هذا الكتاب الصادر حديثاً عن دار التنوير من ترجمة غادة الحلواني هو في الأساس حوار يناقش المسار الفكري للفيلسوف الفرنسي آلان باديو حول الحب وقد أجراه معه نيقولا ترونج.
يقول باديو في مقدمة الكتاب “يجب أن يكون الفيلسوف عالماً بارعاً وشاعراً هاوياً وناشطاً سياسياً، بل وعليه أن يقبل حقيقة أن حقل الفكر ليس محصناً أبداً أمام انقضاضات الحب.العالم والفنان والناشط والحبيب، هذه هي الأدوار التي تقتضيها الفلسفة من ممارسها . لقد سميتهم الشروطالأربعة للفلسفة”.
سوف أركز هنا في هذه السطور علي دور الشاعر ثم علي دور الحبيب. أولاً دور الشاعر، حيث العلاقة الفريدة والعميقة بين الشعر والفلسفة هي أكثر المحاور إمتاعاً في الكتاب، حيث أنها – وبشكل تلقائي- قد غلفت الحوار كله.
رامبو ..مالارميه.. بيسوا ..كلوديل، أسماء تتكرر في الحوار بقوة ، يتقاطع باديو مع أفكارهم، بل ويدلل بأقوالهم علي مفاهيمه الخاصة.
لنبدأ بهذا البيت الشعري لرامبو- والذي تمت الاستعانة به كتصدير للكتاب- “إن الحب كما نعلم يجب أن يُبتكر من جديد”.
يقول باديو عن هذه الفكرة: “إن الحب ليس ببساطة عن لقاء شخصين وعلاقتهما الداخلية. إنه بناء، حياة تُصنع.لم تعد من منظور واحد منذ تلك اللحظة بل من منظور اثنين وهذا ما سميته مشهد من اثنين. شخصياً كنت مهتماً دائماً بقضيتي الاستمرار والسيرورة وليس قضايا البداية فقط” .
ومن رامبو ننتقل إلي مالارميه، يقول باديو: “هذا تعبير مالارميه الصدفة في النهاية رسخت يقولها عن الشعر وليس عن الحب، لكن كلماته يمكن أن تطبق تطبيقاً مفيداً تماماً علي الحب وإعلان الحب. في كل من الحالتين توجد مخاطر ضخمة تقع علي عاتق اللغة، تتعلق هذه المخاطر بنطق كلمة يمكن أن يكون تأثيرها في الوجود لا نهائيا تقريباً”.
ثم يأخذنا إلي بيسوا ويقول: “بيسوا يقول الحب فكرة، أعتقد بأنه محق أعتقد بأن الحب فكرة وأن العلاقة بين تلك الفكرة والجسد علاقة فريدة تماماً، ويعلّمها دائماً كما يقول أنطوان فيتز العنف الجامح ، نختبر هذا العنف في الحياة، وحقيقي جداً أن الحب يمكن أن يلوي أجسادنا ويثير أقسي أنواع العذابات”.
وقد تحدث عن كلوديل قائلاً: “أعتقد بأن لديه مشهدين من (مشهد من اثنين) بدلاً من واحد، الأول هو خبرة استحالة الحب علي الأرض، والثاني حين يتآلف اثنان في عالم الإيمان”.
وحين سئل عن طبيعة الحب الذي يحمله للمسرح فإن إجابته أيضاً تضمنت الشعر حيث قال: “أعتقد أن ما بهرني في المسرح ذلك الشعور الذي انتابني فوراً بأن جزءاً ما من اللغة والشعر مرتبطان بالجسد علي نحو لا يمكن التعبير عنه تقريباً”.
وكما ترددت أصداء الشعر في الحوار منذ البداية، فإن الشعر أيضاً يشكل خاتمة الكتاب.
يقول باديو في نهاية الحوار: “أحبك تعني أنت ينبوع وجودي في هذا العالم، في مياه هذا الينبوع أري فرحنا وأري فرحك أولاً. أري كما في قصيدة مالارميه: في الموجة التي تكونها نشوتك العارية”.
كان هذا فيما يتعلق بدور الشاعر، والذي عبر عنه الفيلسوف الألماني هانز جورج جادامير بأن الأمر يتعلق بالنسبة للفيلسوف كما هو الشأن بالنسبة للشاعر بإيجاد صيغ تصورية قصد التعبير عما تبينه لنا تجربة العالم، وأن مهمة كل منهما تتمثل في الإجابة عن اللغة عبر اللغة.
والآن ننتقل إلي دور آخر قام به باديو وهو دور الحبيب المدافع عن الحب، والذي ينطلق ليس من وجهة النظر الفلسفية فحسب، بل من مرجعية العاشق الذي يعي جيداً ما يتكلم عنه.
يدافع عن الحب أولاً ضد الليبرالية التي تنظر للحب كمخاطرة عديمة الجدوي، وتكرس للنظرة الإستهلاكية التي تخطط لزواج جيد التخطيط يغفل العشق، ويدافع عنه ثانياً ضد الفكرة التي تقول إن الحب ليس إلا تنويعاً فقط لمذهب المتعة.
ويدافع عنه أيضاً ضد القرار الفردي بإنهائه قائلاً: “يعرف كل واحد منا أن القرار بإنهاء الحب خاصة من طرف واحد هو أمر كارثي دائماً أياً كانت الأسباب الممتازة التي تقدم لتبرير هذه الخطوة الهائلة”.
ثم يستطرد قائلاً: “لو حاول المرء أن يتخلي عن الحب أو أن يتوقف عن الإيمان به فسوف تصيبه كارثة أصيلة شخصية والجميع يدرك هذا، يصح أن أقول إن الحياة تصبح رمادية جداً”.
لكن ماذا لو أصر أحدهم علي ارتكاب هذا الأمر الكارثي بإنهاء الحب، إذا قرر بإرادته الحرة تسميم الحياة بهذا اللون الرمادي الذي يشير إليه باديو؟ ما الذي يمكن عمله في هذه الحالة؟ ما الذي يبقي؟
هذه التساؤلات التي لم ترد في الحوار، تأتي الإجابة عنها بين السطور في إطار الحديث عن الفن، حين يقول باديو أن الفن هو ما يقوم بتحقيق العدالة تحقيقاً كاملاً للحدث عبر استعادة كامل قوته الكثيفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة القاهرة