سلمى التمامي
بناءً على محادثة دامت طويلًا، قررت نبش ذاكرتي الخائنة، ناكرة الجميل، تلك التي تتعمد إخفاء ذكرياتي الرائعة. أعتقد أنه بجانب جميع المشكلات التي أؤمن بوجودها بداخلي، تلك المتناسية هي أكثرها تسببًّا في المشاكل. ربما هي لعنة، كتلك التي أصابت الأميرة في أحد أفلام الرسوم المتحركة. ليس تماما كما تعلم، الموضوع برمته بدأ…
لا أتذكر متى بدأ. أكنت تعتقد ذلك حقا؟ لماذا سأكتب يا عزيزي، إن كنت أتذكر؟ أنا أفعل ذلك من أجل تنشيطها، من أجل استرجاع جزء مما نسيته أو تناسيته. فإذا لم تعلم، عزيزي، فالفارق كبير، ولكن نفس التأثير: ضباب كامل يحوم حولي في محاولة التذكر، يتشوش عقلي ويسود اللون الأسود حولي كليلة التاسع والعشرين في الشهر. أنا أناديك بعزيزي لأني لا أتذكر اسمك ليس إلا. لا تشعر بالإهانة، فالموضوع قد ازداد سوءًا. ولا، هذا ليس الألزهايمر كما تصورت، لقد أجريت جميع الفحوص، أنا في كامل عافيتي والحمد لله. تترد في ذهني بعض الذكريات دون غيرها، لمحات مشوشة غير معلوم مدى صحتها وصدقها. أظن في بعض الأحيان أنه مجرد عقلي الباطن يخلق قصصًا وينسج حبكات لملء فراغ تلك الملعونة المتناسية. أغمض عيني لثوانٍ ثم أفتحها، أنا على سرير مشفى، ومن ذلك الملثم أمامي؟ يبدو من هيئته أنه طبيب، ولكن ذلك الزي غريب بعض الشيء، وهذه ليست غرفة أي مشفى أعرفها. فكما لم تعلم، يا عزيزي الذي لا أتذكر اسمه، لا يوجد مشفى لم أزره. فعلى عكس هؤلاء الأطفال الجبناء، كنت أحب المشافي. لا أعلم لماذا، أعتقد أنه بسبب تمضية أغلب وقتي بها، ولا، الأمر ليس كما يدور في ذهنك الآن، لا تعمل أمي هناك، ولا أبي أيضًا، وإنما هي أمراض مختلفة. كسرت قدمي وشرخت ذراعي، ولا يخلو الموضوع من بعض الالتواءات في كاحلي، والتمزقات والتورمات في أجزاء مختلفة من جسدي. “سلمى مصائب”، كان هذا ما اشتهرت به. يمكنني تخيل تعبيرات وجهك الآن وأنت تقرأ. ولكن حتى الآن لي نصيب من اسمي كما يقولون، فأنا ما زلت حية أرزق. أجد في كلامهم بعض السخرية، ولكنه يحمل نوعًا من الصحة أيضًا. أنظر إلى الغرفة، لونها كلون مقابر الفراعنة. تبدو كغرفة الدفن. كلما أمعنت النظر تظهر أشياء جديدة في الغرفة، تتغير أشكال الأثاث إلى أشياء ليس لها علاقة ببعضها. لماذا يبدو مساعد الطبيب شخصًا أصم؟ ليس مجرد أصم، هذا الفم قد جرت خياطته. لقد التصقت الشفة العليا بالسفلى. وما تلك التي على الجدار؟ إنها، إنها لغة غريبة، تبدو كالـ…هيروغليفية. ماذا أفعل هنا؟ حاولت الكلام، ولكن لا يصدر لي صوت، مجرد شفتين تتحركان، وينظر إليَّ الطبيب بشيء من التعجب، محركًا رأسه يمنةً ويسرةً / يمينًا ويسارًا، وينظر إلى المساعد الذي من شدة هول المنظر لا أستطيع وصفه لك. أخرج مثقابًا كبيرًا، “ماذا ستفعل أيها المجنون؟”، لا فائدة من الكلام، لا صوت يعلو ولا كلام يُفهم. أخذ الجهاز واقترب مني، عصيةٌ على الحركة كمن شُلت حركته بسمٍّ سحري، وقال بلغة كنت أجهل حتى تلك اللحظة بوجودها ولا أعرف كيف فهمتها: “علينا كسر اللعنة، علينا إخراج السم”، وبدأ في إحداث ثقب داخل جمجمتي، ولكنني لم أتحرك، لم يرمش لي جفن -وكأنه يمشط شعري-، لا يثقب حفرة بحجم الليمونة في الجانب الأيسر من جمجمتي قد يؤدي إلى هلاكي. ولكن ما أجهله هو الخطوة التالية، تلك التي قد لا تبدو بها أي شيء من الصعوبة، ولكنني بكيت دمًا، وهذا أيضًا ليس تعبيرًا مجازيًّا. بدأت الدماء تخرج من عيني، نوبة صرع ترتعش بها كل خلية في جسدي. تأتي الذكريات تباعًا بشكل هستيري تكاد تقتلني. أرى أشياء عجزتُ حياتي كلها حتى على الاعتقاد بوجودها في الحقيقة، ليس فقط في ذاكرتي. أجوب عوالمَ وأزمانًا: ساحرات، ملوك، جنيات ومخلوقات أرضية وأخرى ليست كذلك. أذلك “بوسيدون” إله البحار السبع يقف مع “إبت” سيدة الحماية السحرية في مصر القديمة؟ لماذا ينظران إليَّ ويتهامسان؟ فجأة شعرت بشيء يثقلني. نظرت إلى الأرض، رمال كثيرة، تبدو كشاطئ البحر. وحين رفعت رأسي مجددًا، رأيت البحر، ينقشع من المنتصف، ومجددًا “بوسيدون” و”إيبت” يجذبانني إلى الداخل، وفجأة ينغلق ذلك اللسان الذي ظهر حينها وسط المحيط. أنا أغرق، تملأ المياه رئتيَّ، لا أقوى على السباحة، على الرغم من البطولة التي أتذكر الآن تحديدًا أنني أقدمت على المشاركة بها، ولكن لا فائدة، ما زلت أغرق. وحين كنت ألفظ أنفاسي الأخيرة، سمعت صوتًا يتحدث إليّ. حاولت فتح عيني قليلا، رأيت “إبت” تخبر “بوسيدون” بأنه على الأقل يمكنه إعطائي مفتاحا أحاول عن طريقه صنع طوق للنجاة. وبصوت اهتزت له البحار والمحيطات، قال: “عليك أن تتذكري، يا سلمى، أنت تعرفين جيدا أن السر هو ذاكرتك”. لقد لفظت أنفاسي الأخيرة أو هذا ما اعتقدته. يسود الصمت، ولا أبصر من المكان سوى اللون الأسود، ولا أعرف ماذا حدث. هل هذا إغماء؟ أم أنني في طريقي إلى الحياة الأخرى؟ وسأركب ذلك القارب مع “إبت” فرس النهر إلى حقول الذرة؟ وفي أعماق عقلي تنبثق ذكرى أخرى. أنا هنا بين سلسلة مهيبة من الجبال، لا أعرف حقيقة موقعها ولا إذا ما كانت هي نفسها حقيقية، وأعلى الجبل يقف أمامي رجل شامخ، بجسد شاب وشعر أشيب طويل كاد أن يلامس كتفيه، ملمسه كالحرير يضيء كالفضة. ينظر إليَّ هو الآخر ويضحك بمكر، ثم ينظر إلى الأرض، هناك جثة ينقض عليها ويلتهم كبدها. ينظر إليَّ مجددًا بعد أن تلطخت عباءته البيضاء باللون الأحمر، وتظهر تسع ذيول خلفه كأنهم أطفاله. ألم تتعرفي علىَّ بعد؟ أنا عزيزك “جوميهو”، نسيتني بهذه السرعة؟ لم يمر على لقائنا سوى مئة عام. مئة عام يا رجل! أنا لم أتجاوز الحادية والعشرين حتى. ماذا بك؟ اقتربي يا حبيبتي، في صوت ناعم يردد اسمي. اقتربت منه وفي جزء لا يُذكر من الثانية كنت أمسح الدماء عن وجهي. تسمرت مكاني كشجرة عمرها مئة عام. لقد سقط “جوميهو” أمامي في صورته الأصلية: ثعلب أبيض، ذيوله التسع نائمة بجانبه كأطفال صغار يطلبون الطعام من أمهم. هل “جوميهو” هذا هو نفسه الأسطورة الكورية الشهيرة؟ لا يبدو لي كأسطورة، إنه أمامي بشحمه ولحمه والدماء تملأ وجهه. رفعت رأسي وإذا بشامان قوي البنية بيده مادة ترابية مثل تلك المادة في أساطير المستذئبين، بنفسجية اللون، يرشونها في الهواء وعندما يستنشقها الذئب يموت على الفور. ولكن لماذا أختنق أنا الأخرى؟ وما هذا الفراء الأبيض الذي يكسو جسدي؟ أخبرني الشامان بضرورة أن أبقى في هيئتي البشرية وإلا اضطر إلى قتلي. أنا الآن في طور التحول، لهذا أثر السم فيَّ. تحول! أي تحول هذا؟ “إذا كنتِ تريدين النجاة، فعليكِ أن تتذكري. يجب أن تتذكري يا سلمى وإلا قتلتك”. قالها الشامان بمنتهى الثبات والهدوء. أنا أعرف هذا الشامان من مكان ما، ألست أنت مدرب “الكوميتيه” في الصف الثاني الإعدادي؟ لم أنتهِ من التفكير. لقد رشني بالمادة البنفسجية القاتلة. لقد مت مجددًا، ولكن هذه المرة أعتقد أن روحي ستنتقل إلى جبل عمره ألف عام لتسكنه، أو ربما إلى جنية تعيش في أعماق المحيط، ولكني أفضل أن أسكن جسد ذلك الشامان. أتجسد مجددًا في هيئته، أقتلع كبده وآكله بنهم. ولكن نفضت تلك الأفكار عن رأسي سريعًا بينما يسود اللون الأسود مجددًا. إنها غرُفة المشفى أو أيا كان اسم هذه المصحة. “أفِق! أفِق!” صراخ، عويل، ونداء. الدماء متناثرة في كل مكان تخرج كالنهر من ذلك الثقب في رأسي، تسيطر علي هالة من الهلع. ينهيها الدكتور بجملة واحدة فقط: يجب أن تتذكري يا سلمى وإلا فستموتين. أصحو على صوت أمي توبخني على كوبي القهوة الموجودين على المنضدة، تلك التي وبكل حزم أتذكر أن طبيبتي النفسية منعتني من ارتشاف ولو رشفة منها. ولكنك تعرف أن مدمني القهوة تمامًا كمدمني الهيروين، ليس من السهل أن يقلعوا. وعلى جانب السرير، الحاسوب ملقى بجانبي. خرجت هي بعد أن أسمعتني ما لذ وطاب من التوبيخ. سحبت حاسوبي لأرى الساعة. إنها الحادية عشرة مساءً. ولكن لا أتذكر أنني نمت من الأساس. كيف أنام وقد شربت للتو كوبين من القهوة؟ وأعني حقًا للتو، فآخر ما رأيته هو ذلك الشيء المتحرك في شكل دائري على الشاشة، عندما طلُب مني أن أنظر إلى الساعة، كانت العاشرة وواحدًا وخمسين دقيقة تقريبا. ولكن ما هذا؟ لماذا تاريخ اليوم مختلف؟ هرعت إلى أمي وسألتها إذا ما استعدوا للسفر أو كانوا بحاجة إلى المساعدة. لتخبرني بضيق: “بلهاء، لا شك في ذلك! لقد عدنا للتو. عدنا للتو؟ هل نمت في الثامن عشر من نوفمبر واستيقظت في العشرين منه؟ أخبرتها أنها لا يمكنها المزاح في تلك الأشياء. التفتت إليَّ وقد تغير لون بشرتها نحو درجتين. كيف يمكن أن يحدث ذلك في عشر دقائق؟ إنهما حقًا يومان! أخذت حاسوبي وبدأت أريها التاريخ الذي كتبته. نظرت إليَّ في قلق واتصلت بأخي تسأله عما إذا كان شعر بشيء غريب في اليومين الماضيين، ليجيبها: “كانت مجرد حالة إعياء بسيطة وانتهت على خير بعد كوب من الماء والسكر. تؤمن أمي أن التوأمين يشعران ببعضهما، أرادت الاطمئنان على عزيزها أيضًا. حمدت الله، وأخبرته أن يحجز ميعادًا أقرب عند طبيبتي النفسية، فحالتي لا تبشر بالخير وأكملت: “لقد نسيتْ هذه المرة يومين كاملين يا ولدي”. تركتها وبرأسي مئات من الأسئلة والشكوك في أن يكون كلامها صحيحًا. وأشعر بخوف أكبر إذا لم يكن كذلك، فسيدل ذلك على أن شيئًا آخر حقيقي، شيئًا لا أقدم على ذكره. انتابتني الحكة خلف أذني، ولكن لماذا أشعر بشيء سائل خلفها؟ ما هذا الشيء السائل؟ إنه أحمر اللون. أستطيع أن أخمن أنك تعلم جيدًا ما هو ذلك اللون يا عزيزي، تعلم جيدًا إلام يشير. رفعت شعري المصبوغ بلون التوت البري الأحمر إلى الأعلى. عليَّ الآن أن أتأكد جيدًا أن هذا اللون هو من تلك الصبغة اللعينة، أدعو وأتلو ما أحفظه لكي يكون كذلك. ولكن لا يتحقق الدعاء دائما يا عزيزي. بدأت أتحسس رقبتي بتوتر، دائرة مرقعة بالجلد على شكل دائري خلف أذني بشكل بشع، يمكن لطالب في السنة الأولى أن يخيط الجرح بشكل أفضل من ذلك. الدماء تملأ أسفل رقبتي.
ولكنني لا أتذكر…