أحمد الحلواني
يقدم لنا الناقد والقاص أمل سالم مجموعة قصصية هامة وثرية بعنوان “الرابع عشر من برومير” والصادرة عن الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، وضمت بين دفتيها ثمانية قصص متنوعة الأغراض والموتيفات، كالغزل والحب والموضوعات الوطنية والرومانسية والإنسانية والوجدانية، وكأن عين الناقد لم تتخل عنه فطرحت أزمة الإنسان في كل حالاته بعمق شديد لتصيبنا الدهشة لأنها العمل الأول له.
الإبداع في الأساس انحراف عما هو قائم، والحقيقة أني حين بدأت قراءة هذه المجموعة أخذتني الحيرة والالتباس، ليس معنى الالتباس هنا الغموض أو الميل نحو التلميح أثناء البوح، بل في نزوعه نحو كسر المنظومة التقليدية للكتابة، مستخدما نوعا من الخطاب المزدوج أثناء التعبير، وإن كان يزداد تعقيدا أحيانا، أو تكثيفا أحيانا أخرى، مما يعكس انشغالاته وهواجسه المتعددة والمختلفة في آن واحد، وفي هذا أراه يراهن على القارئ، ويسعى إلى أن يخلق قارئا يجري عليه نوعا من التأثير المختلف.
تسحبنا المجموعة دون أن ندري إلى عوالم متنوعة ما بين الإرهاص النقدي الفلسفي والبناء القصصي الذي استخدم فيه كل التقنيات السردية…، فيرسم لنا عالما متوهجا بالمتعة التي لا تُسلِّم نفسها بهدوء للقارئ، بل تسحبه معها ليلاطم أمواج الحياة، أو بمعنى أدق دواخل النفس البشرية، المجموعة صدرت بمقدمة للناقد الأستاذ الدكتور محمد شبل الكومي، رئيس جامعة مصر الدولية، وعميد كلية الألسن الأسبق، والذي أضاف لنا أبعاد كثيرة يجب النظر لها بعين الحسبان عند قراءة هذه المجموعة.
ورغم أن الكاتب ليس بشاعر إلا أن قصصه تقفز من واقعيتها لتنجرف نحو تقلب شعري عفوي سلس متدفق يمس شغاف القلب، وينطلق متوغلا إحساسا بالذاتية وعذاباتها الروحية، بلغة جذابة رفيعة، وأحيانا صور شعرية فاتنة، وفق هرمونية من البنيوية والدلالية.
وفي كل قصصه لا يتنازل الكاتب عن دوره كانسان لا يدافع عن حريته فقط، بل عن حرية كل البشر الذين يعيشون معه على نفس الأرض، لكنه من جهة أخرى يعيش حيرة لا مثيل لها وهو يواجه الأشياء، الواقع، العالم، البشر، التاريخ، وثمة ما لا يفصح عنه حين يجد نفسه محاصرا في ذاتيته.
يرى “جان بيليمان نويل” الناقد الفرنسي بأنه يجب قبل تحليل أي نص، التسليم بأن لكل نص أدبي له “لا وعيه”، أي يكون صادرا نتيجة خطاب لا واع، لذلك فإن قراءات التحليل النصي تبدأ من اللاشعور وتنتهي بالنص، وكأنه فنّ تفكيك حقيقة ما في التجربة الإنسانية من تهويمات ملغزة.
وقبل تجولنا في هذه المجموعة الرائعة أو محاولة فك رموزها نتوقف عند العنوان باعتباره عتبة تؤثر حتما في تأويل النص الدرامي، فما هو ” الرابع عشر من برومير” برومير هو (شهر الضباب) وهو من الشهور التي استحدثها التقويم الجمهوري الفرنسي، وفيه قام به الجنرال ناپليون بوناپرت بانقلاب على مجلس الشعب أو أعضاء الخمسمائة، الديركتوار، لتحل محله فرنسا القنصلية.
فماذا أراد الكاتب حين وضع هذا العنوان المدهش لمجموعته القصصية، هل يحيلنا نحو الصراع الطبقي، أم للضباب الذي يرافق هذا الشهر، أو تلك المجموعة التي نحاول تلمس الطريق أثناء قراءتها وتستحق أن نستكشف كنوزها ومغزاها.
ولقد حاصرني الكاتب في عالمه الخاص، وجذبني معه لدنيا لا نرى من ضفاف معالمها إلا ألوان رمادية وشعور بالانسحاق في تجارب حياتية مملوءة بواقع كاذب تخرج من هوات سحيقة غير معلومة، ظلال من البشر يقفز على أجسادهم ليقارب لنا ما يريد من رسم صور لواقع مغاير أو وعي زائف، والحقيقة أردت أن أكتب عن كل قصة من المجموعة ما يفيها حقها ولكن لضيق المساحة كان من الصعب لذا عذرا عن التقصير.
وإذا ألقينا نظرة سريعة على القصص المتنوعة في المجموعة نجد أن “قصة فصام” يبدأها بمقطع “اليوم عاد كأن شيئًا لم يكن…” قصيدة نزار وغناء نجاة الصغيرة وكأنه يلقي لنا بعتبة نصه البديع، فما هو الذي عاد وكأن شيئا لم يكن.
وهي قصة شخص أصابته حالة نفسية مما استدعى دخوله مصحة للأمراض النفسية والعصبية، وكان تشخيص حالته هي ما أسموه “الاكتئاب ثنائي القطب”، وهو قد يتدهور ويؤدي إلى الشيزوفيرينيا -اضطراب نفسي يتسم بسلوك اجتماعي غير طبيعي، وكأنه منذ القصة الأولى بل منذ اللحظة الأولى يذكرنا بالفشل في تمييز الواقع.
أما في قصة “ذاكرة الموتى” تبدو حالة الميتافيزيقيا جلية، فهو يتكلم عن تلك المرأة التي قابلت رجلا في المقابر يصفه الكاتب أحيانا بأنه خيال مآته، وأحيانا أخرى خيال الظل، فتعلق بها وقررت اصطحابه معها للقيام بزيارة أولياء الله، وحين كانت تطوف بالأضرحة كان هو يطوف معها ولها، حيث التماهي بين الرغبة الجنسية والمشاعر الدينية، وحين انتهت الزيارة أفاق من غفوته، لم ير نفسه إلا وهو يطوف في مقصورة خالية وقد اختفت المرأة، ويبدو جليا الالتباس هنا فهل تلك المرأة وهم أم حقيقة، وكما يقول في نهاية القصة واصفا إياها “لابد أن تكون شاهد قبر” أو حجرا كبيرا من الأحجار التي تسد فوهات القبور”، مما يضعنا أمام سؤال ملغز، فمن هو الرجل ومن هي المرأة، وما رمزية الطواف أو الإسقاط الذي يهدف إليه.
وفي قصة “مساحة السلالم” ينظر للحياة كأنها امرأة لعوب، يبدأ القصة بالكلام عن بهجة العيد، وصنع الكعك، بل يستخدم مقطوعة شعرية من ديوان المسحراتي لفؤاد حداد، وتتصارع أفكار البطل الذي تعرف على امرأة لعوب تقيم في بيت أمها ومعها أختها وابنتها، ممنيا نفسه الاختلاء بها عقب الإفطار في يوم من أيام رمضان، وفي تلك القصة يتلاعب على فكرة الجنس والتحرش بين الطفلة ذات السادسة والأم والخالة.
وفي قصة “صدى الذبول” يساوي بين البشر أو الناس وبين الأكل الذي نأخذ منه عناصره المفيدة ونخرج ما لا نفع منه كفضلات، وكأنه يلقي لنا إشارة بالتخلص من النفايات البشرية التي نواجهها في الحياة، وهي نظرة وجودية بحتة.
أما في قصة “قميص رجب” هذا الإنسان البسيط الذي كل أمانيه أو حلمه ارتداء صديري ليشعر أن لذاته معنى ووجود، فيجاهد ويدخر حتى يستطيع في النهاية الحصول على هذا الصديري الذي حاول جدود جدوده الحصول عليه بلا فائدة، وفي النهاية نراه عضوا نائما في مجلس الشعب مرتديا الصديري، كإحالة لمفارقات الحياة، وواقع الكثير من نواب الشعب.
أما في قصة “الرابع عشر من برومير” فيقدم شخصية أستاذ الجامعة من منظور نفسي وجودي سارتري؛ حيث يرى أن الحياة هي شعور بالغثيان، ويتخذ من المرأة في حالتها الحرجة “العادة الشهرية” معادلا موضوعيا لذلك.
وفي قصة “منى” فقد وقفت حائرا أمام العنوان، هل هو يقصد الموت، أم يقصد اسم البطلة التي يتلبسها روح الحمام الغزار، الذي يطلقون عليه الحمام الغوَّاء لأنه يصاحب الحمام الغريب حتى يجعله يحط معه في العشة.
وفي قصة “وجه واحد لوطن كثير”، لا أراها قصة بقدر ما هي لقطات سريعة بين المناجاة والشعر وطرح الأفكار الفلسفية بشكل مكثف سريع، ففي حرفوش يتكلم عن “نجيب محفوظ ورحلته التي اعتادها يوميا.
وفي الرحلة هي الحياة المخادعة المخاتلة، هي رزنامة الزمن التي تخلع ثوبا وراء ثوب إلى أن يأتي الموت.
أما في عبث فتدور بين الصياد والحمامة التي تظن بأنها حين تتجه نحوه مباشرة سيختل “يرتبك واقعا في غرامها” منتظرة أن تتحقق “هزيمته المشتهاة”
وفي صدفة وشرك، وتعادل، وسحابة، وغروب موتيفات تلعب على الشعر والنظرة الفلسفية التي تلقي الضوء على “لا وعي” الكاتب بمعنى أن هناك أشياء تفكر بداخل الأنا وتوجه أفعالها دون حتى أن تحاط علما بحدوثها.
وفي قصة الحدث يتلاعب بالحروف وللحروف أسرار تكمن في كل حرف، ونعلم أن لكل حرف رقم معين، يلتقي الطفل بصديقته التي صعدت فجأة في “الباص”… فينطق باسمها “م.ر.ي. م”، مريم هو اسم أصله أعجمي عبري، ومعناه في لغتهم العابدة خادمة الرب.
وفي النهاية فإن تلك المجموعة الأولى لأمل سالم تنبأنا أننا أمام مولد مبدع واع ذو ذائقة خاصة يختلف كثيرا عن الكتاب الآخرين.