قراءات الصيف: عبر منظار الفيزيولوجيا

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فارس الشوك

الميل الأدبي ليس تزجية للوقت، وليس رياضة، ولا لعبة راقية تمارس في أوقات الفراغ. إنه انكباب حصري وإقصائي لما عداه، وشأنٌ له أولوية لا يمكن أن يقدم عليه أي شيء آخر، وعبودية مختارة بحرية تجعل من ضحاياها المحظوظين عبيداً.

ماريو بارغاس يوسا

قراءات الصيف

قراءات الصيف… حسنا إذاً، أشعرُ هنا أنني إزاء لِعبة كونديرا المُحبذة في رواية الخلود؛ التصنيفات. لمن قرأَ الرواية سيذكر الفصل الذي قدم فيه التشيكي بوفيه من أنواع الخلود، أذكر الخلود الشاسع والخلود الضيّق، أيضاً الخلود الآخروي والخلود الدنيوي، كذلك الخلود الجديّ وخاصة الخلود المضحك. بالنسبة لي أن نقول قراءات الصيف أو قراءات الشتاء فهي مواصلة لهذه اللعبة، غير أن الأولى ذات معنى والثانية حسب رأيي ليست كذلك، وأن المستفيد الأكبر فيها هي دور النشر التي تُقدم بداية كل صائفة جديدة باقة من القراءات لقرائها الأعزاء. هل هذا سيئ؟ قطعا لا، لا أجزم شيئا، فأنا المُتلصص الأكبر على صفحات دور النشر هذه، التي يُمثل شعار القراءات الصيفية لها التوقيت المناسب للإعلان عن إصداراتها الجديدة دُفعة واحدة أو الدفع بباقة قراءات من إصداراتها السابقة، هذا إلى جانب أن الكثير من القراء حول العالم يقومون بإعداد لوائحهم من القراءات المُخصصة لأشهر العطلة ونشرها على حوائطهم الفايسبوكية ثم تبادلها مع بعضهم البعض فيم بعد. يعتقد جزء مني أن هذا أمر جيد بخصوص الصحّة العامة للقراءة هنا في تونس، إذ أنها فرصة مواتية لينخرط القارئ أخيرا في تتويج الكُتب بأوسمة الإستحقاق الصيفي بعيدا عن لجان المسابقات والجوائز العالمية, ولكنّه رغم هذا أجد أنه من الغريب أن أغلب هذه اللوائح والباقات التي تعترضني تكون في العادة مُتعلقة بقراءات “خفيفة” سواء على مستوى دسامة المواضيع أو الحجم, وقد بدأت أظن أن التقليد الآن سائرٌ حول هذه الفكرة بقوّة، فما أن تقول قراءات الصيف حتى يفرش الجميع عليك قراءات خفيفة كمن يُسلمك أوراق اللعب بخفة ورشاقة، وشخصياً يجعلني هذا أتغاضى عن لِعبة التصنيفات وعوضا عنها أُحاول إقتحام لِعبة أكثر مُتعة ونضجا وهي لعبة الفيزيولوجيا المجيدة، فعوض أن ننخرط في قول قراءات الصيف ونُفكر في دلو أو وعاءٍ للكتب أقترح أن نتساءل هذا السؤال:

 كيف يمكننا القراءة في الصيف؟ أو ماذا يدفع القراءة للرقص داخل الحرارة؟

 لا أجزم أيّ إجابة واضحة هنا ولكنني أعتقد أن أجسادنا تملكها، وعن نفسي فأنا أدخل كل صيف بذاكرة بيضاء لأنه وفي كل مرة يكون لجسدي إجابة مُختلفة، وهو ما سأشارككم إياه اليوم، أي كيف أقرأ في الصيف وكيف أهزم الحرارة مُستمعاً لما يمليه علي جسدي، هذا الجسر الوحيد الذي أملكه نحو القراءة.

حالة قراءة تحت الطوارئ

قبل أن أشير إلى تجربتي يتوجب عليّ فعلا الإقرار بأنني أدخل الصيف في كل سنة مُحملا بالتأجيلات الشتوية، أيّ أنني فعلا أمتلك لائحتي الخاصة من القراءات التي لم يتسنى لي الوقت لقراءتها بسبب ضغوطات جدولتي الدراسية، لكنها تكون عادة قائمة إنتقامية من القراءات الضخمة في الرواية والشعر والدراسات الأدبية وغيرهم من الكتب، ولا يحدث أبدا أن أُفكر في أن هذه الكتب صالحة للصيف وليست للشتاء، بل أعتقد أن الأيام تمشي وأنا معها، وهكذا فقط.

لحظة إدراك عظيمة

أذكر أن فكرة الفيزيولوجيا هذه قد بدأت مع بودلير، فهذا الشاعر العظيم كان يهب أمراضه وآلامه مهنة أدبية وهي الشعر والكتابة عموما، ولكنني إلى هنا لم أُفكر أبدا في علاقة الفيزيولجيا بالقراءة إلى أن تعثرت بقصة كتابة مئة عام من العزلة لغابريال غارسيا ماركيز أو غابو كما يحلو لأبنائه مناداته، ربما تعرفونها؟ تلك القصة الشهيرة التي يقول فيها أنه من أجل إرسال مخطوطه مئة عام من العزلة إلى ناشره بالأرجنتين كان على زوجته ميرسيدس بيع جميع الأجهزة بالمنزل ومنها جهاز التدفئة الذي كان يعني لماركيز الكتابة نفسها. إن فهم غابو لفيزيولجيته الأدبية مكنته من تحقيق نجاح أهم كتبه، وفي الحقيقة إن هذا تماما ما أعنيه بكيف يمكننا القراءة في الصيف، فمثل ماركيز الذي لم يؤجل كتابة مئة سنة من العزلة لفصله المفضل “الصيف” وقام بكتباتها في فصل الشتاء على المدفأة، فأعتقد أننا كقراء بإمكاننا فقط التقاط الكتاب الذي نفضل قراءته ونجد الحالة الجسدية المواتية لقراءته، إما إلى جانب المُكيّف أو على السطح في الليل أو على البحر أو ربما على قارعة الطريق مع الساعة الواحدة بعد الزوال إن كان ذلك ما يمليه جسد أحدهم عليه، فكما سبق وأخبرتكم لكل قارئ رقصته الخاصة، و ما عليه سواء اتباع خطواتها.

كروموسومات القراءة

أُفكر غالبا لأننا مُجتمعات لا تملك تقاليد عريقة في القراءة على المستوى الجمعيّ، فإننا نفكر كثيرا في قراءات الصيف ونحتفي بها حتى قبل قراءتها، والحالُ أنه علينا أن تكون القراءة كنمط حياة لا أكثر ونحاول بناء جيل من القراء البارعين ثم فيما بعد بإمكاننا الحديث عن قراءات صيف تتكون من المنهج لإدغار مروان والحياة والمصير لغروسمان، ولكنني مع ذلك أُفكر أن صناعة الحدث بشعار القراءات الصيفية قد يؤدي بنا ربما إلى مرحلة أكثر إشعاعا وتفاؤلا، أرأيتم؟ لازلت هنا أفكر بذلك بشدة، أعتقد أنني أملك نظرتي الخاصة حول هذا الموضوع وقد حسمتها، ولكنني مع ذلك في تفكير أبديّ حول تلاؤم هذه النظرة مع الجميع، وهو في النهاية ما سيكشفه الزمن. أتذكر ذات صائفة مشهدا لولا وجود أحدهم معي لاعتقدت أنه حلم أو هذيان مني. أتذكر هؤلاء السياح بمدنية المهدية على الشاطئ وجميعهم يُمسك كتابا ويقرأه. كانوا قرابة الأربعة مئة شخص تحت المظلات أو على الشراشف يستمتعون بحمام شمس لذيذ بينما الكتب ترقص في الهواء بفعل موجة الحرارة التي تؤثر على رؤيتي من بعيد. كان مشهداً بديعاً، ولم أفكر للحظة واحدة أنهم قد أحضروا المكتبة العمومية إلى الشاطىء، فهذه فكرة مملة، بل أعتقد أن هذا نمط حياتهم ليس إلّا، وأنهم لا يحتاجون تركيزا عاليا خلال القراءة فقد كانوا يتصفحون الكتب برشاقة بين عملية غوص وأخرى. ومن هنا كانت أول مرة فكرت فيها بأنني قارئ شاطئيّ.

سخاء الضوضاء

ولكن ذلك لم يسر جيدا، فبعد خمس محاولات للقراءة على الشاطىء وجدت نفسي لا أهدر سوى الوقت والجهد. كنتُ أذهب إلى الشاطىء القريب مع الغروب، أي مع انخفاض درجات الحرارة، ولم أكن آخذ معي كتابا على غلافه مُلصق كتابٌ للصيف، بل كنتُ ألتقط ما أريد قرأته وفقط، كنتُ أختار مكانا هادئا على البحر، أبتعد عن السواح والزوار وأختبىء بين الأحجار ثم أبدأ في القراءة. كانت كل هذه المحاولات فاشلة، وكنتُ لا أستطيع القراءة بالمنزل خلال اليوم سواء كان المُكيّف يعمل أو لا، وذات مرّة كنتُ على الشاطىء من جديد، وهذه المرّة لم تكن القراءة مُخططٌ لها، كنتُ أفكر فقط بالسباحة قليلا ثم العودة، وأذكر أنه يوم حار للغاية وقد كان الشاطئ مُمتلئ جداً حين كنتُ على ظهري استمتع بمشاهدة زرقة السماء وصوت تدفقات الأمواج وضجيج الزوار الحُلو.

حينها تكلمت معي فيزيولوجيتي وقالت:

 مرحباً، لنقرأ شيئا.

 ماذا اكتشفت هنا؟ اكتشفت أن عقلي لا يعمل في الهدوء ويحتاج إلى درجة ديسابيل مُعينة حتى أشعر بالقراءة, وهكذا صار بإمكاني القراءة في المقهى أو على الشاطىء أو في الحديقة مهما كان اليوم حاراً، وأن الهدوء في حالتي يعني مساحة واسعة لتكلم الحرارة.

جسدية القراءة

هذه الصائفة كنتُ أعقد آمال كبيرة للقراءة صباحاً، خاصة وأن يومي كان يبدأُ مُبكراً جداً، وفي الليل أنشغل بالعمل على الكتابة، ولكن دعني أخبركم بالأمر… لم يسر شيء من هذا بسبب الأرق، وكان لجسدي كلمة أخرى وتوقيع خاص حول هذا الموضوع، فما ان كنتُ أستفيق بعد ساعة أو اثنتين من نوم متقطع اجد نفسي أمضي اليوم كله في محاولة للتحرر من الإحساس بالتحنط الذي يستعمر كامل أطراف جسمي البعيدة بداية من ذهني، ولا أتمكن فعلا من القراءة إلا بعد الساعة الثالثة مساءً حين أشعر بالتحسن. كنتُ قد جربت خدعة الضوضاء ولكن من دون فائدة وقد بدأت فعلا أشعر بالإحباط، وقد خططت منذ دخول العطلة لحصر ثيمة المُخدّر عبر القراءة وذلك عبر أربعة كتب وهي الفراديس المصطنعة لبودلير، وعن الحشيش لفالتر بنيامين، وتقرير عن سعادة مدمن المورفين لهانس فالادا ثم تتبع تأثير الحشيش على حياة هرمان هسّه. كنتُ اقرأ بمعدل ضعيف للغاية وسط أوقات ضعفي الجسدي وتمسكت بالمواصلة حتى وأنا لا أرى أي تقدم أو نتيجة مطلوبة، وبدأت في الإعتقاد بأن الأمر سيأخذ مني الصيف كله إن واصلت على هذه الوتيرة، إلى حين جلست إلى جسدي وقلت:

حسناً، ماذا تريد؟

كان يريد الشعر صباحا ثم بإمكانك قراءة ما تشاء بقية اليوم، وهكذا نجح الأمر رغم تقليصي لساعات الكتابة ليلا، ولكن ماذا أقول، عليّ العمل معا هنا، وقد نجح ذلك. اكتشفت هذه الصباحات أشعار ناظم حكمت العظيمة وفعلا ياله من شاعر فذّ وعظيم، وللأسف لم يشهد أبدا إعادة تسلم جنسيته التركية وإعادة الإعتراف به بعد ان أمضى حياته بين المنفى والسجن. كانت أثار الأرق والإرهاق تتداعى على كل شيء آخر وسط اليوم، المشيء، الحديث، الأكل وحتى التفكير، ولكن ليس على الشعر. كنتُ نشطاً جداً في القراءة وكنتُ مستمتعاَ للغاية حتى الضهيرة. في الضهيرة كنتُ أنتقل إلى حالة من الإنتعاش الكليّ وأنطلق في القراءة حول المُخدر وقد انتهيت منها بعد ذلك في غضون أسبوع.

 كان بيسوا يسعى لمُضاعفة الوجود عبر أنواته الأخرى ألبرتو كايرو ودي كامبوس وريكاردو ريس، إلّا أنني بعد القراءة حول المُخدر من خلال الكتب السابقة التي أخبرتكم عنها فقد إكتشفت أن هذا المُستهلك أيضاً يتحول لانسان مُضاعف كما يحلو لبودلير تعريفه، واكتشفت أن الإنسان المُضاعف يختلف بين راع للأغنام وفنان، فراعي الأغنام تحت وطئة المخدر لن يرى سوى أغناما مضاعفة، أما الفنان أو الشاعر فسيتعرض إلى مضاعفة شعرية من نوع آخر، ففالتر بنيامين في كتابه عن الحشيش يقول أخيرا تمكنت من فهم إدغار آلان بو وهو يحكي عن عديد الانطباعات الأخرى لمضاعفة عواطفه وخيالاته الكونية. أرجو هنا ألّلا يساء فهمي، فأنا لا أتماهي مع كل هذه الأفكار داخل القراءة ولا اشجع على استهلاك المُخدر، ويبدو أننا اليوم نعاني من هشاشة نفسية كبيرة كما يفسرها بيونغ تشول هان ولا نريد منها ان تصير مُضاعفة، وحتى أن هؤلاء الكتاب لا يفعلون ذلك فبودلير يعتبر أن المستهلك للحشيش والأفيون بعد التقاءه بألوهيته سيصيافح شياطينه في نهاية الأمر، وفالتر بينامين أغلب إنطباعته عن الحشيش والافيون كانت ضياع داخل أبدية من العدم، أما هانس فالادا فكتابه عن سعادة مدمن المورفين كفيل بأن يجعلك لا تحاول التفكير في ذلك أبداً.

 ما أريد قوله هنا أنني أعترف بجسدية القراءة سواء في الشتاء او في الصيف وأنني عبر فهمي لذلك ساتمكن من الشعور بأنني قارىء مُضاعف.

هل أعرف الجلوس جيدا؟

كان نيتشه مشاء عظيما، وكان يحب التفكير أثناء المشي، والمشيء أثناء التفكير، ولم تكن الكتابة سوى استراحة خفيفة. هذا الرجل لم يكن يكتب باليد فقط، بل كان يكتب بالقدمين كذلك، وقد كتب أهم كتبه الفجر وزرادشت وهو يمشي، وفكر في فكرة العود الأبدي من خلال المشي المتكرر لعشر ساعات في اليوم وبسلك نفس الطريق مرار ومرارا، وحتى وهو يحتضر كان يردد فكرة المشي، وقبل هذا أيضا حين كان الصداع النصفي وألم الظهر ينخران جسمه كان يقتحم بكل شجاعة المشي, إن كُتب نيتشه هي تعبير عن فيزيولوجيته النشطة وكان هو يفهم هذا جيدا ويعي به ويُنظّر له من خلال العديد من الرسائل التي كان يرسلها إلى صديقيه أوفيبرك وكوزليتر.

 ولكن هل يمكننا القراءة ونحن نمشي مثل نيتشه؟

 أعتقد أن من السذاجة التفكير في ذلك…

 ربما قد نستطيع قراءة بعض الأسطر جيئة وذهابا في معبر البيت الضيق ولكن القراءة ونحن في الطريق من سيليس ماريا إلى إينجادين كما كان يفعل نيتشه لعشر ساعات متواصلة من اليوم فهذا مستحيل، بل حسب اعتقادي غير قابل للتحقيق ولا ينفع في شيء، وأضن أننا كقراء نحب أكثر الاستلقاء على الأريكة أو على كرسي مريح أو على الأرض، وهذا  في العادة مرتبط بأريحية كل شخص على حدة، قد نتقاسم هنا فيزيولوجية قراءة مشتركة، ولكن هذا غير دقيق، ما يهم أننا على الأرجح نتفق حول القراءة في مكاننا بينما تجول عقولنا في مكان آخر… ومع ذلك يقدم لنا نيتشه في هذه الحكاية حكمة علينا بالأخذ بها، وهي إن كان الطريق من قرية سيليس إلى جبل إينجادين المتكرر سببا في ابتهاجه للكتابة فماهي طريق الاستكانة الأفضل التي يمليها جسدنا من أجل القراءة!

عن نفسي، في الصيف أفكر أن القراءة على كرسي وقدمي مرفوعة على كرسي آخر، هي الطريقة الأنجع، وأنه بدل السؤال عن ماهي لائحة قراءاتك الصيفية أن نسأل أي وضعية تريحك أكثر للقراءة؟ فكما يقول المثل التونسي “أرقد على الجنب إلّي يريّحك”  أو في حالتنا لنقل إقرأ على الجنب إلّي يريّحك.

التعب والصيف

قد لا أنتهي أبدا من ذكر الحالات الجسدية التي قد تتطرأ على القراءة بالنسبة لي ولهذا سأترك لكم المجال للتفكير في الحالات الخاصة بجسد كل منكم وتفهمها, ولكن قبل ذلك دعني أقترح عليكم هذا الكتاب الذي قد يجعلكم تسقطون داخل أجسادكم كما تسقط عيني دمية إلى الخلف:

“أعتقد أن أعظم أنواع التعب التي لحِقت بي، هي تلك التي استحضرت معها أشخاصاً آخرين”.

يستدعي هاندكه في هذا الكتاب صوت التعب ليكتب به على حد تعبيره قصيدة لا إلى المنتصرين بل إلى المُتعَبين.

يحلل بيتر التعب انطلاقا من الذاتي عبر تقسيم التعب إلى أنواع: تعب طيب وتعب خبيث… تعب في فترة الطفولة يصاحبه شعور بالذنب وتعب في فترة المراهقة يتخلله التمرد والغضب… تعب السهاد وتعب السفر… تعب يوتوبي وتعب أثيري… تعب الشعوب وتعب الفرد… تعب مزدوج يفرق بين الرجل والمرأة وتعب شهواني يجمع بينهما إلى الأبد إذ يقول هاندكه عن هذا التعب الشهواني المشترك في هذا الكتاب الذي لا يُجاوز الخمسون صفحة من ترجمة رضوى إمام عن دار صفصافة ” كنت أمرُ بمحنة شخصية، ومن حسن حظي أنني قابلت شخصا آخر يمر بظروف مشابهة. كانت امرأة كالعادة، ولم تكن المحنة المشتركة هي السبب الأوحد وراء التعب الشهواني الذي جمعنا ببعض. إليكم شروط نجاح العلاقة بين الرجل والمرأة: لا بد أن يجتازا سويا طريقا طويلا وشاقا، وأن يوطدا قدميهما على أرض غريبة، بعيدا عن أي مكان يألفانه. لا بدّ أن يتصديا سويا لأي شكل من أشكال الخطورة، أو أن يواجها معا فترة طويلة من الارتباك، على أرض العدو التي يمكن أن تصبح في نهاية المطاف وطنا لهم. فذلك التعب الذي يحل عليهما بعد أن استقرا في الملاذ الجديد، من شأنه أن يوحدهما بطريقة طبيعية وحميمة، لا تضاهيها أي علاقة أخرى، حتى وإن لم تخل من مشاعر الحب” كأنهما يتبدلان الخبز والخمر” هكذا يصف أحد أصدقائي حميمة الرجل والمرأة. أريد هنا أن أغير إحدى العبارات التي جاءت في أحد أفلام المخرج الانجليزي ألفريد هتشكوك، على لسان الممثلة السويدية إنجريد برجمان وهي سكرانة، وتحاول أن تغازل الممثل الأمريكي كارل جرانت، الذي تملّكه التعب، خيث قالت له: ” امرأة سكرانة، ورجل مُتعَب، سيقيمان سويا علاقة ناجحة”. والآن إليكم لمستي في هذه العبارة: “امرأة مُتعَبة، ورجل مُتعَب، سيقيمان سويا أنجح علاقة” وبالمناسبة، يروقني كيف أن اللغة الاسبانية تستخدم كلمة واحدة لتحمل معنى “معك” وهي كلمة contigo، فيما أن في اللغة الألمانية تتكون من كلمتين Mit dir. أيضاً، لماذا لا نقول: لقد “تعبت معك” بدلا من “لقد تعبت منك”؟.

..

في 23/07/2024

مقالات من نفس القسم