عمَّار علي حسن
1 ـ الوقت
الوقت ريح هوجاء، برق يسطع، فيخطف الأبصار، وقبل أن تُدركه يغيب، وحين تظن أنه في يدك يتسرب من بين أصابعك، دون أن تراه عيناك، ولا تعرف المكان الذي ذهب إليه. كل الأمكنة مطية للوقت، وإن تباعد بينها الرحيل، وعز السفر. كل قدم حلت على أرض، ترابا كان أو رملا أو حجرا صوانا أو من أسفلت كفحمة الليل، بوسعها أن تقول أين حلت، لكنها تختلف في الإجابة على سؤال: متى حلت؟ فالوقت ليس متفقا عليه بين الناس، وإن ضبطته آلات لا حصر لها: ساعات يد وحائط، وشاشات هواتف وتلفزيونات، هي في كل مكان تطارد الناس، لكن قلة القلة منهم من تعرف الوقت، وتدرك أن سؤال: متى؟ أهم كثيرا من سؤال: أين؟ فكل أين يمكن أن نعود إليه، لكن أي متى؟ لا يمكن الرجوع إليه، فهو ما أن يبدأ حتى ينقضي، يذهب بلا رجعة، فلا ثبات ولا فرصة، سائل هو ينسكب على رمل ساف فلا يمكن جمعه. هواء يكون، يضرب خصلات رأس فتهفهف قليلا، فرحة بطيرانها العابر، لكن لا يمكنها أن تعيد النسمة السارية التي ضربتها وراحت.
الوقت ليس سيفا، كما قال الأولون إن لم تقطعه قطعك، فنحن لسنا في حرب ضروس معه، إنما في لعبة مسالمة، نحايل ونداور ونطمع ونطمح، ونروح ونغدو، ونتوه ونفيق، ونقف ونمشي، ونموت ونحيا، ونهدهده حتى يكون بنا ليِّنًا رفيقا رقيقا، ونهمس له حتى يتلطف علينا فيكون بنا هينا، وينزل من عليائه ليكلمنا، ويفهمنا ما نحن فيه من سيره الطويل، البادئ في زمن لا قرار له، والمنتهي عند حد لا أحد يبلغه، حتى لو خال أو ركبه وهم.
الوقت خمر يملأ الشرايين والأوردة وشعيرات الدم الدقيقة النابضة بالحياة. خمر التخلي والتحلي والتجلي، الذي معه، ينقطع الأمس عند الغد، ويغيب الحاضر عما ندركه الآن. فلا شي ء ذهب، ولا أحد يحط قدميه ويتركها، ولا آخر يهم بالرحيل. عندها فقط يمكننا أن نصطاد الوقت واهمين, نأخذ الدقائق والثواني، ونقبض عليها، ونضعها عند حد التجمد، في آلاف الآلاف تحت الصفر، ونقول عندها: توقف العالم كما نريد. فليبق كل شيء عند حاله، الشوق طوق، والفراق نوى، والأسى انفطار، واللقاء بهجة، والموت يسكن فقط في حكايات الغابرين. وقتها لا يضم الشغف جناحيه، ولا تأكل الدهشة زادها، ولا يريد أحد أن يرمي ناظريه بعيدا عن اللوعة والحرقة التي يكابد منها العاشقون، دون أن يريدوا لها رحيلا.
الوقت حد بين إدراك لحظة ميلاد ذهبت دون تذكرها، وموت يأتي ولا يمكن تذكره. إنه مسافة بين غفلتين، واحدة أتت دون أن نكون لها في يقظة، والثانية نخاف منها، لكننا نعرف أن إتيانها لا مفر منه. بين ما أتى دون أن يكون لنا فيه صنعة، وما سيأتي دون أن يكون لنا فيه يد، يرتخي الوقت، مادا لنا لسانه، ساخرا منا، ونحن لا نملك له صدا ولا ردا، وليس في أيدينا أي سيف لنقطع لسانه المزعوم.
الوقت سَقْطُ، هوة بين هامتين تصعدان من جذع الأرض اليابسة إلى عنان السماء، لكنها ترتفع ولا تنزل، وتنزل ولا تعلو، فما إن نلمح نزولها حتى تموت، وما إن نلمح صعودها حتى تموت، وبين موت وموت يكون الوقت، هو أكثر ما يقتل في هذه الدنيا، بل في هذا الكون، دون أن يصرخ أو يستيغيث، لأنه مخلوق للتحمل والنسيان، يعرف قدره، لكن المجبورين عليه، السابحين فيه، لا يعرفون له قدرا، فإما أن تغرهم الأماني فيظنون طول المقام، أو تطاردهم المخاوف فتجعلهم يقرون مجبرين بأن النهاية قادمة لا ريب فيها.
الوقت فوت، فما إن تفكر فيما فات، حتى تفقد ما هو بين يديك. ولا ينبو في هذا ذلك الذي يسأل شيخه:
ـ أين الحاضر؟
فيجيبه مطمئنا:
ـ إنه قد مضى.
فإن سأله:
ـ كيف؟
لا يجد من يتلقى عن السؤال إجابة، فكل ما في رأسه يعجز عن أن يكافئ ما سمعه من استفهام، لكنه قد يسقط في مجرى الإدعاء، فيقول:
ــ لم نقبض عليه فوجدناه يمر.
والمجيب والسائل يدركان معا أن ما يتحدثان عنه، لا يمكن وصفه، وما لا يمكن وصفه هو فوق طاقة البشر، ولهذا لا يكذب من يرون أن الزمن هو الله، فهو سبحانه، ليس كمثله شيء، ولأنه كذلك، فالوقت شيء من قبسه، وهو في هذه الحال أيضا أكبر من أن يقدر الناس على إدراكه على وجه اليقين.
الوقت فوق الذي يمكن وصفه وإدراكه حتى عند الذين يحصونه في وعي وانتباه، فهم ما إن يهموا أن يعينوه أو يحددوا له تعريفا وتوصيفا حتى يكون قد راح، وأي تعيين له يكون من الماضي، دون أدنى شك. فكل حرف ينطق به العارف والمعرف والمتعارف، لا ينطق به اللسان، حتى يكون قد ذاب في الهواء.
هذا لكلمة “الوقت” نفسها، بحروفها، واحد تلو الآخر، فما بالنا بمدلولها الذي يسيح في الأفق، بادئا بما لا بداية له، ومنتهيا عند ما لا نهاية له.
2 ـ الحال
هبة الله إليه أن يتقلب بلا هوادة. بقلة ترقص فوق نار صافية. يستعر في جوفها شوق، يخطفها من بين قطع الجمر إلى عمق الفضاء. تتأرجح على كف الريح، وسط النور الغامر، لكن حين يسري الليل في أوصال تلك الطيات التي لا نراها بين الأرض والسماء، تسقط البقلة فوق النار، وتبدأ رحلتها من جديد.
حاله مآله، لا يعرف مقرا ولا مستقرا، بين الذهاب والإياب، والإياب والذهاب، تولد وتموت نهارات وليال، وهو على مواعيد مع وجعه المقيم.
يسمعه الناس يصرخ قبيل السحر:
ـ يا ليتني بقيت في المقام.
ثم يتلفت حوله ويقول بملء فمه:
ـ الأحوال مواهب، والمقامات مكاسب.
حين يردد هذا وقت الأصيل، ينظر إليه الجيران من النوافذ مشفقين، لكنهم كانوا قد اعتادوا غيابه في الحضور، جسد يرونه، لكن دمه شارد في أجساد لا يرونها، بل تعبرها إلى أطياف يتخيلونها، ثم إلى خلاء لا يمكن لهم الوقوف عند حدوده المترامية بلا حد.
الحال هو الحال، حزنا كان أو فرحا، بسطا أو قبضا، طربا أو نواحا، تلهفا أو صدا، لكن لا صد عن الطريق، الذي يسير فيه مريد، يجاهد نفسه كي يرتقى في مدارج السالكين.
والسؤال: من ذا الذي يتدرج دوما إلى العلا؟ فبعد كل صعود هبوط، وما تقبض عليه اليد اليوم، قد يتسرب من بين الأصابع غدا، وهكذا البشر، في تغير وحيرة، وفي رواح وغدو، بين خطيئة وتوبة، ونقص ومحاولة اكتمال، غير معصومين ولا مستعلين، ومن يستعلي ينسى، ومن ينسى يضيع.
والناسي ذكَّره مقربون منه، حين سألوه:
ـ متى تركن إلى ما تريد؟
فاهتزت يومها روحه، وكان جسده في ثبات كجدار سميك، وقال لهم:
ـ حين أعرف ما أريد.
3 ـ الرجاء
على أبوابه يقف الخلق جميعا. يعرف بعضهم أو يجهلون، فمن ذا الذي لم ينتظر يوما راجيا، وأمله أن يُستجاب له. ومن ذا الذي لم يسمع يوما همس نفسه، تسأله:
ـ أين الطريق؟
ومن ذا الذي لم ترد إليه الإجابة:
ـ ارجوه بلا انقطاع ولا يأس، تقف قدماك على أول الدرب.
أدركنا منذ الزمان الأول، ثم استيقنا بعد أن رمح بنا العمر، أن عبيد الدنيا يرجون أسيادا من دم ولحم، والأحرار لا يرجون إلا من الروح المطلقة. يقفون أمام خالق كل شيء، خاشعين خاضعين له وحده، وليس لغيره، ولا لشيء، شامخين بقدر ما امتلأت نفوسهم بالاستغناء عما هو عند الناس ولديهم ومعهم، وفي تواضع وطلب وإلحاح لما في يده سبحانه وهو كل أحد، وكل شيء، موقنين أنه يعطي بلا حد، ودون تيه أو مًنٍ أو افتخار أو انتظار رد. وكيف ينتظر أو يتيه من امتلك كل أحد، وأي شيء.
الرجاء هو ذلك التي تلمحه على أكف المتضرعين في خلاء، أو على باب الأولياء، لا يطلبون منهم شيئا، ولا يتخذونهم واسطة أو وسيلة كما يظن الجهلاء، إنما يرونهم أهل الطريق. هم المُثل العليا من البشر، التي عليهم الاقتداء بها.
الرجاء باب يلم شتات الغرباء والمشردين والمطرودين. إنه مأوى لا يزعم أحد من البشر أنه قد أقامه. ليس هو بحاجة إلى جدران ولا خيام على الأرض، إنما كل أوتاده مزروعة في السماء، بينما سنونها المدببة مغروسة في أرض بعيدة، لكنها لا تلحق بالناس الأذى، ورؤوسها المستعرضة تتطامن حين تلمسها النجوم، وتجلب معها كل خير.
وما دمت ترجو بعد توبتك، فأنت مغفور لك، ولو ملأت خطاياك الأرض، شرط أن ترد إلى الناس مظالمهم. وإن لم يقبل الناس عودتك، فلا تبالي، طالما بنيت وبين الخطيئة ألف ميل من جدران ترتخي فوق أكتاف من حجر، وفي جوفها صوان وحديد.
وكيف لا يكون كل هذا الغفران، وقلب من يرجو معلق بمحبوب سيأتي، وفي الرجاء عيش القلوب وكبريائها، وامتلاكها ما لا يمكن لمن يفقتد إلى معنى العزة أن يدركه. فالرجاء من الله شموخ، ومن غيره رضوخ. والذين يقفون على باب الرجاء تراهم في حضرة الطلب من الله ذائبين هاجعين راكعين كأنهم مجرد غيمة تأكلها الشمس، وينبذها الريح.
ما إن يخلو العبد إلى الناس حتى يهزأوا جهرا بكل شيء وأي أحد يسلبهم إرادتهم وحريتهم. قد يهزأون في سرهم، دون أن يجرحوا أي شخص، يهزأون ليس من أشخاص، يلتسمون لهم ألف عذر، إنما من ظروف قادت هؤلاء إلى محاولة التغرير بأهل الرجاء.
ومن يرجو لا يكتفي بالتمني، فالثاني يورث الكسل، حين ينتظر صاحبه ما يأتي، سادرا في شرود أبله، لا يؤتى منه ثمر، ولا تنتظر عاقبة إلا الندامة. ومن يرجو يثق في جودة الواجد، ويرى التحقق بعين المُحقِق، ويلاطف الرب بجيشان القلب، ولا يجيش قلب سليم إلا بالمحبة.
الراجي إن عرف خاف، وإن رجا اطمأن، فيغلب رجاؤه خوفه، لأنه يثق في كريم ودود، يزيد جوده عن شحه، ويفيض يسره عن عسره، حتى لا يكون شحا ولا عسرا.
والراجي يفهم أن المسكوت عنه أكبر كثيرا مما نطق به، والصمت أعلى من أي تعبير، وبسطاء الناس لا يشغلهم شيء من الحذلقة والتيه والتردد والمساءلة والشك والريبة، لأنهم ذهبوا إلى الله من أقرب طريق، ألا وهو: حين تعجز بعد كل تفكير وتدبير فهو في انتظارك.
وكيف لا يكون له هذا، وهو المالك لأي أحد، وكل شيء.
الراجي حتى لو لو يؤمن بأن لهذا الكون الفسيح خالقا، فإنه لا ينقطع رجاؤه، فمن ذا الذي لا يمكنه أن يرجو من بين البشر، وإلا صار غده يومه، وصار يومه أمسه، وصار أمسه عدما. والراجي يدرك أن أي وباء أو اعتداء في هذا العالم له ترياقه. الترياق الأول والأخير هو الحقيقة.
ومن يرجو يرى الجمال بعين الجلال، ويجد كل البهجة في اللقاء، ويلفى كل مشقة في سبيل المحبوب ليس لها وجود. ويفهم أن كل سعة في يد الرحمن لا يمكن أن تضيق، وأن كل ما يرفع الناس أكفهم ضراعة طالبين له، لا يتأتي، لقصور في قدرة من طلبوه، ولا من لبوه، إنما لأن ما بينهم وبينه حجاب لا يدركونه.
صار على من يرجو الله في أيام القحط، ألا يبعد عمن يريد امتلاء بطنه وأهله بأي شيء، وأن يسلك أي نذر يسير، وأن يقطع في سبيل هذا أي درب. ففي أيام المجاعات، لا تعلو لافتة فوق هامات الناس أكبر من تلك التي تقول: “كاد الفقر أن يكون كفرا”، فهي وحدها التي ترسم معالم الطريق، وتفهمنا أن الزهد والاستغناء لا يتحقق إلا بالقدرة على الامتلاك، ثم الترك.
وليس على هذا أن ينكر من رأى في دنيا الناس، أو تخيل هذا، أو استبشر به، أو حتى أطلق كذبة بيضاء، أن أفق الرجاء لا سبيل إلى ضمه أو قضمه أو تحديده أو تعيينه ثم المتاجرة به.
وإزاء كل هذا، لم تبعد رؤية شيخي الطيب عما اعتقدت فيه، فقد رأيته يمتطي طيرا عظيما، لا يعرف البشر له إسما، يمد ساقا على جناح، مكتوب فوقه “الأمل” والجناح الآخر عليه كلمة “الخوف”.
4 ـ الخاطر
لا يخلو إنسان من خواطر، ترد إليه دون إرادة منه، فإن جاءت من الله كانت إلهاما، وأن جادت بها النفس فهي الهواجس، أما إن بثتها الشياطين فهي الوساوس.
من يُلهم يربح، ومن يُوسوس له يخسر، ومن تتصارع داخله الهواجس يسكنه القلق. والإلهام لا يخلو من قلق إن كان في المعرفة، فالذي يعرف يقلق، والمهجوس يقاوم من أجل أن ينعم بالسكينة، فإن جاءته كان له نصيب من الإلهام.
وكم من خواطر سوداء دمرت، وخواطر بيضاء عمَّرت. ومن بيض الخواطر يولد الإشراق، وهو دفقة تجتاح عقول علماء وأدباء فيبدعوا، وعقول أولياء فتكشف لهم الحُجب.
وإذا قال المريد لشيخه: رأيت فيما يرى اليقظان، سيقول له الشيخ: حدثني عن الخواطر. ولأن المريد لا يرد لشيخه طلبا، فإنه سيفيض في شرح خواطره. لكن ليس كل مريد بقادر على فعل هذا. فهناك من يعجز لسانه عن التعبير، ويؤمن أن الصمت أبلغ من الكلام. هناك من تلجمه الهيبة. هناك من يتعلثم، وكأن حروفه قد شدت إلى صخور ضخمة. هناك من ينسى. هناك من يغرق في الخواطر، فيمهله شيخه.
لا يختلف في هذا إن كان الأمر إلهاما أم هواجس ووساوس. ففي الخواطر يتساوى العجز عن التعبير، عند الذين يكونوا مع الله، أو هؤلاء الذين يقفون، على النقيض، مع الشيطان.
5 ـ المحبة
ليس أعمق من يقال إن الله هو المحبة. أمر أبعد من أن يصل إلى كل الناس. فالحب هو النور الأبدي الأزلي الغامر. ليس بوسع أي أحد أن ينتصر على الظلام الذي يعشش في نفسه. النور الذي يخرج من صميم القلب يصل إلى السماء، وحده الذي يجلي لنا الغيب. وحده الذي لا يستطيع أي من يدب على الأرض أن يجليه تماما، لهذا نظل جميعا معلقين به. ستنتهي الحياة لو عرفنا كل ما يخفي عنا. إن لم تنته ستصبح أكثر كآبة. مقبضة إلى درجة لا يمكن معها لأي منا أن يعيش.
المحبة العالية لا تأتي كلها لمخلوق، وإلا توحد مع خالقه. نحن في حاجة إلى إشراقة واحدة من نورها الذي لا ينطفئ، إلى قطرة من محيطها العذب. ما أشرق، وما تقاطر يؤتاه الأولياء، مفرد لا جمع له. من هم دونهم، ينجذبون إلى النور من بعيد، كفراشات عليها ألا تقترب حتى من مصباح واحد وإلا احترقت، فما بالنا بملايين الشموس التي تسطع فيها المعارف والمقامات والأحوال. أما من دون دونهم يبحثون عن المحبة فيما يعرفون، ويا لها من محبة عظيمة.
هذا الذي يجلس عند كل مساء يناجيها هو واحد منهم. هو أنا. تجدني أكتب: أعطاها الله قبسا من محبته التي فاقت الحدود، فصرت لها مريدا. فكيف لي أن أنسى ألقها وروعتها وجمالها الأخاذ، وكيف لا يراد الجمال امتثالا وخضوعا؟ وكيف لي أن أنسى كل شيء وهو سبحانه قد رسم معالمه؟ الطريق الذي سرت فيه حائرا اتطلع إليها في حرمان. وذلك الذي كانت فيه أتوه بما في يديها، وهي تظن أن ما بين قلبي وقلبها لا شيء، وما بين عقلي وعقلها اتساعا يربط السماء والأرض، وزمن لقائنا هو لحظة افتراقنا.
البهاء هي، وأنا الموزع بين طلتين منها، متباعدتين في الزمن، لكنهما متوحدتان في تاريخ فؤادي، تلك أشراقتها، وهذه لا يمكن أن يكون لها مغيب، فهي في الروح لا ينقضي وجوها أبدا. روح كانت عطية من الله، وحرستني أيام الجفاء. حزنت كفاقد كل أحد، وكل شيء. تناسيت، وغلبني التذكر، دون إدراك مني أن الشوق هو الراية الوحيدة المرفوعة بيننا، مهما تقدم العمر، فالألق الذي برق في عيني ، حيت لمحتها للمرة الأولى، أقوى من أن يمر تحت ظلال جناحيه فتى مثلي، هام بأجمل النساء يوما.
شقي أنا، لأني ارتبطت بامرأة من عليين، هي في نظري قد صنعتها أساطير، وجدت على الأرض، وتناقلها الناس أياما فقط، ثم اختفت، وكلما قدحوا أذهانهم كي يستعيدوها، لا تأتي أبدا جسدا كاملا، إنما تجيئ إليهم صورة حبيبتي، وهي واقفة تبتسم، وربما لا يكون سوى طيفها.
العمر ليس إلا مجرد حساب في حال الرجاء، والرجاء عبير بين اتصال وانفصال، وانفصال واتصال، وكيف لا، وكل سهم منها يرتد في قلبي سنبلة ووردة وزهرة تفوح، يتعطر لها زمانها الذي لا يذهب.
لم يدخل سيفي في غمدي، والجسد لم يرفع بعد راية بيضاء، فأشرعه ليقتلني بحد المحبة المصقول. يقتل جسدي المتوثب، لتحيا روحي من جديد بمحبة أخرى، تولد لحظة اندماغ قلبينا، كشرر يطير من انقداح صخرتين صلدتين، فتصر النار نورا، يصعد إلى السماء السابعة.
6 ـ القبض
قلبي مقبوض، خامد في صدري. أحس أنه يضغط على دمي بقسوة، لكنه لا يدعه ينفلت. سجن صار هو، بل زنزانة لا فتحة فيها لشمس أو هواء، وجدرانها صلدة وزلقة. يهتز جسدي، ليفك حصاري، لكن لا شيء يزول من خوفي.
أقول له: أخافك.
لكن هذا وجل على عجل. فالمريد التائه، الذي هو أنا، لا يلبث أن تسكنه رغبة في عبث، وشيء من رجاء، ينفرج له الانقباض. تفتح أبواب السجن. تنزاح الزنزانة الضيقة. تنجلي الظلمة الحالكة. ينهمر النور الآتي من بعيد.
القبض قبضان. شعور بالتفريط، وآخر بالأسى. أسى على ما فرطت فيه، وهو كثير غزير، يُخنق لكنه لا يُميت، وكيف يموت موصولا بربه، حتى لو كان يعبث.
قبض ليس من نار يتوعدون بها الأشرار، الذين لا يمضون على الأرض هونا، ولا يجلبون إلى الأرض السلام، ولا يأتون للناس بالمسرة. إنما هو قبض من تذكر تفريط مخلوق في حق خالقه، وإنكار للنعمة السابغة التي أنعم بها عليه. قبض يصنعه نقص المحبة، أو الشك في نصاعة القول، وطهر المسلك. قبض لا يلبث أن تهزه النفس اللوامة، التي تسمع صوتا يأتيها من كل جانب:
ـ لا يخاف من ظن بي خيرا، ولو في لحظة عابرة، من ليل أو نهار.
7 ـ البسط
أرجوه فانبسط. تنفرج الشدة، وينفتح السبيل. على باب الرجاء أقف صامتا، أطرق باب قلبي، وأنتظر. لا أسمع سوى صوت الصمت، فحتى وجيب القلب قد خمد في غمرة التمنى، لم يمت، لكنه ربما ذاب في لهف انتظار تقريب وترحيب.
هل أنا لا أزال حيا؟ أسأل، فالصمت التام موت. تأتي الإجابة:
ـ الرجاء حياة، والبسط فوق الرجاء.
أطمع، وأسأل: هل القبض موت؟
تأتي الإجابة:
ـ عيشة ضنكى.
أقول مرتجفا، حتى تتساقط الحروف تحت قدميَّ:
ـ لك العتبى حتى ترضى.
فأسمع صوتا صافيا:
ـ دام الود ما دام العتاب.
ينشرح صدري، وأبسط كفيَّ، لتسقبلا المطر الذي يهطل أمامي على الطريق، فتنبت أزهار لم أر لها مثيلا. يزول الحذر، وتروح الوحشة. تتساوى في رأسي كل الأمور، صغيرها وكبيرها، وأيسرها وأعسرها، فأمضى في تسليم وامتثال مطمئنا حرا، لا أستوحش شيئا، ولا أخاف البلوى.
8 ـ الهيبة
متى أهاب حتى الغياب؟
أغيب فلا أحس بجسدي. يذهب عني ثقله وألمه وأدرانه. لا يتأتي هذا إلا إذا حضرت الحقيقة كاملة، وصرت من أهل التمكين، الذين تسمو أحوالهم عن التغير، ويمحى من نفوسهم الانشغال بالذات والصفات.
الهيبة فوق القبض، فالمقبوض يشعر بارتجاف قلبه، ويدرك سعيه إلى السكون. أما من يهاب فيضربه خوفه ضربة قاضية، فلا يدع له، ولو لبرهة، أن يحس بما يجري في دمه، ولا ما يلوح لعينيه، ولا ما يتناهي إلى أذنيه. تنقطع مع الهيبة الأسباب، فلا تكون هي السبيل إلى إدراك الوجود. يتوقف الزمن، فلا تذكر لما مضى، ولا توقع لما هو آت.
9 ـ الأُنس
الأنس فوق الرجاء. هو حضور من غياب. هو زوال الهيبة. هو بهجة وألفة. هو رقص وغناء. هو دوران ودبيب وانشراح. هو تماه في الفرح، يغلب أي كدر. هو انتصار على الانقباض، يغلب أي يأس، وكيف ييأس من روح الله من يؤمن به، ويحب خلقه.
الله في قلبي يؤنسني، فأمضي وفي نفسي أُنسى. أرى من فرط الأُنس كل شيء في الوجود جميلا، حتى الأشرار، أراهم سيرجعون يوما إلى ما ينفع الناس. أرى العصاة واقفين على باب التوبة، وأثق في أنه سيُفتح لهم يوما، وأن هذا اليوم آت دون شك. أتسامى عن الصغائر، وأتسامح مع ما يجري، فهو عندي قدر مقدر، ودور مرسوم للعباد.
10 ـ الوجد
أطربني لحن لم أسمع له مثيل، يمتزج فيه الشجن بالفرح، صادف قلبي دون إرادة مني، فلم أعرف وقتها إن كان عليَّ أن أبكي، أو أضحك. كان وِردا آتيا من بعيد، له حلاوة وطلاوة، رددته في سريرتي، فلما غلبني صدحت به، غير عابئ بالذين يمرون حولي. غاب من عينيَّ وعن أذنيَّ كل شاهد.
حضر سلطان الحقيقة، فاستغرقني ما أنا فيه. شهدت وذهبت طائعا وغرقـت. نار الاشتياق انبلجت نورا، وصار وجدي وجودا، بينما أفنى في الحق، فبقيت به أسمع وأرى.
11 ـ السُكْر
السكر غياب، مؤقت إن كان عابرا، ومقيم إن كان عميقا، وعمقه قد يجعله أقوى من الغياب. أرى أن السكر غيبة بوارد قوي، وإسقاط لإخطار الأشياء عن قلب السكير. وأن من سكر غير من تساكر. وهو سكر بلا خمر، إنما بالإفراط في التسليم حتى تصغر الدنيا في رأس من سكر، فلا يرى منها شيئا، ويكون صحوه على قدر سكره، فالسكر الغامر، يعقبه صحو تام.
صحو في سكر، وكيف لا؟ وحين يسكر المريد يرى ما لا يراه في صحوه، أو يكون صحوه أجلى وأعلى. فالسكر غياب عما يكد الذهن في دنيا البشر، هو تسام عن الصغائر، وذهاب إلى الجواهر من أقرب طريق. السكر نوم للكذب ويقظة للصدق. السكر ذهاب لغفلة يصنعها الانشغال بالذي يجري، وإتيان لانتباه ينشغل بالذي يبقى.
السكر هو فتح الطريق واسعا أمام كل مكبوت ومكتوم وتائه ومنسي وملجوم. السكر هو سلطان للعقل الباطن. أريكة يتربع عليها كل ما ظلمه الشعور. السكر هو ما وراء كل ما نشعر به. هو الذي هناك في الركن البعيد المظلم المهمل وكنا نهرب منه. السكر هو حضور الحقيقة في وجه المخاتلة. هو الصدق في مقابل الكذب. هو التسري عما يقتل من حقد أو كراهية. السكر هو رضا بكل شيء، وتسامح مع العالم.
السكر خمر الروح، لا فرق بين صانعها، إن كان هو شيء من أعماقك البعيدة، أو هو آخر يدور حولك راقصا، يظن المتعجل أنه سيسقطك في الغواية، بينما هو يهديك سواء السبيل، لكنه يجعلك تقسم مرات ومرات: ألا تظلم، ولا تبغي، ولا تعتدي، ولا تنتهك حرمة. أنت تطيعه، فالسكير يطيع من يطاوعه، ويعصي من يعصيه، فهو يتساوى عنده كل شيء، الكبير الصغير، والسيد والمسود، والحاكم والمحكوم، وصاحب الملك، ومن يجلس على قارعة الطريق يمد يده للعابرين، فكلهم عنده بشر، لا فرق بينهم، سوى اختلاف الظروف.
سمعته يقول في الليل، وفي يده قنينه:
ـ لماذا حرمها ثم ترك العالم على هذا النحو من التناقض المخيف. خرق واسع لا يرتقه أحد. فجوة هائلة لا يسدها شيء.
وسمعت من يرد عليه:
ـ ليس كل صاحب كأس شيطان، وليس كل رافض له ملاك.
وسمعت آخر يقول:
ـ في وصال من لم ينقص كأسه.
تاه المجيبون بين كأس وآخر، وانجلى في الأبيض الزاهي والأصفر البهيج، والأحمر الأخّاذ، كل شيء، إلا أن يكون الشارب غافلا عما للكأس من بهجة، وما لبهجته من شعور فوق الوصف، ومن تهيؤات فوق النواميس.
قال المريد:
ـ السكر حال ومقام.
قال الشيخ:
ـ لا حال ومقام يجتمعان إلا في السكر.
ورفع المريد رأسه، وانسحب لسانه، مستفسرا، فسمع:
ـ ما يأتي في لحظة صفاء، يهديها إلينا الباطن المخبوء هو الحقيقة الجلية، وما دونها هو قدرتنا على التعمية، وهذه لا يجب أن نعول عليها أبدا.
ولم يكن أمام المريد من سبيل سوى أن يقول:
ـ السكر تجيلة، وفيه يأتي ما هو أعلى مما نعتقد، ونشغل أنفسنا زمنا واهمين بأنه الحقيقة.
وليس على المريد هنا من وقت أو سبيل سوى أن يسمع صوت شيخه:
ـ ما تتوه له هو السبيل، وما تتوه منه لا يعول عليك.
12 ـ التيه
تيه المريد رشد إلى الطريق، ففي الحيرة يسكن الاختيار. والتائه على درب السالكين، إن ضل جسده، أرشدته روحه. ومن يتوه باحثا عن دنيا يصيبها كان تيهه ضياع، ومن يفعل هذا في سبيل الوصول إلى الحقيقة، كان تيهه تحقق.
تيه المريد ليس هروبا من أناس يتوعدونه بالشر، إنما فرار من أناس يوعدونه بما يرونه خيرا له، وما هو كذلك. والتائه بلا وعد ووعيد من أحد من البشر، ولا يرى من تدابير الناس ما يفزعه، هو السائر على درب صائب.
التيه الذي يراه البشر هو صحراء ممتدة. أرض خصبة غادرها أهلها أبدا، تاركين إياها للرحيل. صبي أتى من قرية نائية إلى مدينة كبرى، ومفازة طولها قدر عرضها، وأربعون عاما أو يزيد يرمون على رملها وصخرها، والأقدام أكلها الحصى، والآتي لا يعرف، والذي مضى يطاردنا.
التيه عند أهل الله لا صحراء فيه، ولا مدن موحشة، ولا سنوات طويلة يعدونها أو تعدهم، إنما خوف من توه عن الحق، وانزلاق بعيد عن الحقيقة.
والضياع عند هؤلاء لا يكون أبدا في مفازة لا يعرف السائر فيها إن كان الشرق شرقا، أو الغرب غربا، إنما هو ضياع في مكان لا يتجاوز موضع القدمين. فالضائع في البراري، ويدرك نفسه، ليس ضائعا، والواقف في مكانه ويجهل نفسه فهو الضائع.
سأل المريد شيخه: متى يعود العبد من طريق تاه فيه؟
أجابه: إن ضاع منه الحق.
عاد المريد إلى السؤال: وهل يدرك التائه الحق؟
أجاب: إن كان تائها فيه.
ثم صمت برهة، وواصل:
ـ لا تيه أكثر من اعتقاد المرء أنه وصل إلى اليقين، فالواصلون في شكوى دائمة من التفريط، تساورهم الشكوك في أقوالهم وأفعالهم، ويضنيهم الخوف من العجب بالنفس، والاستعلاء على الخلق.
13 ـ الصحو
الصحو عند المريد إفاقة، لتحصيل ما كان فيه وقت سكره من إلهام. إنه الانتباه من روعة الغياب دون مفارقته. فليس الصحو ردة عن الحال الذي كان فيه الذي سَكْر، إنما إفادة منه، باختبار هذا الإلهام مع اليقظة. وإذا كان السكر هياما عن الوجود، فالصحو هيام في الوجود. والصاحي عبد عارف للحدود التي تقف عندها الدنيا، وتربط بين لذتين، لذة الاشتهاء، ولذة الاستغناء.
والصاحي زاهد، يدرك ما هو فيه، ويتجنبه بإرادته، وصبره، وجهاده العميق لفجور النفس, والصحو تدريب واع على الحرمان من لذة الدنيا ولدادة أهلها.
الصحو عودة إلى العلم الكسبي، دون نسيان العلم اللدني، الذي يأتي مع سكر عميق، ينسى فيه العبد نداء جسده، ويذوب في نداء الروح.
قال المريد: صحوت، فلم أنس.
قال الشيخ: بل انس ما صحوت له.
نظر المريد في حيرة، وسأل: هل التذكر ذهاب للسُكر؟
أجاب الشيخ: إن صحوت فلا تصل أمسك بغدك، وابق عند ما أنت فيه، مقطوعا عن كل أحد، وأي شيء.
هز المريد رأسه، وقال: فماذا لو كان الصحو وصلا بالواحد الأحد.
ابتسم الشيخ وقال:
ـ هذا هو الصحو الذي نسعى إليه، وفيه لا يذهب أثر السُكر أبدا. فمن كان سكره بحق، كان صحوه بحق.
14 ـ المفارقة
لا يخلو طريق السالكين من دهشة، ومن زالت دهشته ذهبت فرحته. والدهشة لحكمة الخالق أعلى المفارقات، فمعها يتزلزل الخاطر، وتدمع العين، والدهشة من أقوال الناس وأفعالهم ليست بالشيء القليل، حتى لو سكن معها الخاطر، وغار الدمع، فالمخلوق له نصيب من عطاء خالقه.
نحيل يدفئه الذكر، وسمين يرتج من اللهو. عاصفة من نار، وسكون من بَرَد. عاص تنتظره التوبة، ومطيع ينتظره التلفت. لص يوزع ما سرقه على الفقراء، وكاسب من خلال يمن على من يعطي. معطي يرحل، وآخذ يبقى.
قال المريد لشيخه: عجيبة هي الحياة. علماء عباقرة أقادوا البشرية ماتوا في ريعان شبابهم. آخرون من حكماء كان لديهم ما ينفعون به الناس، لكن الموت خطفهم، بينما قتلة ولصوص بلغوا من الكبر عتيّا.
لاذ الشيخ بالصمت، وهو يتذكر من عرفهم في الحالين، لكن سؤال المريد أيقظه: ـ أهي حكمة لا نعلمها؟ أم هو العبث؟
هز الشيخ رأسه، وقال:
ـ لا يفصل في هذا سوى من تساوى لديه الحضور والغياب. ذلك الذي يرى فوق ما يراه الناس.
احتار المريد في الإجابة، وهم أن يسأل من جديد، لكن الشيخ عاجله:
ـ لا تنس ما وقع لموسى مع العبد الصالح، فالحكمة الباطنة فيما لا نعرفه، أكبر من هذه الظاهرة فيما نعرفه، وما أؤتينا من العلم إلا قليلا.
…………………
*نقلاً عن جريدة “أخبار الأدب”