تلك الأشياء الصغيرة هي التي جعلتني لمرات كثيرة أحاول أن أتجاهله. ظللت أحاول التعالي علي حواراته التي بدت لي ازستقراطية عن جويس وكورتثار وهيمنجواي وأن أهرب من أسئلته الوجودية الملحة بالهرب إلي الصمت، فرغم أنني شاهدت “عفاريت الإسفلت” عدة مرات إلا أن لقائي الأول بمصطفي ذكري كان بعد قراءة “هراء متاهة قوطية”، العنوان الممترفع الذي لا يخاطب سنتماليتك وعاطفيتك واللغة المقتضبة التي ترسم عالماً واقعياً لا يشبه الواقع وغرائبياً لكنه لا يلبس أحذية الغرائبية، هذه الواقعية الجارحة لكل تصورات الطبقة الوسطي الفلاحية التي أنتمي إليها.
اتعامل مع ذكري با عتباره حالة كتابة لا تشبه أحداً، ولا تحاول أن تتلاقي مع أية مدرسة.
حرصه علي العزلة هو ذلك الحرص علي تفرده وعلي أن يظل بعيداً، ويظل مع كائنات الكتابة التي تخصه، وبمرور الوقت وبامتداد المسافة التي اتسعت لتسمح للمرء بتأمل أحلام الكتابة.
تقف صورة ذكري من بين أسماء كثيرة لتجسد لي كل من عرفوا بجيل التسعينيات والتصقوا طويلاً بدار نشر “شرقيات” رغم تعدد السبل التي باعدت بين تجاربهم، يمثل مصطفي ذكري في مسيرة جيلنا تلك الرغبة العارمة في استحداث نص تجريبي في محيط صادر الأجيال التي تمتطي فكرة الحداثة، ومساحات التجريب.
تبدآ الكتابة وتنتهي عند طموحه العنيد بخلق نص لا يملي عليه أحد شروطه، لا القاري ولا الذائقة النقدية ولا حتي أصدقاؤه المقربين، نص مشهدي يشبه ذكري نفسه بقدراته علي التوحد والانشغال بذاته وتثبيت ماهو جميل في محيطه وتجاهل هذا الخارج.
كتابة ذكري لا تعترف بالشهرة ولا تبالي بعدد النسخ ولا تفرح بالضجيج، بل ترتبك كلما سلط الضوء عليها لأنها تعيش تحت تلك القشرة المرئية، تعيش وتنمو، وتتكاثر تحت السطح لتصبح الكتابة ذاتها قبواً تتعتق فيه الكتابة.
تحت القشرة الصلدة التي تغلف سخريته وتقوقعه وجمله المحددة المدببة المجازية والقليلة يتجلي الوجه الأكثر عذوبة لتجربة واحد من أكثر اسماء جيلنا طاقة وقدرة وموهبة، لا يقف أمام تدفقها إلا ذائقته العنيدة التي لا تقبل إلا بالكمال في حرفة الأدب والكتابة الحقيقية.