عبده خال
في هذا الحظر المميت للنفس ومباهجها لا تعد لديك رغبة للكتابة الإبداعية، فالابداع بحاجة ماسة إلى تشوف الغد مزهرا، وليس قاتما، لا تعرف هل ستعيش أم يلفك الوباء ضمن الأرقام المتصاعدة.
– كيف لو تناقل الأصحاب أنك الرقم الأخير قبل أفول الجائحة؟
لنضع للذاكرة مساحة من التوقع عما يمكن قوله.
خيط من القنوط لفتت به عكرة الباب، ربما يأتي طارق وأنت في نفسك الأخير، ولا تقدر على النهوض لفتح الباب، عل الخيط يتماسك محتملا الشد لرؤية من هو الطارق.
حقا استسلمت لحالة كئيبة، انهارت معها الرغبة لأي شيء.
تجول في ذاكرتك بحثا عن حالة وخيمة مرت على الأرض وسلبت الأنفاس، تذكرت عشرات الروايات التي نقبت في الألم، فوجدت الروائي تشينوا أتشيبي يهمس في أذني:
– ومضى عهد الراحة!
تذكرت ذلك النيجيري الذي فضح اللعبة، كانت لعبة استيطانية تشاركت كل القوى الأوربية لنفض السجادة الافريقية، لوضع قبلتها في المكان غير اللائق.
وفي كل رقعة من المعمورة حدث نهب النفوس المطمئنة بحجة خلق اطمئنان كخبز من الرحمة جاء هدية من يد المحتل.
أصدقاء كثر من الروائيين كتبوا عن فجاجة تمدد السلطة لنبش الأرواح وتركها معلقة على بقع دخان كثيف ليس له إلا السواد والاختناق.
أعلم أن الأمم قامت بمجازر ولم يحاسبها التاريخ بل منحها أوسمة على قتلها للأرواح، تسلمت الأوسمة لأنها حاضرة أما من غاب تحت صليل السيف أو قنبلة غبية تم نسيانه فهو غائب!
يلفني الضجر كمراهق يبحث عن سلوى في ضفيرة ابنة الجيران، الآن الشوارع تغازل أي قدم تتجاسر لتخطو بين ضفتيها، لم تعد هناك جسارة حتى الأضواء المنتصبة على الأرصفة أغمضت بصرها.
أسكن الفراغ، وكل الناس يختبؤوا خلف كمامة وقفاز، كيف يمكن لمخيلتك نبش هذا الواقع لكي تكب هذه الحالة الموحدة؟
مشكلتي الراهنة مع الضجر الذي يتعملق كمارد لم يستطع الخروج من القمقم، فتضخم في صدري، واستعصى على الخروج مع زفراتي المتكررة.
– هل أستطيع كتابة رواية تجسد هذا التهافت؟
ليس في الأدب العالمي شبيها للحالة العالمية التي نعيشها، فالآن فصلت رقبة الحياة، وهذا يؤكد أن الواقع يكون في بعض ظروفه أكثر اتساعا من الخيال، حتى أن رواية(السأم) لالبرتو مورافيا تضاف –هذه الأيام – لمنجزه الروائي المقترب من حالة العزلة في رواية (الطاعون)
حقا، لم تستطع أي رواية سابقة تجسيد لحظة من لحظات أيامنا هذه..
الفيروس الحقيقي الذي أصابنا هو الضجر، ضجر يصعد الدرج ليعلن أنك حي ميت!
ويتركك على قارعة الصبر في أن تتحمل ضغط الحياة الميتة، وأنا في كل حين أضيف ملاعق من الصبر وأتجرعها علني أشفى من هذا السأم.
هل علي كتابة تقرير عن حالتي؟ ليكن، فأنا عديم الثقة بهذه الحياة التي أنتجت عالما افتراضيا تم قص جناحي حتى لم أعد قادرا على ضم من أحب، وهذا الضم غدا مشروطا برغبة الحبيب أن يضم، فالوباء يباعدنا، بالله عليكم كيف توافقون على العيش في حياة ميتة؟
الفيروس غازيا، دمرنا مجتمعين، هو يعيد سيرة الفتوحات الوحشية لكل الامبراطوريات التي سحلت الناس!
ولأن مقالتي هذه تتحدث عن الغزو والفتوحات، علينا الانتصار للحياة بالفتح أو بالغزو المعاكس لنثبت حياة طازجة أو لنمت معلبين تحت استيطان الفيروس لحياتنا!
نعم، نحن الان نعيش حالة مهتزة بين الموت والموت. وهذه الحالة أعادتني للتفكر فيمن يكتب وصيته، فكيف لأي انسان كتابة وصية؟ فكتابتها هو الانهيار الحقيقي للذات، كيف يمكن ان تكتب حرفا وأنت تعلم عند قرأته لن تكون موجودا، ستكون تحت الثرى، تمهل، فأصل الكتابة خلود، فلا تقطع هذا الخلود، اجعل الكتابة بداية لا نهاية لها، ولأن حياتي هي الكتابة لم أجرؤ على كتابة أي نص ابداعي ليس لعجز وإنما كي لا يقال :
– هذا آخر ما كتب عبده!
في سأمي المتنامي، كفرت بكل أنواع التحرز، فالحياة ليست عزلة، الحياة هي أن تسير للموت شابا أو كهلا أو معمرا.
ولم أجد من يوافقني لغزو التحرز والحظر معا!
فهل الحياة المجمدة تمكنك من معرفة أين موقع التجلطات في حياتك أو حياة أمتك؟
خلال الشهور الماضية كنت سائحا بين الكتب والمحاضرات (اليوتوب) والمسلسلات والأفلام السينمائية، والزراعة، ومتابعة الحمام، وتعلم النحت.
كان الوقت مفرط الدلال والغنج وكاني في ملهى ليلي اتابع فقرات راقصة سيئة الأداء، وأنا لا أقدر على الخروج من المكان.. وقت ممتد مكنني من مشاهدة مسلسلات لثلاثين حلقة خلال يومين فقط، مررت بالمسلسلات البدوية (التي لم أكن أشاهدها ) فاذ بي أكتشف أنها رخوة تماما على مستوى النص المكتوب، إلا أنها تحمل زخما من الحنين، والحب الملتاع، وكانت أمينة على حمل بذور الغزو والنهب والعنصرية.. ولم تكن بعيدة عما يحدث من سيناريو مختل في سيره وفي مضامين رسائله، وإن كانت هناك من ملاحظة فإن معظم تلك المسلسلات قائم على الاطالة (ومط الحدث) ليصل المسلسل إلى لثلاثين حلقة، أو مائة، ولهذا فإن ظاهرة الاستهلاك تظهر كسمة رئيسة تؤدي إلى تأكيد نظام التفاهة.
شاهدت العديد من الأفلام السينمائية الغربية والعربية، فكانت فوارق الإجادة واضحة بين الصناعتين، صناعة المنتصر والتابع، والإجادة في أي صناعة هي مقياس رئيس في معرفة من الأعلى ومن الأدنى حضاريا!
قادتني الظروف إلى متابعة مسلسل (قيامة أرطغرل) مسلسل من عدة مواسم بلغت فيه إلى الحلقة 178، مسلسل يجسد نشوء وظهور الخلافة العثمانية (على يد عثمان بن أرطغرل) وهي الخلافة التي بسطت ظلها على العالم الإسلامي حتى انهيارها بعد الحرب العالمية الأولى ثم مرضت وخرجت من الحرب العالمية الثانية مقطعة الأوصال حمالة جرم الجهل المريع الذي تمدد في العالم الإسلامي..
والخلافة العثمانية لم تخرج حرفا واحد عما سبقها من الخلافتين الاموية والعباسية، إذ كانت البداية (لجميعهم) التوسع من خلال الحروب (الفتوحات) ثم حياكة المؤامرات ودس الاختلافات وحبك الدسائس.
والخلافة العثمانية استمرت على ما يقارب 600 سنة، كانت هي المغذية لثقافة العالم الإسلامي من وهن وتأخر عن ركب الحضارة الإنسانية.
وقد تأخر الاعتراف بأن الخلافات الإسلامية المتعاقبة قدمت الفتوحات كعمل رئيس، وجعلت العلم في ذيل اهتماماتها.
تجاسر بعض الكتاب في جدال حول مشروعية التمدد العسكري للخلافة الإسلامية، واعتبار تلك الحروب حروبا توسعية استيطانية.
وأعتقد أن من مسببات التقاعس الحضاري للأمة هي تلك الفتوحات، ومنذ البدء حدث خلط بين غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم (في عهده) وبين الفتوحات التي تلت ذلك في زمن الخلفاء، ولم يستطع العقل الإسلامي الأول تأسيس رؤية متسامحة وتأسيس لفكرة التبليغ بالرسالة وفق معنى التبليغ هو الإعلان فقط، فرسالة التبليغ جاءت لتكون رحمة للعالمين، ليكن السؤال الجوهري :
– أين هي الرحمة من القتل والسبي والتمدد السلطوي الذي حدث؟
حملت جل كتب التراث أن الفتوحات كانت خيرا عل الدول التي تم ضمها للخلافة الإسلامية، ولم تذكر المعاناة التي حدثت للدول المنكسرة والمنهزمة، والماسي المهولة التي طالت الناس أثناء وبعد الفتح.
أعلم تماما أن الفترات التاريخية لكل الامبراطوريات قامت على التوسع والاستبداد والسيطرة، وسفك الدم الإنساني منذ ظهور مفهوم الدولة، وهو مفهوم قديم جدا عبر كل المعمورة، وكل سلطة بحثت عن التوسع بمد نفوذها على ما يجاورها أو يبتعد عنها، وهذا أمر يؤكده التاريخ الطويل، وفي سيق تلك الفتوحات تم استخدام الدين استخداما بشعا –في كل مفاصل التاريخ الحربي- ولنقل أنها كانت مرحلة النشوء الأولى (وقاعدة النشوء يقابلها قاعدة الارتقاء).
والفتوحات الإسلامية لم تكن دينا وإن تم ترسيخ أنها من أجل نشر الإسلام بينما الإسلام في جوهرة رسالة التبليغ وليس حربا على عبادة الله.
وحدث لبس فقهي ما بين غزوات الرسول (جهاد الدفع) وفتوحات الخلافة الإسلامية التي أكدت على (جهاد الطلب)، ولأن السلطة لا تحبذ المغاير والمختلف، لذا لم تعتد الخلافة الإسلامية بالمختلف، وتم تأسيس مفهوم دار اسلام يقابلها دار كفر يستوجب القضاء على أهل هذه الدار (المخالف الذي يجب أن لايكون له وجودا بتاتا ).
والسياق الأممي صار على هذا المبدأ عند النشوء، وظلت صيرورة الحياة عبر ألاف السنوات تسعى نحو الارتقاء، وتخليص الأمم من الإرث الدموي حتى وصلت تلك الأمم مجتمعة الى اعلان تحرير العبيد، (إعلان رئاسي من الرئيس ابراهام لنكولن في 1 يناير 1863.
بينما كانت الفتوحات الإسلامية تنتج عبيدا وسبايا، ولم تتحرك في الجانب الإنساني لخفض نسبة العبودية، فقد ظل العتق تعبديا لذنب اقترفه المسلم، بينما ذنب تحويل الانسان الحر الى العبد لا ذنب فيه!
وفي حالة النشوء كانت الفتوحات العالمية قائمة على : تثبيت السلطة في كل مكان تصله، نهب خيرات البلد المحتل، عبودية لكل منهزم.. ونلحظ أن الأمم في تطورها الزمني (الارتقاء) يحدث تقويض للمفاهيم القديمة ولانتقال من الأسوأ للأحسن..
نعم،كل الديانات تلقفها أناس باحثين عن السلطة ليبنوا سلطتهم، فالسياسي استخدم رجل الدين، ورجل الدين فرش للسياسي مد سلطته، ومن الدين تعددت أنواع السلط سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية.. وهذه الأمر لا يخص ديانة دون أخرى، بل محركات السلط هي ذاتها في كل المجتمعات.
إلا أني لازلت أبحث عن الرحمة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه سلم، فبعده انطلق جهاد الطلب من غير حمل راية الرحمة!
وفي حومة المعارك المستمرة لم يحدث قياس الزمن وتغيراته، اذ كان بالإمكان تعددية الأهداف، وإبقاء الحرب وسيلة دفاع والانتباه لما يبقى قوة الدولة في الإنتاج العلمي، أعلم صعوبة الحكم الراهن على ماض له ظروفه الحياتية الخاصة وفق زمنيته.
فعندما نراجع عصر النهضة الاوربية نمسك بالسبب الجوهري الذي انتقل من النشوء الى التطور (الارتقاء) هو التنبه لتغير الزمن وظهور أدوات يمكن لها ان تكون ذات قوة ممتدة كأثر مادي مفيد للآخرين وأجدى من تمدد السلاح.
والآفة الأولى (في جميع الخلافات الإسلامية) العداء مع العلم المادي، اذ تم سجن مفهوم العلم والعلماء وحصرها على فئة الدارسون لعلم الشرعي، واغلقوا الأبواب دون معرفة اسرار الله في بقية العلوم.
فعصر النهضة في أوربا بدأ من القرن 14 حين حدث انغلاق تام لعقلية الكنسية التي دفعت الناس الى الزهد من كل شيء وانتظار الموت ليكونوا من أهل الفردوس، وهذا الجو الجنائزي المانع للحياة والابتكار، جعل العلماء يتحفزون للخروج من الرضوخ المذل الذي تمارسه الكنيسة، فأحدث أصحاب المعرفة والمخيلة الإنسانية تحركا للبحث عن فضاء يقبل بهم، فوجدوا في إيطاليا فضاء رحبا استقبلهم، ومن هناك امتدت النهضة الى بقية أوروبا، والنهضة هنا تعني بناء الأرض والإنسان معا، وليس دفنها كما كانت تفعل الحروب والفتوحات.. وفي مسيرة الخلافة الإسلامية لم تتنبه لتغير الزمن وأهمية العقل المنتج لكل الوسائل والأدوات لتي تجعل تنامي الحياة اسرع وسهل، بل واصلت حروبها ودسائسها وتقديم السياسي والمقاتل لصفوف الامامية واخفاء العالم أو نبذه كونه زنديقا.. وإن قيل أننا كنا منارة العلم فهذا كان في جزء من العالم الإسلامي ومع القمع والاضطهاد انتقلت كل العلوم الى أوربا التي فهمت التغير الزمني، فكانت لها وجوه كثيرة، نعم لم تستغن عن الغزو والقتل والاستيطان إلا أنها في نفس الوقت أنتجت ما يعينها على مد سلطتها، وجعل الخصم مرتهنا لكل أدواتها الإنتاجية فسلبته الأرض وأبقتها محتاجا لأدواتها المختلفة.
ومنذ العهد الأول للخلافة الإسلامية وصولا لآخر نفس في الخلافة العثمانية كانت محركات تلك السلطة ارتكازها على العنصرية القبلية ومد النفوذ السلطوي بالفتح واستنزاف مقدرات وأموال الخلافة للمحافظة على المكتسبات الجغرافية، والتفرغ لحياكة الدسائس والقضاء على المخالفين، وارتهنت لمنتجات الخصم المغاير.
ومع سقوط الخلافة الإسلامية كشفت العورة: دول ليس لها من مقدرات النهضة سوى الاستهلاك.
والآن ونحن جزر مقطعة، قامت كل جزيرة بتنصيب سلطانا من غير رغبة في توسيع البقعة الجغرافية لأن العالم بلغ مرحلة الارتقاء بينما هي لازالت في مرحلة النشوء..
يبدو أن السأم قادني لقول مضجر.. الان أعرف ان الفيروس اللعين فتح العالم في حرب شاملة، استوطن وقتنا وأرواحنا، فلتكن ثورتنا عليه بعدم قبول عبوديته لحياتنا..
– أيها الناس ثوروا، فالحياة سعي للموت!