطرق الروائي المبدع ” صمويل فيخو ” في سيرته الذاتية ” ثارابيكو ” إلى ذكر تلميذة مصرية له تدعى ” فلورا ناصر ” من خلال مدح أخلاقها وسلوكها والتنويه بجدها واجتهادها، كما يتحدث الروائي ” ميجيل ميخيدس ” عن امرأة لبنانية كانت تعيش في مسقط رأسه ” نويبيتاس ” وتحدث عن بعض التفاصيل التي تخص حياتها وعلاقاتها مع السكان. ثم بعد هذه الفترة ظهرت أعمال سردية هامة للغاية أصبحت تكرس النصوص الروائية عبر استحضار العرب المهاجرين المقيمين بكوبا واتخاذهم عنصرا أساسا في كتابة الأدب، وهكذا نجد رواية ” رسول السلطان ” للروائي ” إرنيستو جوميث أباسكال ” تحكي بتفصيل ودقة عن زيارة أحد الضباط السامين وهو الجنرال التركي ” أحمد باشا ” إلى كوبا مبعوثا خاصا للسلطان العثماني ” عبد الحميد ” سنة 1898، وقد عمل الروائي على بسط النص الإبداعي في رسم صورة كافية ومشبعة لتحرك الجنرال التركي في كوبا وعلاقاته مع المسؤولين الكوبيين، وجلساته المركزة مع القنصل العام العثماني بكوبا، وقريبا من هذا العمل نجد رواية ” دون سيمون اللبناني ” للكاتب ” جييرمو سانتشيث دي أندا “، حيث كتبها عن الجد اللبناني المبجل ” سيمون سلفادور أيوب ” المقيم في المكسيك مع حفيده ” سيمون سلفادور بيدروثا “، وقد برع الروائي في وصف طريقة تعامل الجد وحفيده مع السكان الأصليين، والاحترام الذي اكتسباه منهم، حتى وصل الأمر بالسكان إلى ترشيح الحفيد إلى منصب محافظ، ونلاحظ هنا أن هذه الرواية هي من الأعمال المثيرة التي يكتبها مبدع كوبي عن عرب مقيمين في المكسيك، وهذا مؤشر على رسوخ العرب في أرض المهجر، وذيوع صيتهم باعتبارهم أصبحوا منتجين، ومبادرين، ولم يعودوا فقط منفعلين.

3– الوافدون العرب في روايات غابرييل غارسيا ماركيز:

     عمل العرب المهاجرون على الوصول إلى كولومبيا باكرا، في العقد الثمانيني للقرن التاسع عشر، واستقروا غالبا في الساحل الأطلنطي، وأغلب المهاجرين كانوا من الفلسطينيين الذين فاقوا غيرهم من العرب المهاجرين، وقد فضلوا الاستقرار في المناطق التي وجدوها مناسبة لهم في ” بارانكييا وسانتا مارتا “، أما اللبنانيين فقد كانوا من العرب المهاجرين الذين يرتبون في المرتبة الثانية بعد الفلسطينيين من حيث العدد، وقد فضلوا الاستقرار والإقامة في مدينة ” قرطاجنة “، وقد كان العرب المهاجرون في كولومبيا يقيمون كثيرا أنشطة لها ارتباط مباشر بتجارة النسيج في البلدات المحيطة بنهر ” ماجدالينا “. 

     ” غابرييل غارسيا ماركيز ” الفائز بجائزة نوبل سنة 1982 ضمن كثيرا من الروايات الجميلة التي كتبها صورة العربي المهاجر من المشرق: ( ساعة نحس – الكولونيل لا يجد من يكاتبه – مائة عام من العزلة – سرد أحداث موت معلن ). وحضور العربي المهاجر مرتبط في روايات ” ماركيز ” بسيرته الذاتية ” عشت لأروي ” التي يصف فيها العدد الكبير من  المهاجرين الذين أغرقوا قرية ” أراكاتاكا ” التي ولد فيها، والتي اعتبر الروائي الكولومبي أنها أصبحت أرضا بلا حدود بسبب كثرة الوافدين عليها من المهاجرين.

     في رواية ” الكولونيل لا يجد من يكاتبه ” يوظف ” ماركيز ” لأول مرة في رواياته وأعماله الأدبية شخصية العربي ” السوري موسى “، الذي يملك محلا تجاريا في القرية التي تضم عرب المهجر، وكان يحلو للكولونيل أن يراقب سلوكات وأنشطة سكان القرية، وحركة المسافرين من متجر ” السوري موسى “، وهما يتبادلان أحاديث متنوعة ومشوقة، وقد استنتج الكولونيل بأن السوري موسى انصهر فعلا في مجتمع المهجر وأصبح يشكل مع غيره طبقة وسطى هامة، كما أنه نسي لغته الأم بشكل فعلي، وهذه الأخيرة إشارة بالغة الأهمية في الحضور الثقافي والإنساني والتاريخي لعرب المهجر. أما في رواية ” ساعة نحس ” فقد أشار                      الروائي كثيرا إلى السوريين المهاجرين أصحاب المتاجر ومحلات البيع بالقرية، وعاد من جديد واستحضر شخصية ” السوري موسى “، ووصف كيف أصبح متجره مركزا هاما للتجارة وتبادل الحديث والمشورة بين موسى وعمدة القرية، كما وظف ” ماركيز ” شخصية التاجر السوري إلياس الذي كان يتعرض أحيانا للسخرية من طرف فتية القرية. ونلاحظ أن محلات التجارة الخاصة بالعرب المهاجرين أصبحت عبارة عن مراكز للبيع والشراء وتبادل الأحاديث المهمة، والاطلاع على كل جديد يهم القرية أو البلاد. 

     في روايته الشهيرة ” مائة عام من العزلة ” وعالم ” ماكوندو “، عمل ” ماركيز ” على إثارة الحديث بإشارات عدة للعرب الشرقيين المهاجرين عبر الحديث عن حي الأتراك، لقد صور الروائي العرب المهاجرين في القرية جماعة منغلقة على نفسها، تمارس التجارة عبر المحلات المفتوحة في وجه الجميع، وركز ” ماركيز ” بالإسم على شخصية ” يعقوب “، وهو من المحظوظين الذين يبدو أنهم كونوا ثروة محترمة، وهو صاحب فندق ” ماكوندو “، بمعنى أن ” يعقوب ” شخصية لها حضور لافت في الرواية، والروائي يصف العرب المهاجرين في الرواية بطريقة فيها تقدير واحترام، ويصف المهاجرين بدقة من خلال لباسهم ونعالهم وأقراطهم المعلقة في الآذان، وجعل ” ماركيز ” العرب في الرواية أبطالا في السراء والضراء، إذ هو يذكر الشخصيات العربية المهاجرة في الرواية بطريقة جماعية، وتظل الشخصية ” يعقوب ” فريدة في استحضارها دون غيرها من الشخصيات داخل فضاء الواقعية السحرية في عالم ” ماكوندو “.

     لقد خلق ” ماركيز ” من قريته التي شهدت ولادته ” أراكاتاكا ” مكانا خارقا له حضور عالمي، ويبدو جليا أنه استلهمه بكل وضوح من أجل بناء فضاء ” ماكوندو “، وقد جلب هذا الحضور للقرية صيتا عالميا ساهم في ازدهارها، وتطورها، وزاد في تدعيم أنشطتها التجارية، والفلاحية المكونة من إنتاج الموز والذرة والأرز وقصب السكر. نفس الشيء سوف يقوم به ” ماركيز ” من أجل قرية ” سوكري ” التي هاجر إليها مع عائلته سنة 1939، لقد حول الروائي قرية ” سوكري ” إلى مسرح للأحداث في رواية ” سرد أحداث موت معلن ” التي تعتبر أحداثها الإبداعية ذات خلفية واقعية حقيقية تماما، موضوعها كان مستندا إلى جريمة قتل فرضت التركيز على موضوع الشرف والمسؤولية الجماعية، كرس فيها الروائي الأدب الرفيع الذي كان ينتجه للحديث مباشرة عن عرب المهجر، حيث عمل على وصفهم بعمق، وتوسع، وإشباع. إن البطل في هذه الرواية هو العربي المهاجر ” سانتياجو نصار ” بالاشتراك مع باقي عرب المهجر ونسلهم، والشخصيات التي استحضرها ” ماركيز ” في هذه الرواية تتشكل من عرب المهجر بقرية ” سوكري “، وهي: ” سانتياجو نصار – أبوه إبراهيم نصار – نهير ميجيل الرجل الحكيم في الجالية – فلورا ميجيل ابنة نهير، وخطيبة سانتياجو – جميل شايوم وهو صاحب محل لبيع المصوغات والحلي – سوسيمي عبد الله الأم المتحكمة “. ثم زوجة الروائي ” مرسيديس بارتشا باردو ” التي كانت بدورها تقطن قرية ” سوكري ” وكانت من أصول مصرية، وظهرت كشخصية في هذه الرواية، كما وظفها ” ماركيز ” في روايات أخرى له. لقد أشارت كثير من المقاطع في هذه الرواية إلى عرب المهجر بصورة إيجابية، حيث وصفهم الأديب بأنهم يقبلون على الزواج المختلط خارج الجالية ولا يتحرجون من ذلك، كما وصفهم بأنهم من الوافدين السلميين، المتحدين، المحبين للعمل، وقد كونوا لأنفسهم بين سكان المنطقة صورة لجماعة متماسكة.

4– العرب في أرض الكاكاو: اللبنانيون والسوريون في روايات جورجي أمادو:

     لقد جسد الأدب البرازيلي بكل وضوح وغزارة مدى حضور عرب المهجر في سرديات الأدب الأمريكي اللاتيني. دولة البرازيل كانت البلد الأول في أمريكا اللاتينية في استقبال الوافدين العرب المشرقيين، فاللبنانيون في هذا البلد يتفوقون في العدد على سكان دولة لبنان نفسها، أما السوريون فإن عددهم بالبرازيل يفوق عدد سكان مدينة دمشق. لقد كان المبدع اللامع الكبير ” جورجي أمادو ” الذي ولد سنة 1912 في ” إلهيوس ” جنوب ولاية ” باهيا ” بالبرازيل من المبادرين إلى رسم صورة دقيقة لحضور عرب المهجر بالبرازيل عبر روايتيه الإثنتين: ” جابرييلا والمسمار والقرفة ” و ” عن كيف اكتشف العرب أمريكا “، ورغم أن للمبدع روايات أخرى قارب فيها صورة عرب المهجر ولكن روايتيه المشار إليهما تظلان مثالا مفضلا لرسم صورة عرب المهجر في الأدب البرازيلي.

     في مدينة ” إلهيوس ” وفي مدينة ” إيتابونا ” يوجد مسرح رواية ” عن كيف اكتشف العرب أمريكا “. و في نفس المسرح أيضا تدور أحداث رواية ” جابرييلا والمسمار والقرفة ” حيث تتحدد فترة هذه الرواية الأخيرة في سنة 1925 في نفس المدينة التي ولد فيها المبدع الروائي ” جورجي أمادو “، والرواية تركز على عملية استغلال منتج الكاكاو في الضيعات المحلية، والثراء الاقتصادي الكبير الذي جلب كثيرا من الوافدين، وهي تقابل بين طبقة الكولونيلات السياسية التقليدية التي بدأت تتراجع وتنهار، وبين طبقة مصدري منتج الكاكاو الجدد وبداية صعودهم للسلطة، في هذا الجو السياسي الاقتصادي المثير تبرز الرواية قصة حب جامحة بين العربي ” نسيب ” وبين بنت البلد ” جابرييلا “، بمشاعر فيها رغبة، وشغف، وانشطار، وانكسار، والرواية بهذه الطريقة تحاول مقاربة التقاليد العربية من طرف الوافد، واستشراف الحرية من طرف بنت البلد. لقد شهدت المدينتان زيادة في عدد المهاجرين الوافدين، وولادة شوارع في منطقتي البحر والتلال، وإنشاء ميادين وحدائق وبيوت وقصور جديدة. في قلب معالم التغيير هذه تقدم الرواية ” نسيب سعد ” صاحب بار في المدينة، ينشأ مشبعا بالأجواء المحلية، يصوره ” جورجي أمادو ” برازيليا في مولده، رغم أنه ولد في سوريا، حيث وفد مع أسرته إلى البرازيل وهو ابن الرابعة، ويشير الروائي إلى اسم نسيب بلفظ ” تركي ” الذي كان شائعا عن الوافدين العرب، وكان ” نسيب سعد ” يتضايق كثيرا من هذه التسمية، ويعتبر نفسه برازيليا ابن لسوريين لأنه كان يعد ولادته الحقيقية هي عندما وصل مع أسرته إلى البرازيل، وفي نفس البلد حظي بمكانة اجتماعية مرموقة، ووجاهة لافتة عندما أصبح سكرتيرا ” للجمعية التجارية ” . وقد أشار الروائي إلى بعض الشخصيات العربية التي كانت ترد بار الشخصية ” نسيب سعد ” مثل الثري ” معلوف ” الذي أسهمت أسرته بأدوار مهمة في الحياة الاجتماعية البرازيلية، والسوري ” فؤاد ” تاجر الفراء، وأكد الروائي على أن هؤلاء العرب الوافدين يحبون الحكي وسرد الروايات. إن هذه الرواية هي نص مهم يصور التأثير العربي في الثقافة البرازيلية، والانصهار العربي في الثقافة البرازيلية.

     سنة 1991 تلقى الروائي ” جورجي أمادو ” مكالمة هاتفية من دار إيطالية بارزة تدعوه للمشاركة في الاحتفال بالذكرى المائوية الخامسة لاكتشاف أمريكا، عن طريق تأليف ونشر كتاب خاص بالمناسبة، وقد أسهم في تأليف هذا الكتاب ثلاثة من المؤلفين: ” جورجي أمادو” من البرازيل، و” نورمان ميلر ” من أمريكا، و” كارلوس فوينتس ” من المكسيك، وقد تم نشر الكتاب باللغات الإيطالية، والإنجليزية، والإسبانية، والبرتغالية. نشرت رواية الروائي البرازيلي بعنوان ” كيف اكتشف الأتراك أمريكا “، وبعنوان فرعي ” خطوبات أدما ” عبارة  عن رواية أخرى، تركز بدقة وعمق واهتمام على الهجرة اللبنانية والسورية في الشمال الشرقي للبرازيل. وتحكي الرواية عن كيفية تقديم الثروة والزواج للعربي ” جميل بشارة ” مروض الغابات في مدينة ” إيتابونا “، وحبكة الرواية تحيل على الفكاهة في التناول، حيث اللبناني ” رضوان مراد ” والسوري ” جميل بشارة ” مهاجران يتكلمان العربية، تعرفا على بعضهما في المركب الذي حملهما إلى ميناء ” باهيا تدس لوس سانتوس ” سنة 1903، رضوان المدمن للبوكر يقدم جميل ” لإبراهيم خافت ” صاحب متجر ويبحث عن زوج لابنته وريثة تجارة العائلة ” أدما “، وكان جميل أحد الخطاب الذين اختارهم رضوان، رغم أن الفتاة ” أدما ” لم ترقه بسبب أنها غير جذابة… لقد ركزت هذه الرواية على تحليل ووصف صورة العرب الوافدين من خلال علاقاتهم مع بعضهم البعض، ومن خلال تعاملهم بمعطيات الثقافة الأصلية للبلدان العربية التي وفدوا منها، كما أنها تعمل على رصد صورة الوافدين وهم ينفتحون بهدوء وروية على ثقافة بلد المهجر، ويحاولون جاهدين الاندماج عبر استيعاب ثقافة المهجر.

5– الأتراك والدروز في أقصى الجنوب: الحالة الأرجنتينية:                         

     كان الحضور العربي في الأرجنتين كبيرا جدا بالمقارنة مع دول أمريكا اللاتينية الأخرى، وعمل عرب المهجر في الأرجنتين على تقديم صورة مشرفة في هذا البلد عن طريق الفعالية التي تميزوا بها، والمساهمة الملموسة في الاقتصاد الأرجنتيني. واحتفى السرد في هذه الأرض كثيرا بالوافد العربي بواسطة كتاب مرموقين كبار عملوا على توظيف الحركية العامة لعرب المهجر في سردياتهم المتنوعة.

     انطلقت هجرة العرب من المشرق إلى الأرجنتين منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، وعندما وصلوا إلى هذه البلاد استوطنوا في عدة مدن أرجنتينية معروفة حيث سكنوها واستقروا بها على التوالي حسب أفواج المهاجرين التي تصل تباعا بالترتيب ” بوينوس آيرس – سانتا في – قرطبة – توكومان – كاتاماركا – لاريوخا “، بالإضافة إلى استقرارهم بعدة مدن ومناطق في جنوب الأرجنتين. وضمن عرب المهجر إلى الأرجنتين تبرز طائفة الدروز وهي أقلية دينية تتكلم العربية وهاجرت من موطنها في لبنان وسوريا والأردن وإسرائيل، ويعتبر حضور الدروز في السرد الأمريكي اللاتيني نادر للغاية، ولكن أحد كبار أدباء الأرجنتين وهو ” خورخي لويس بورخيس ” وظف شخصيات درزية في إحدى أروع قصصه البوليسية التي نشرها سنة 1941 بمشاركة ” أدولفو بيوي كاسارس ” تحت الإسم المستعار له ” هونوريو بوستوس دوميك “، وقد ظهرت هذه القصة في كتاب ” ست مشكلات تواجه السيد إيسيدرو بارودي “، وعنوان القصة هو ” اثنتا عشرة صورة للعالم “. تحكي هذه القصة التي تم ابتداعها من طرف الكاتبين عن الشخصية ” أكيليس موليناري ” الذي يعتقد أنه قتل زعيم طائفتهم الدرزية ” ابن خلدون “، وقد استمد ” بورخيس ” هذا الإسم من التاريخ حيث ضمنه صيغة رمزية تحيل على عالم الاجتماع العربي المعروف، وزعيم طائفة الدروز هذا في بلدة ” مازيني ” شخصية لها كثير من النفوذ الاجتماعي، والحضور الديني الطاغي المرتبط بمعتقدات وآراء الطائفة الدرزية، تكفل بالتحقيق في هذه الجريمة المخبر السري المقتدر ” إيسيدرو بارودي “، واكتشف بعد عناء كبير أن القاتل هو ” عز الدين ” أمين صندوق المال للطائفة الدرزية بالبلدة، وأثبت المخبر أن القاتل قام بإشعال النار في مقر الطائفة لكي يخفي الأدلة… تبدو الملامح التي قدمها ” بورخيس ” مع شريكه ” كاسارس ” عن الدروز ضبابية، وغير واضحة، ويكتنفها التبعثر والتشظي، خصوصا عندما يلحان على أن الموضوع عند الدروز يرتبط بكل إلحاح بتناسخ الأرواح، وهي عقيدة يؤكدان أن الدروز يعتنقونها، على اعتبار أن الأرواح تخلق مرة واحدة ثم تنتقل باستمرار، ولذلك يبقى الدروز دائما هم الدروز، فهم يعملون بزواج الأقارب للحفاظ على وحدة الجماعة، ولا يتمتعون حسب الكاتبين بحيوية أبناء البلد، ويبدو أن الموضوع معقد نوعا ما لأن السرد هنا دخل منطقة ملغومة، وخاصة عندما اختار موضوعا ذا طابع إثني.

     نشر الروائي الأرجنتيني ” ليوبولدو مارشال ” سنة 1948 رواية من أهم سرديات الأرجنيتن العتيقة ” آدم بوينو سيارس “، وهي رواية تحتفي بكل الكون وما يوجد فيه، نعثر في هذا النص الروائي على حضور شخصيات عربية مثل ” التركي عبد الله صانع العطور في شارع وارنس ” والشخصية ” جبيل ” العربي المسيحي، وقد كان الروائي موجزا في عرض هاتين الشخصيتين مركزا في عرضه على مناقشة لاهوتية تثير فلسفة كل من الوافدين عبر حوار اختاره الروائي داخل مقهى يملكه عربي مهاجر سماه مقهى ” إزمير “، وهي تسمية مستعارة من موطنه الأصلي الذي هاجر منه، استحضار المكان هنا رمز لتكثيف الوجود والحصول على طمأنينة الأرض والانتماء، صور الروائي المقهى مزدحما بالمتسكعين والزبائن، واشتعل الحوار ساخنا بين المسلمين والمسيحيين من خلال انتصار كل طرف لنبيه ورسوله دون أن يفضي إلى نتيجة إلا الدوغمائية والعدمية. وركز المبدع هنا على وصف المقهى بتفصيل مستحضرا بعض الأدوات والمواد مثل اليانسون والنارجيلة… لكي يعطي الدليل على حنين عرب المهجر إلى ثقافتهم الشرقية، ومحاولتهم الحفاظ على بعض رموزها.

     كان المبدع ” أبيلاردو كاستييو ” الفائز بجائزة الدولة الأرجنتينية في الأدب معروفا في كوبا، ولكنه كان كثير المكوث في ” بينوس آيرس “، اعتبره النقاد في بلده كأحد أبرز الساردين في الأرجنتين، وقد كان يكتب بعد فوز مجموعته القصصية ” الأبواب الأخرى ” بجائزة ” كاسا دي لاس أمريكاس ” في جميع الأنواع الأدبية، حتى الدراما التي فاز فيها بجائزة مميزة، كان هذا المبدع قليل التعامل في سردياته المستندة إلى الموضوعات الوجودية مع شخصيات من العرب المهاجرين ولكن إحدى قصصه ” ثأر ” ذات الاتجاه الفنتازي تشكل الاستثناء، فقد كتبها مكرسة لتقديم صورة عن عرب المهجر، القصة يقوم فيها بدور البطولة صاحب محل للخردوات بقرية ” خيبنير “، راوي القصة يخبرنا بعدم وجود علاقة لحكايته برجل كلف بقتل آخر، وأنه لا يفكر في إثارة موضوع الأحقاد الدفينة في الشرق الأوسط، ولكن الحقيقة هي أن الحكاية مبنية بطريقة بارعة، فهي عبارة عن موضوع يختفي وراء الذريعة السردية، وهي سريان مفهوم الثأر في الشرق الأوسط. محل الخردوات في القرية الذي يملكه ” تركي عجوز ” كان عربيا بالطبع وقارب الثمانين يسمى ” علي “، تقوم هذه الشخصية بدور جوهري لا يظهر إلا في النهاية، ففي محله يعثر الراوي على ” سيف معلق بشكل لافت فوق حائط مكتوب عليه في ورقة بخط عربي منقوش حيث تبرز فيها كلمة ثأر “، وقد كان هذا الراوي مساعدا للعجوز في محل الخردوات… النهاية يصورها المبدع فعلا بطريقة فنتازية فيها مفاجأة، فالعجوز كان عليه ثأر قديم، وكان قد أعد السيف للدفاع عن نفسه، ولما هاجر هربا من أصحاب الثأر وأشياء أخرى، ظل مشغولا طيلة حياته بالموضوع، وكان السيف دائما يذكره بالأمر، أخيرا سوف يقوم بقتل نفسه بالسيف، لقد ناب عن غيره في إيقاع فعل الثأر بنفسه. لقد كانت الصورة التي أراد ” أبيلاردو كاستييو ” أن يثبتها للمهاجر العربي هي رسوخ الأحقاد الدفينة المحمولة من الشرق الأوسط في الصدر، وقابلية انبثاقها وانفجارها دائما قائمة حتى في بلاد المهجر، وفي سيادة وحضور ثقافة مغايرة.             

6- رياض حلبي صانع الماء المقدس: الشخصية العربية في روايات وقصص إيزابيل الليندي:

     ولدت” إيزابيل الليندي ” في دولة ” البيرو “، من عائلة كبيرة، عريقة، بارزة، منحدرة من دولة ” الشيلي “، وهي من الروائيات المعروفات بشهرة كبيرة في أمريكا اللاتينية، وقد حصدت روايتها ” بيت الأرواح ” عدة جوائز محترمة. روايتها ” إيفا لونا “، وبعض قصصها كانت تحتضن بعض الشخصيات التي تصور عرب المهجر، مثل ” رياض حلبي ” التاجر العربي، تقول ” إيزابيل الليندي ” عن كيفية نحت هذه الشخصية داخل العمل: ” توقفت في منتصف الرواية عاجزة، لأنني فقدت الشخصية الذكرية. حينها احتجت إلى شخص يأتي لينقذ إيفا لونا من هذه الحارة المسدودة، فظهر العربي رياض حلبي “، وكانت هذه الشخصية حاضرة بكثافة وقوة في الرواية، حيث أدت دور الحامي، ثم العاشق لإيفا لونا. قدمت المبدعة عبر الرواية رسما مفصلا بارعا جدا لصورة العربي وهو يبرز ذاته في بلاد المهجر مجسدة في شخصية التاجر العربي ” رياض حلبي ” كرمز لطريقة عيش وعمل العرب المهاجرين، تقول الكاتبة: ” رياض حلبي كان من هذه الكائنات التي هزمتها الشفقة. كان محبا للآخرين، حتى إنه كان يجنبهم ألم النظر إلى فمه المشقوق، ودائما كان يغطيه بمنديل في يده، ولم يكن يأكل أو يشرب أمام الناس، ونادرا ما كان يبتسم…تغذى خلال سنواته الأولى كمهاجر على الخبز والموز والقهوة، كان ينام ملقى على الأرض في مصنع النسيج الذي يمتلكه ابن وطنه الذي منحه سقفا ينام تحته، في مقابل تنظيف البناية، وحمل حزمات الخيط والقطن، والتفرغ لصنع مصائد للفئران، كل هذا كان يهدر جزءا كبيرا من يومه، وبقية الوقت كان يستغله في معاملات أخرى متعددة. وسرعان ما انتبه أين يمكن أن يعثر على المكاسب الأكثر فائدة؟ فاختار التفرغ للتجارة “.                                       

     لقد آثرت المبدعة ” إيزابيل الليندي” الاحتفاظ بشخصية ” رياض حلبي ” في أعمالها اللاحقة على رواية ” إيفا لونا “، فقد أصبحت تروقها كثيرا صورة العربي المهاجر، فوظفتها في قصتين من قصصها ” ذهب توماس بارجس ” و ” ضيف المدرسة “، فقد قدمت تفاصيل أخرى للشخصية لم تكن بارزة  لنا في الرواية، ففي كلتا القصتين تحضر شخصية العربي المهاجر في دور الطيب الخاضع المحب للسلم والأمان. في قصة ” ذهب توماس بارجس ” يلعب رياض دور الحامي الذي يفض النزاعات ويتدخل لتخليص الزوجة من زوجها توماس العنيد الذي لم يكن يتوقف عن ارتكاب الآثام وتقمص النبرات الذكورية إلا في حضور العربي الوافد المنقذ المخلص، في هذه القصة تحضر صورة العربي المسالم المسامح الذي يقدم يد العون للجميع، ويسهم في تنمية القرية وخدمة أهلها، في مقابل ” بارجس ” ابن البلد الآثم الذي كان يمعن في ارتكاب الشرور. في القصة الثانية ” ضيف المدرسة ” تقدم المبدعة ” حلبي ” بصورة مغايرة لكي تشتغل على التنويع في صور الشخصيات، إنها الصورة النمطية للعربي الوافد المهاجر الذي يبحث عن موطئ قدم له في أرض المهجر، تقول عنه: ” كان أحد هؤلاء الباعة المسافرين الذين يمرون بالطرقات، ويقدمون سلعهم، مغتربا من أجل التجارة، بلا بوصلة ولا قبلة محددة، مهاجرا عربيا بجواز سفر تركي مزور، عزبا، مرهقا، بشفة مشقوقة كأرنب، ورغبات لا يمكن مقاومتها للاستراحة في الظل… “.

7– نظرة من داخل الذات – المنتج الأدبي لأبناء المهاجرين – الحالة التشيلية والكولومبية والمكسيكية – المهاجرون الفلسطينيون في الخيال السردي الشيلي:

     دولة ” الشيلي ” من أكثر البلدان التي عرفت عددا مهما من المؤلفين ينحدرون من أصول عربية وخصوصا منهم الفلسطينيين عالجوا موضوع الهجرة عبر توظيف حياتهم مع عائلاتهم، واحتل هؤلاء مستوى محترما بين أقرانهم الممثلين للأدب الأمريكي اللاتيني والعالمي، وقد بلغ عدد الأدباء العرب في هذا المجل سبعة وثلاثين مبدعا، منهم الروائيان الأديبان ” بينيديكتو شواكي ” من جيل 1920، و ” والتر غريب ” من جيل 1957.

     إن هذه الكتابة الإبداعية ذات المنحى الذاتي، ارتبطت بتبني مفاهيم محددة في بيان صورة العربي الوافد مثل الاقتلاع من الجذور، والتهميش، والتبني، والتداخل، والاندماج، والهوية. يقدم ” والتر غريب ” وهو مبدع فلسطيني في روايته ” المسافر ذو البساط السحري ” التي تعتبر العمل الوحيد الذي وظف فيه موضوع الهجرة ” بشير ماجدلاني ” حفيد ” عزيز ” المهاجر الفلسطيني الذي استقر مع عائلته في مدينة ” سانتياجو دي الشيلي “، واستحضر ذكريات كلها حيرة وذل، لقد كانت إقامته بالمدينة موسومة بأشكال متنوعة من العار والاعتداء من جانب الأرستقراطية الشيلية. الهوية الغيرية تستمر بين النسل العربي وبين بعضها البعض، حيث ” بشير ماجدلاني وبناته ” يرغبون في الشعور بأنهم ينتمون فعلا للطبقة الأرستقراطية الشيلية انتماء تاما وكاملا غير منقوص، رغم أنهم من الوافدين الجدد، متنكرين بذلك لهويتهم الفلسطينية التي وفدوا بها إلى بلاد المهجر، ورغم ذلك لا ينالون مرادهم كاملا إذ يظلون هدفا للاعتداء واللعنة من جانب القطاعات المختلفة للبرجوازية المحلية الكبيرة.   

     كاتب فلسطيني آخر هو ” خايمي هالس ” كان له إسهام في السرديات الأدبية التي اهتمت بوجود العرب المغتربين في أمريكا اللاتينية، ففي روايته ” المغترب ذو العينان اللامعتان ” تظهر بكل وضوح وجلاء مكونات وعناصر الواقعية السحرية التي تفيض جمالا، وتقطر فنية، وتشع لمعانا، هذه الرواية تمزج بين الحديث عن وصول المهاجرين العرب وإقامتهم وخصائص مرتبطة بطبيعة الشخصيات، وبين الطرح القدري الكامن في ركوب مخاطر مغامرة الهجرة، والسفر والانتقال إلى بلاد مجهولة، ويتبين هذا بوضوح في شخصية المهاجر العربي الفلسطيني ” يوسف ” الذي أصبح ” خوسيه ” عندما وصل إلى ” الشيلي “. في هذه الرواية عمق شعري، وجمع بين الفضاءات الساحرة، الجميلة، والمربكة، ويتكون النص السردي من واحد وعشرين فصلا، ويحب ” خايمي هالس ” كثيرا مزج مجريات الرواية وأحداثها بأبعاد استشرافية مستقبلية فيها تطلع وتنبؤ، لها علاقة بكلام وشرح لورق اللعب والتنجيم ” التاروت “، الذي كان ” خايمي هالس ” مغرما به، ويمارسه في حياته اليومية، وقد ربط بينه وبين سراب مصير ” يوسف / خوسيه “. لقد جعل المبدع مجرى السرد متعدد الأصوات بتعدد الشخصيات، ومركز الحكي في الرواية الذي يقدم صورة مقنعة عن العربي المهاجر يكمن في السؤال الوارد في النص: ” لماذا جئت إلى هذه الأراضي؟ “. وتترى أحداث الرواية حيث يحكي السارد مختلف أطوار حياة وتحرك ” يوسف / خوسيه ” في  بلاد  ” الشيلي وفلسطين “… لقد قدم الأديب صورة عن المهاجر ” يوسف / خوسيه ” مختلفة نوعا ما عن صورة غيره من العرب المهاجرين، إذ إن هذه الشخصية لم تهاجر من فلسطين بسبب الجوع، أو الخوف، أو الاظطهاد، أو المتابعة، وإنما هاجرت مغامرة مندفعة وراء قدر ضاغط يدعوها لاستشراف آفاق جديدة تكمن في اكتشاف بلدان أخرى، وعوالم جديدة.   

     ” لويس فياض ” واحد من الروائيين الذين قدموا صورة عن عرب المهجر في منتجهم السردي. ولد الأديب في مدينة ” بوجوتا ” سنة 1945، وهو من أصول لبنانية، في روايته الرائعة ” أقرباء إستر ” يقدم بعض الإشارت القليلة للوجود العربي في كولومبيا. تتحدث الرواية عن عربي مهاجر يدعى ” نومار محيد ” ابن أخ ” إستر ” المتوفاة… إن الصورة التي عكستها أحداث الرواية تدل على كره الكولومبيين للمهاجرين الأجانب ” الأتراك “، ويرفضون اعتبار أنهم أصبحوا من أبناء البلد، والصورة تدل على توجه إقصائي، فيه نبذ ورفض للاعتراف بمفهوم الانتماء، ولذلك تكرس الرواية نظرة تؤكد أنه مع وصول السوريين واللبنانيين والفلسطينيين الأوائل إلى كولومبيا واجهوا عالما: ” كان يعاملهم كمواطنين من الدرجة الثالثة “.

     أما الأدب المكسيكي فقد كان زاخرا بسرديات كثيرة تفاعلت مع موضوع عرب المهجر لأدباء من أصول عربية مثل ” هيكتور آزر ” و ” باربارا جاكوبس “، ثم يبرز كذلك اسم لأديب عربي مكسيكي مرموق هو ” كارلوس مارتينيث أسد “، روايته  التي احتفت باهتمام بقضايا العرب المهاجرين في المكسيك ” في الصيف، الأرض ” حكايتها تتحرك ضمن زمنين، وذلك ارتباطا بموضوعها المتمركز حول البحث عن الأصول والبدايات من جانب حفيد رجل لبناني، أثار جده حماسه لزيارة أرض أسلافه وأجداده، وتتكامل الصورة عندما تعمل الرواية على الجمع بين أرضي المهجرين المكسيك ولبنان، وعبر هذا الجمع تتضح الصورة التي تؤكد على ضرورة معرفة الأحفاد لأرض أجدادهم بماضيها وتاريخها وحاضرها لكي تكون تلك المعرفة جسرا لتوطيد عرى الانتماء والاندماج في أرض المهجر.

8– ظهور متنوع: ” التركي ” في رواية ” حفلة التيس “:

     وجود عرب المهجر في جمهورية ” الدومينيكان ” تميز بالتأريخ لوجودهم ضمن السرديات الأدبية من طرف الكاتب البيروفي المتميز ” ماريو بارجاس يوسا “، الذي حصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1910، في روايته ” حفلة التيس ” يحتفي الأديب بموضوع حاكم ” الدومينيكان “، الديكتاتور ” رفاييل ليونيدس تروخييو ” ومظاهر الإعداد لحفل إعدامه. هذه الرواية التي تعد ضمن الأدب المستلهم للتاريخ عمل الكاتب البيروفي فيها على الاحتفاظ بأسماء الشخصيات كما هي في الواقع المعيش، والشخصية العربية التي وظفها صاحب نوبل في روايته ” سلفادور إسترييا سعد الله “، وهي شخصية واقعية عرفت في الرواية باسم اشتهر كثيرا في أمريكا اللاتينية ” التركي “، كان من ضمن الرجال الذين يشرفون على إعداد المشنقة لإعدام الطاغية. الأديب البيروفي تلاعب بهذه الشخصية العربية، وفكك حضورها في المهجر من خلال تصوير ماضيها اللبناني الذي كان ” سلفادور ” مرتبطا ببعده الإثني رغم عدم تمكنه من التواصل مع سائر أفراد عائلته اللبنانية، هو فقط استطاع التعرف على أسلافه من جهة أمه التي كانت تنتمي لسلالة عرب المهجر من الجيل الأول. لقد ركز الروائي على صورة الإحباط الشديد الذي كان يعاني منه ” سلفادور ” في إحساسه العدمي بكونه لن يستطيع أبدا الحصول على فرصة زيارة موطن أسلافه لبنان، ليظل شعوره بالغربة والحنين ملتصقا دائما بوعيه الباطن.

     رغم أن مؤلف الرواية المكسيكية ” السيد سيمون اللبناني ” الأديب ” جييرمو سانتشيث دي أندا ” ليس من عرب المهجر إلا أنه كان يقيم معهم علاقات وطيدة ورائعة. تنتظم الرواية حول موضوع تتبع أجيال الهجرة وسلالاتها، وهي تحتفي بالشخصيات العائلية ” سيمون سلفادور أيوب “، وابنه المهندس ” جميل سلفادور جاهد “، وحفيده السياسي ” سيمون سلفادور بيدروثا “، والرواية عبارة عن حوار صحفي شيق بمنهج تتبعي دقيق يعطينا فكرة جلية عن الحركة الكبيرة لهجرة اللبنانيين، والفلسطينيين، والسوريين، والمصريين، والأردنيين، واليمنيين، وكثير من الجاليات العربية الأخرى. في الرواية نجد الشخصية ” سيمون سلفادور أيوب ” يدعونا لمعرفة أسباب هجرات اللبنانيين من أجل التجارة والاستقرار، بالإضافة إلى إثارته الحديث عن العلاقة بين أرض المهجر وأرض الأجداد عن طريق توظيف الروائي لتقنية الحوار بين ” سيمون ” والمحرر الصحفي ” سيلفيريو أراندا “… يقول ” سيمون سلفادور أيوب “: ” كما قلت لك، الوضع الاقتصادي كان صعبا، ولم يكن في وسعنا الحياة، فالحقول أتلفت رغم أننا نبذر نفس البذور منذ أجيال، ومع مرور الوقت صار الحصول على الحصاد أصعب. من جانب آخر، كان الأتراك الذين استولوا على كل هذه الأراضي لتشكيل الإمبراطورية العثمانية التركية، يعاملوننا بسوء، ويطلبون منا الإتاوات… “.

مقالات من نفس القسم