هذه الأبيات كتبها الشاعر “لاي بو” لصديقه الشاعر “تو فو”. ولا أحسبها مجرد مصادفة أن تكون أبجديةُ الموسيقى قريبةً للغاية من أسماء هذين الشاعرين.
لاي بو. شاعر صيني تكاد حياته نفسها أن تكون قصيدة طويلة. ولد حوالي عام 701 ومات حوالي عام 762. وبين العامين تجول في ربوع الصين، وفي قصورها وسجونها، هجرته زوجاتٌ ثلاث لم تحتملن عيشه البوهيمي، الذي أودى به في النهاية إلى الاشتراك في ثورة، انتهت به إلى السجن، حيث حُكم عليه أولا بالإعدام، ثم تم تخفيف الحكم إلى الأشغال الشاقة.
قبالة دن النبيذ
من الشرق تأتي رياحُ الربيعِ
وتمضي سريعا
تخلِّف في نبيذ الإناء الذهبيِّ موجًا رهيفًا.
والزهر يساقط زخات زخات يجتمعن بلا حصر.
أنت أيتها الفتاة الجميلة،
يا من لها نفس حُمرة النبيذ،
ووجهٌ من الورد بل هو أزهى وأنضر.
إلام سيبقى شجر الخوخ والبرقوق مزهرًا
بجانب البيت المدهون بالأخضر؟
آه كم يخدعنا النورُ سريعُ الزوال
ويمضي بنا مسرعا إلى حيث تَهِن خطانا.
فانهضي وارقصي تحت هذه الشمس الغاربةِ
فما غربت بعدُ شمسُ شبابِك!
وما الذي يستحق الرثاءَ
إذا ما استحال شَعرُ المرءِ
إلى بياض خيوط الحرير؟
ما أغرب هذه القصيدة! يستهلها الشاعر وهو واقف أمام نبيذه عندما تهب نسمة فتترك على سطحه مويجاتٍ رهيفةً سرعان ما تتلاشى. من أين إذن الفتاة؟ وشجرُ الخوخ والبرقوق، والشمسُ الغاربة؟ وكيف لشخص عاش هذه الحياة الصعبةَ التي عاشها “لاي بو” أن يكتب قصائد محبة للحياة بهذا القدر؟
للألماني برتولد بريشت قصيدة ترجمها الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي، هي عبارة عن سؤال وجواب:
“في الأزمنة السوداء،
أيغني الناس كذلك؟
أجل سيغني الناس
عن الأزمنة السوداء”.
هذه إذن أغنية الشيخ “لاي بو” ـ لا مرثيته ـ للحياة التي انسربت من بين يديه وهو يتبع النور، أراد لها ألا تكون مرثيةً بل احتفالية بجمال الحياة. فما أن يرى تموج النبيذ حتى يرى الحياة نفسها، في سرعة مرورها، يرى مواطئ خطاه التي تركها للزوال على آلاف الأميال من طرقات الصين ومسالكها، يرى الحياة نفسها في فتاة نَضِرَةٍ نُضْرةَ الطبيعة، فيدعوها إلى الرقص، ليس معه، بل يدعوها أن تقضي حياتها رقصا، لأن اللحظة التي يبيض فيها شَعرُ المرء منا هي اللحظة التي تصبح فيها الدنيا بكل ما ما فيها أتفه أو ربما أثمن من أن يرثيها شاعر.