فَجْر وقصائد أُخرى

مبارك وساط
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مبارك وساط

فَجر

يلتقي شَعْرُكِ وهو يستيقظ

بنظرتي التي تطوف هائمة

فينفتح بابٌ في مُخيّلتي

وبالفعل أخرجُ منه

إنّه بابٌ معلوم لديّ زُرْقتُه مُفْعَمة

بأنفاسِ غابات

مرّةً، وأنا بعدُ في ريعان الشّباب

غادرتُ منه ظلمةً وألَماً

ولا أدري إنْ كان قد أَفْضَى بي

إلى غُرفةٍ في بِرْكَة

أَمْ أنّي بقيتُ واقفاً تحت شجرة

لقد تركتُ شَعْرَكِ مستيقظاً

وأعرف أنه سيُهيِّئ لي رذاذاً خفيفاً

يُبَلّل رأسي حين أعود

فأصف لك الريح الصّبية التي كانت

قد اقتبستْ منكِ سخونةَ خدّيك

ها أنا في الطّريق في هذا الفجر ذي أصابع السّاحر

الذي يرسم على صفحة السّماء وجوه أطفال

فيما عصافيرُ تنثرُ جراحاً

على السّاعات التي تَمرّ راقصةً

سأدلف بعد لحظة عائداً نحوك

من الباب المعلوم ذي أنفاس الغابات

وسيُبلّلني الرّذاذ الخفيف الذي هيّأتِ لي

وتَنْتَشين معي إذ يَهْمي علينا

ثلجُ رَعشات

**

 مُعلّم نَشيط 

يُهَدّد المُشاغبين بطيور البَرْد

يواجهونه مُمتشقين

جِراحَ ولادة

يَشعر بشفتيه تتبخّران

يُحاول لمسهما بلسانه

فيجدهما في مكانهما مُنفرجتين

كأنّما تَسخران منه

لا يخلط بين العصافير والنّجوم

أثناء سفره العموديّ

مرتفعاً بين عناقيد العنب

يحلّ الليل فيغمس عظامَه في الحبر

ليؤلّف فقرة عن بركان

تُحمحم من حوله خيول

ليؤلّف صفحة عن مستشفى

حاصرتْه أحلام مرضاه

لكنْ تُزعجه قليلاً هذه الفوضى

التي تتزايد في المطبخ

فالخُبز ويا للأسف

ما يزال يُعَذِّب نفسَه

لأسباب مجهولة

**

قَبْل الإفطار

شفرةُ الحلاقة تَحلم قرب لحيتي
بقطراتٍ من دمي
نملةٌ تسقط من مكان مجهول
على سطح رغوة معجون الحلاقة
هي في وَرْطة عظيمة لكنّها تَحلم
أنّ لها ساعديْن قويّين وأنّها
تُجذّف وهي على متن قارب
وإذْ أشعر أنّها تودّ لو تَنوح
أُسارع إلى إنقاذها
لكنّي حين أزمع البدء في الحلاقة
أسمع زمجرات غضب:
إنّهنّ البيضات الثّلاث، منفعلات،
فأنا لِلْأسَف تركتهنّ في زاوية معرَّضة
لتيار الهواء.

**

ريشات هنديّ أحمر

كيف لي أن أُنهيَ قصّة الأميرة ذات الهمّة وولدها عبد الوهاب في ليلتي هاته التي يُضيئها فحسب بُؤبُؤَا عصفور؟

لن أبحثَ عن جوابٍ ما دامت هذه الرّيح البطيئة لم تنته من مسح العَرَق عن حصاني المطّاطي المركون قرب النّافذة. حقّاً، كانت لي ريشات هنديٍّ أحمر حول رأسي، لكنّها سقطتْ منّي ذاتَ صباحٍ في حَقل جدّي. حدث هذا منذ وقت. وكلّما فكّرتُ في العودة إلى ذلك الحقل لأجلب منه ريشاتي، يتعالى الصّفير في أذنيّ. جدّي كان معروفاً بشدّة صفيره. تَسمع ناقتُهُ صفيرَه من بعيد فتُقْبِلُ نحوه مسرعة راضية.

والعجيب أنّي، في العديد من المرّات، ما إن كنتُ أغذّ السّير في اتّجاه ذلك الحقل حتّى أُعرّج على أشجار أحسبها حزينةً فأودّ لو أواسيها ثمّ أمرّ بجنب كهف فيبدو لي متحفاً للصّافرات، وكنتُ بالفعل أرى فيه صافرات من أقدم العصور وأخرى من أزمنة قريبة أو حتى من عصرنا!

ومرّة، كنت أمضي في اتّجاهِ الحقل الذي سقطتْ فيه ريشاتي فرأيتُ ما حسبته قُبّة ًمن حرير تنزل أطرافُها المُلوّنة إلى مستوى أدنى من مستوى رأسي، فدلفتُ تحت تلك القبة لكنّي بعدَ لحظات، اكتشفت أنّها في الحقيقة تنّورة أسطوانية يتبدّى بداخلها ردفان مكوّران جميلان وفخذان صقيلتان تَسرّان ناظريّ… أتلبّثُ قليلاً لأستريح بين تَينك السّاقين. (يجب الإقرار بأنّي كنت طفلاً صغيرَ حجمِ الجسد وقتَها). وإذْ تُدَفّئني سخونة المكان بما يكفي، أَخرج من تحت التّنّورة وأتطلّع إلى فوق، فأرى وجهاً أنثويّاً جميلاً يبتسم لي.

ومرّة كنتُ سائراً صوب حقل جدّي لأستعيد ريشاتي لكنْ جاءتْني أحلامٌ من أعشاش وشَرعَتْ في الطّبطبة على كتفيّ. ومرّة التقيتُ أبي وأنا في طريقي إلى ذلك الحقل فقال لي: تُضيع وقتك في البحث عن ريشات. لو أنّك في غرفتك تُراجع دروسك، أو على الأقل تلعب مع أقرانك تحت الأشجار. هكذا عدتُ إلى البيت وفتحتُ قِصّة الأميرة ذات الهمّة وولدها عبد الوهاب على الصّفحة التي كنتُ متوقّفاً عندها!

**

 مَطَر أزرق

تابعتُ سَيْري، متفادياً إيقاظ نحلات

غافياتٍ على تُوَيجات أزهار

واحدةٌ حرّكتْ جناحيها

ذَكَّرني ذلك بخفقان قلبك

وبسمكة تتمطّى في البرد

في فيلم

حيثُ كان مطرٌ يسقط

أزرقَ ولطيفاً

وفي غرفتنا انْبَثّ رذاذ من بين شفتيّ

أثناء ضحكٍ مَرِح

وكانت التماعاتُ خواتمك على الكومودة

تبقى نشطة وخافتة

وتَحدب علينا أثناء ارتعاشات الأهداب

أثناء التنمّلات تحت الجلد

وتُرافقنا حتى تنغمس عظامنا

في زَبَد أحلام

بينما رائحةُ تبغ

تَجثم في زاويةٍ من الغرفة

على صينيّة وكتاب

وإبريق شاي

**

 جَدْب 

أتذكّر أيضاً ذلك الصيف. أيّام الجَدب تلك. الذين نفقتْ لهم نعجات استشعروا ما يشبه الكسور في ضلوعهم. شيوخ، من فرط الهمّ، نسوا الصناديق الصّغيرة التي كانت مستودعَ أرواحهم على ظهور حميرهم.

ولكمْ لعبنا الغُمّيضة وحَوْلَنا جرادات تُحلِّق إلى أعلى ما تستطيع، عجفاءَ ولا مبالية. فيما مناقير غربان القرية تنقشُ لوحات تجريدية على لحاء الأشجار. 

مع هذا، فتلك الأيام التي لا تُنكَر مرارتُها، كانت لها أيضاً نكهة أخرى، خفيفة ومكتومة، لاذعة قليلاً ولا تُنْسى، وقد استعذبناها. كنّا أطفالاً، ونستطيع أن نمضي مع الفجر إلى البراري لِنَقتنص الأساطير.

**

يُسَمّد الحقل

آثرَ في هذه السّنة أنْ
يُسَمّد حقلَه بالكلام
ولأنّ له لساناً أصبح لا يكفّ عن الثّرثرة
منذ أن فتنتْه امرأة في السّوق الأسبوعيّ
فالحقلُ سيُخْصِب ولا شكّ
والغلّة ستكون عظيمة
حقّاَ، هو لم يكن قد رأى
من تلك المرأة سوى صفّي أسنانها
وبينهما
قطعةُ بطيخ مديدة
لكنْ سوف يُفعِم الفرحُ قلبَه بعد الحصاد
وسيكون هنالك عتّالون كُثر
وصَفْقُ أبواب
وسوف ترتفع عقائرُ بالغناء
وتتنحنح قناديل
وتتساقط ثلوج
على رؤوس نسوة حزينات
كنّ قد أغدقن حُبّهن الأموميّ
على قِطع سكّر
كانتْ لها حياة
لكنّها لمْ تحترسْ
وذابتْ في كؤوس

**

 في عربة

أُسَافر في عربةٍ عجلاتُها بيضاء
تَسلك بنا طريقَ الشّاطئ، وجارتي إذ تغفو
تبدأ التّجاعيدُ في التّكاثر على وجهها.
حجمُها في تناقص.
أهي حالة شيخوخة مباغتة؟
تتصاعد موسيقى قرب النّافذة التي
أطِلّ منها على البحر.
تْرلَلّا تْرلَلّا تْرلَلّا تْرلَلّا تْرلَلّا تْرلَلّا
موسيقى فلامنكو: آه! كمْ كنتُ معجباً بِلَالُو تيخادا
لكنّي نسيتُها زمناً ولم أتذكّرْها
إلّا في هذه اللحظة.
جارتي اسمُها علياء وهي طبيبة أطفال.
ذلك أنّنا تعارفنا قليلاً
قبل أن تنام.
قالتْ إنها تحبّ الأغاني الخفيفة

وأن ترشَّ ظلّها في الصّيف
بماء بارد
وأن تُطلّ على المطر
من نافذة في قطار

 

 

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

Project