في “المشي أطول وقت ممكن” قررت أن تتركهم جميعاً وأن تمشي وحدها

في "المشي أطول وقت ممكن" قررت أن تتركهم جميعاً وأن تمشي وحدها
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كرمون عبد الله*

الممر المعتم الذي يصلح لتعلم الرقص هو الذي قادني فجأة وبلا جرأة كبرى على الرقص إلي شاعرة جديرة بالفكرة، وبدون ارتجاجات كبرى في فهم الأشياء، لا أعتقد أن بإمكاننا الكتابة عن ديوانها الثالث، إن كان يمكن أن نسميه هكذا بعد كل هذا الشغب الفكري الهائل.

كلما نوينا الإمساك بمخاتلات هذا النوع من الشعر، نكون في الغالب أقرب إلي سوداوية الفشل والخسارة منه إلى لذة النصر بعد قدرة تامة على ترويض الإدعاء.  أعترف أن معرفتي بهذا الاسم في تجربة الشعر كانت من خلال مساء موارب في مقهي منسي، مراوغ حد الشناعة، حميمي حد العشق، كان ذلك من بين أصابع حسن ملهبي الماكرة، هذا الشاعر الذاهب في عمق الهنالك هذا الذي يكبرنا لو يدرك الجميع.

إيمان مرسال إذن اسم له وقع خاص وله سلامة الانسيال مثلما لقصائدها جبروتها الثقيل في خيانة البحيرات الساكنة.

إن قراءة قصائدها تستلزم كثيراً من الجنون وتعلقاً أكبر بشقاء الفلسفة.

 كثيراً ما تختزل تجربة قصيدة النثر في ما تمنح من قدر خاص لتفاصيل اليومي، غير أنها قد تجاوزت هذه العتبة منذ زمن، ولم تكن إلا مجرد عبور طبيعي في تناول الأشياء لم تنحل التجربة أبداً من هذا الاعتناء، ولكنها تعلو دائماً أعلى فأعلي وتلتقط أكثر فأكثر التفاصيل المخبأة تحت الجلد، أيضاً التفاصيل التي لا توقظها إلا الأسرة الخضراء أو الخلوة الساكنة تحت ظلال كروم أو حقائق مزمنة في ضفاف ما.

يظل الشعر بهذا المعني ينأى وينأى في سماء العبث وتنحل خصائصه إذ يبتكر أسئلة أكبر من الإدراك الأقصى.

 لهذا العالم إذن شراهة وفظاظة ليس للشعر وحده أن يهددها، له أن ينتشل أجزاء الحياة من مستنقعات ليس أكثر.

 يخرج هذا النوع من الشعر إذن على تقاليد الرعية، شاهداً بشتمه للأكاديمين، يخرج على الرواة والنقاد القدامى،  يخرج مثل ثورة كبرى على المعني. فماذا يتبقى إذن من ديوان العرب؟

ماذا حدث إذن كي يحيل الشعر دائماً على الكارثة، التي حدثت والتي لم تحدث والتي يمكن أن تحدث في شروط يحسن الشعر في إدراجها على الدوام؟

ألاحظ من خلال كل هذا أن تجربة إيمان مرسال يمكن الوقوف فيها على بؤرة الكارثة، تحدث الكارثة إذن وتبدد الأحلام اللطيفة وتنحل الأشياء وتفقد أشكالها من أجل عبورأو نوم أو لقاء عاشقين ليس بينهما إلا رابط الهاتف الذي يرسل صوتاً بلا شفتين، بلا حركات، بلا لون، هذا السديم هذا الجنون وهذا المعنى البئيس.

ليس ثمة إذن من إيمان بالمطلق سقطت الميتافيزيقا، وتحولت مخاتلات النسبي الشقية في الوعي، غير متثنية عن التحول وبث سراب حاد في الذهن، هذا هو الشعر إذن، استمرار في قول الخراب، وقوف على أن في آخر الممر لن نجد إلا الخسارة.

ليست سمة هذه القصيدة تلك التشاؤمية النزقة ولكن تلك الحقيقية النسبية بأن خلف دوران الأرض روتينية هشة وتراجيديا في البقاء.

لا تنبت الميتافيزيقا في حدائق قصيدة النثر ولا تزرع إيمان مرسال لغة الكتب الصفراء حتى الكلمات التي تقال بها الأشياء تشي بتخلص لابد منه من تراب الملكوت ولهجة الفراديس الأخرى.

الشاعر ليس نبياً وليس قائد كتيبة وليس زعيماً حزبياً، هذا واضح إذن، غير أن تجربة أغلب شعراء قصيدة النثر أو شعراء الحساسية الجديدة أو الملاعين بمعني أو بآخر، تعلن خسارة السياسة، خسارة الإنسان وبؤس الإنسانية، ماذا يمكن فعله إذن لإنقاذ العالم؟

 لا شيء

هذه هي قصيدة النثر؟

يمكن أن نسجل بيننا ما بين تجربة قصيدة النثر والسريالية، لكن هناك ثمة قرابة أكيدة بينها وبين كافكا، هنرى ميللر، بيتر هندكه وآخرين، وإن كانوا في الغالب كتاب رواية وليسوا شعراء، الوصف إذن ليس دائماً مباشراً، بل يكمن في الواقع في الرؤية المشتركة الي الأشياء والعالم وإلي طريقة تناول كل تجربة لموضوعها. كل تجربة تُنبني في البدء على معاكسة المألوف، ويتحول كل جديد بعد ذلك إلي مألوف وعلى المبدع أن يمد دائماً إلي مستوى آخر في الأخذ بالأشياء.

إن تجربة أدونيس مثلا كلاسيكية بالنسبة لقصيدة النثرالتي تقرأ اليوم، وقد نطرح أرضاً كتاباته على أساس استيهاماتها الصوفية المتعالية على بؤس العالم، مثلما نرى في السوسيولوجيا حديث مارسيل موسى عن الظواهر الاجتماعية على أساس أنها أشياء فكرية ومفاهيم، ممتطياً صهوة الطيران إلي أعلى، مسجوناً في قبة المصطلحات تاركاً للحياة تسيل تحت، عكس مثلا لاكان وإن اختلفت رؤاهما للأشياء ومنطلقاتهما المنهجية في التحليل، فإن لاكان كان شديد الحرص على العودة دائماً في كتاباته إلي الواقع لأنه كذلك مرتبط في حياته المهنية بمرضاه، هؤلاء، يشكلون دائماً المربط الذي يعود إليه في الغالب في تحليله للظواهر النفسية والاجتماعية.

لا أعتقد أننا لا نتحدث عن إيمان مرسال في كل هذا؛ فتجربتها في الكتابة تحيل على المأزق بل تفضى إليه، إن الممر المعتم الذي يصلح لتعلم الرقص ممر مسدود!  وإن كنا نرغب أن تقتصر الآن على النظر في” المشي أطول وقت ممكن”.

هناك شعراء يمثلون تيار القصيدة الجديدة وثمة آخرون يشبهون الأعشاب الطفيلية التي تزاحم دائماُ في سمادها وترتبها ولحظتها المشرقة في الربيع تلك النباتات التي يحبها الشعر.

دخلت إيمان مرسال رغم قلة نصوصها باب الفعل الشعري من رؤية هائلة، الأهم أنها قالت العالم والأشياء بقدرة مفزعة على النقد والحب والكره، لم تكن أشد نحافة إلا في القوة المسلطة عليها من خلال الأرض، من وزنها، غير أن الممر والمشي وإن كنا لم نطلع بعد على “اتصافات” ديوانها الأول، هما أكثر بلاغة على اختياراتها الجمالية والفكرية.

إن الممر الذي يصلح للمشى يصلح للرقص أيضا، وإن كان الرقص قد يعني مشياً إلي نار أو هاوية ما.

ماذا يمكن إذن أن نفعل لمسام جلدنا ونحن أمام النار الملتهبة التي تصعد من قصيدة إيمان مرسال؟ كيف يمكن أن نحب البلور الذي ترمى بعبثية قصوى في مهوى الإدراك دون أن نقلق من مصائر رغباتنا الصغيرة؟

يبدو العالم إذن شرساً وتافها في آن واحد جراء قصائد الشاعرة تلك التي تحدث لمداركنا.

 هذه النكرة في الأشياء التي تتأرجح بين الشيء والقيم التي تنفلت من وعي الإنسان. هذا القلق الساكن في عمق الفرد الضائع ليس في سوداوية الرومانسية، ولكن الساقط حقاً في آلية الواقع المادي الذي يمتص دمه.

السياسة إذن لا تجدي، وليس من السهل أن تثبت قدمين على أرض لافتة: “كنا نصرخ بصوت عال/ دون أن يفهمنا أحد”.

قد يفهم من الأمر أن لا معني لحياد، إذ لا حياد أساساً ولكن الأمرأشد تعقيداً مما يمكن أن تتصور. إأن الذهاب في تطرف حاد إلي أقصاه يمكن أن يصل بنا إلي القول بلا جدوى الدوران المتكرر حول الشمس والسؤال كل ربيع عن اسم الوردة؟

يصل الصوفي في مدارج الصفاء الروحي ويهبط الملعون دوماً إلي أسفل شقاوته الأكيدة وعسره المادي.

 لا يمكن الحديث عن قصيدة النثر على أساس أنها سليلة قصيدة “الفن للفن” أو كحوارية في حديقة “ابتسم للحياة” في عالم مكتظ بخسارة الإنساني في السياسة وغلبة الوصولية على الرغبة الحقة في فعل شيء ملموس من أجل صراخ عال في وجه الظلم.

تتشكل أغلب قصائد ” المشي أطول وقت ممكن” عبر تفكك في المعنى وتسلسل شذراتي، ليس العالم في اكتمال ولم تعد الحياة تنسكب على شكل خط أفقي محتدم بكلاسيكية عنيدة.

ظهرت على سطح انشغالات الإنسان المعاصر لطخة عسيرة البدء من فصيلة الطفريات المزمنة المتسببة في ألم صامت، قابلة للتقيح الموسمي. ليس بوسع القارئ المحنك أن يقبل بمعلقات جديدة أو بخطب الفاتحين القدامى، خسرت كل الحروب ولم يعد الله يرعى الخليقة مثلما حدث في عصور النبوة.

تظهر أصوات المنزل الخاص للشاعرة عبر نوافذ معتمة، تنشر أشياءها الذاتية بهدوء بالغ في شمس الربيع الدافئة، للحب سلطته الخاصة على طقس الموسم، لها دائماً شبح يأتي ولا يأتي، وخوف تام من ضمور جسدها، أو رغبتها في عشق المرأة النحيلة التي تكون لها من خلال مشيتها، هذه المرأة لها يد تفقد أشياء، يد لم تفعل شيئاً مؤكداً مما كان عليها أن تنجزه، ما يزعجها أكثرهو أن شخصاً ما يمكن أن ينظر إلي هذه اليد المتروكة في وضع استسلام على الوسادة، إذا لم يتأخر بسبب المواصلات تقول:

“اليد التي لم تصحح الأخطاء اللغوية/ لأناس لم يزل يهمهم النحو والبروليتاريا/ وعند إشعال النار/ لا تصلح إلا لتثبيت علبة الكبريت/ في وضع استسلام / أتركها/ مفتوحة على الوسادة/ لشخص يمكن أن يضع عيونه عليها/ إذا لم تؤخر المواصلات العامة.

 اليد المترفة كأنها ليست يدي/ المُعطلة لسبب لا تفهمه/ تبدو يدي أكثر”

هذه المرأة النحيلة تفرح لأصابع الذي يلمسها لأنه بهى وقادر وكامل، تنزع قصائد إيمان مرسال ومثلها مثل قصائد أكثر شعراء هذه التجربة، إلي التفرد بالنفي والمنع مع مرافقة الشرط، إذ تعلن القصائد في غالبيتها عدم حدوث أو عدم تملك أشياء، كما تعلن حدوث وصول أحداث أخرى في حضور ملازم لأشياء ولأفعال أخرى.

 تجلس أمام المرآة إذ تقول:

 “أجلس أمام المرآة في تدريب شاق/ لإزالة الرائحة التي تركتها شفتان على عنقي” هل  يسهل إزالة أثر الشفتين على عنقها، لا أذكر أن ذلك ممكن، فهي تروى لنا أشياء مذهلة عن رحلة لها لمكان مقدس كله صعود وامتطاء، امتطاء سلم رأسي.

كانت تصعد وتتحدث عن شدادات للصدر وعن صعود، كانت في أعلى السلمة عارية وثمة رذاذ خفيف إذ تقول:

 “في أعلى سلمة/ كنت عارية تحت رذاذ خفيف / لم أجدك، واستيقظت في سرير آخر، لأصدق أن هناك دائماً/ ما هو أكثر من الصواب/ وأتامل جلدي/ حيث لا شيء يلتصق به/  فقط ازداد نحولا/ كأنني أجهّز نفسي لطيران ذاتي”

بعد كل هذه المعرفة وهذه التأملات والمخاوف عن الصواب والجلد وازدياد النحول، تنفجر إحدى رغباتها المبهمة إذ تقول:

“الرغبة التي فشلت في استحضارها/ تنفجر ألان في نقطة عمياء، ولأجلك/ أكنس حياد وجهي/ وأضع الشبق بلمسات محسوبة”

إن التصورات التي تقدمها لنا الشاعرة عن العلائق المؤلمة للأشياء فيما بينها يشي بتوترات كثيرة، إن الرؤية التي تنظر بها إيمان مرسال إلي الجنس وإلي جسد المرآة أكثر إشراقا وأبعث على تأهّل روعته وتعقيد تلقى هذه التصورات عنه ـ تقول بجلاء جميل:

“سندبر صدفة آمنة/ وسيقنع كل منا نفسه/ أن ملابسه سقطت بفعل رياح غامضة/ أن الأعضاء ليست إلا محاولة لتحقيق رغبة قديمة في التواصل/  سندبر صدفة مؤكدين أن الألم الأخلاقي اختراع المتماسكين”.

إن قوة الفعل الشعري لإيمان مرسال يكمن في التقاطها للأساس في أحاسيس الفرد المتعالية عن الزمان والمكان فهي تحدثنا عن خيانة دون أن تفشى السر، هنا تكمن قوة قصيدتها أيضاً إذ قالت الأهم عن لقاء جسدين في لحظة حميمة تامة وتحدثت عن حصول لذة أكيدة، كان تتويج هذا الالتصاق اعترافين أولهما إذ قال لها بقوة المندفع إليها:

سأعطيك ما عجزت الزوجة عن اكتشافه

وثانيهما، إذ بقيت هي مسمرة في عجزها المزمن الذي ينطلق من فقدان غير قابل لترميم:

“لن أمنحك/ ما فشلت في تقديمه إليه”

يساق هذا الشبق والشغف بميلان الجسد وحدائقه أبعد من رشقه بلطخة الخيانة، إذ في أحايين أكثر تتحول بفعل عدم إطلاقية الفكر إلي شيء جميل آخاذ. إن الشاعرة مهووسة بالحديث عن الشحوب والنحافة فهي تكشف أنه:

“فؤجي بنحافتها الزائدة، فتحدث عن شفافية الشحوب/ وأن الحنان المختبيء تحت عظم كتفيها/ تعبير حداثي عن الأنوثة”.

          في كل قصائد الديوان حديث ما عن النحول، مفاجأة اكتشاف استعداد الجسد التام الي تهويم في الفضاء أقرب إلي التقاط اللذة من تنغيص نرجسي قاتل.

لا يمكن أن أقول الأشياء كما قيلت في القصائد وإلا كان ما أكتب هو تلك النصوص نفسها، وليس تأملاً صغيراً في جبروتها على ملاحقة موج الزبد العالى.

تمسك إذن إيمان مرسال بخيوط نصوصها وتدرك أكثر من أي قاريء آخر أنها تمسك بالنار وتقترب من أقرب لحظة بارودية، هدفها أن تفسد نمر الطفيليات وسراب المتيافيزيقا، لا الأشياء في سكون، لا القيم هي القيم، نهرهيراقيطس يسيل إلي أبد. ولإيمان مرسال أن ترى صخباً في سكون ومعنى في ظل ممتد لا نهائي وعنيد، تقول

“أما عنكبوت الحوائط/ فيتحول إلي كرات سوداء/ تشبه تصوري عن رئتي/ بعد سنوات مزدهرة بالتدخين”.

“الستارة لا تتعب من وقفتها/ ما دامت معلقة من أعلى”.

 كل التفاصيل الدقيقة يمكن أن تكون وقوداً للتأمل الشعري، لم نعد نحتاج إلي المنظومات كي ندرس الفيزياء، ولم نعد نحتاج إلي ديكارت كي نتحدث عن الله، ولم نعد نحتاج إلي إعجاز الجرجاني كي نتأمل الستارة التي لا تتعب من وقفتها لأنها معلقة من أعلى.

إن الحصول على الصفاء الذهني الكافي بتشكيل هذه الرؤية إلي الأشياء الثابتة الهامشية حد الإلغاء، المحايثة للفضاء الكلي حد التلاشي، جدير بالحديث عن بلاغة هائلة وتجرد سام عن المفاهيم القديمة عن الشعري.

إن الأساسي في تجربة إيمان مرسال مثلها في ذلك مثل تجارب جل شعراء قصيدة النثر، هو تلك النظرة القاسية إلي وقائع الحياة وسيرورة التحولات الفيزيائية ونبض الدم في العروق،

تقول:

” بنفس الدرجة/ يتزايد عدد بيوت المغتربات/ والاحتمالات/ والسنوات التي تفصلنا عن ميلاد المسيح/ والكراكيب فوق الأسطح القديمة”

نص إيمان مرسال يرتفع بنا إلي سدة القلق ويجعل ارتطامنا جاداً بغصة المعنى. تزداد السنوات التي تفصلنا عن ميلاد المسيح وعن أساطير أخرى ونكتب أكثر من أجل سراب كثير.

تتناسل إذن حياة كثيرة ويستشري ذبول مضاعف ونحن نرتجف بوعي ذاهل، إذ تحتوينا حركة الكون والأشياء، نشرع قصائدنا الصغيرة أمام لجة الريح، يتكاثر الأكاديميون الذين يشربون الحليب مثلما تتكاثر دورالصلاة، كأن في الأمر سخرية وافتراء والعالم يسير أكثر فأكثر اقتراباً من سقف الأسئلة وينأى سريعاً عن مهد المسيح ونضارة العمر.

إن إيمان مرسال في نحتها لحمم هاجسها الشعري تستل الفلسفة كي تقد قصيدتها المتأملة. ليس من السهل أن يجعل الشاعر بعض تصدعات اليومي تسمو وتدخل بانفراج إلي باحة الشعري.

ما تفعله إيمان مرسال في هذا الديوان هو بالحق مشى أطول وقت ممكن وذلك وحدها إذ تترك السرب وتنخرط في هبوبها.

لقد عصفت بكل فرضيات الكمال وتبنت بامتياز تشظيات المشي، إن قصائد هذا الديوان تدفع القارئ كي يمتهن السؤال ويترك أبعد من مسقط يده تعاليم السوفسطائية حول نظريات اللفظ والمعنى وشهادة هذا وذلك حول صحة الشعر أوعدمه.

تقفل إيمان مرسال كتاب الوصايا وتصرخ مثل بيسوا في سديم كل النقاد، هو إذا يمضي وهي إذ تنطلق في حيوات أخرى: هاتوا نظارتي كي اشتمكم جميعاً وأقرأ هذا النص الذي ترون.

لم نحاول إلا مجرد صعود صغير إلي حدائق مرسال، إذ الكتابة عن هذا النوع من المخاتلات خطير للمعنى.

خرجت الشاعرة من قراءات هنري ميلر وذكرى الماركسية وغير ذلك ورأت أن بزوغ الشمس يتأتي أيضا من موت الطبقات وانفراج آبار البيرة من بين أقدام الرفاق بعد اندلاع الصوفية في قلب الثوري، هذه المرآة اختارت أن تترك الجميع لتمشي وحدها، إذ لا يتحدث الثوري إلا عن ثورته  “الأنبياء يصمتون بالضرورة/ عندما يصبحون أكثر قرباً/ من الذي أرسلهم”

واضح إذن أن قصيدة النثر تخرج على الناس بملامح قاسية ليس من السهل مجاراتها وليس من السهل الانفلات من مداعبة شغبها كلما نفذنا إلي أقاصي سلالتها. لقد أعلنت منذ زمن القطعية التامة مع الإسراف في عبادة اللغة وأدركت منذ البدء بأن المعني الأكثر عمقاً يترجم بلغة أقل جزالة وببلاغة آتية من كسر الأصنام.

لإيمان مرسال في كل هذا طريقها وممراتها المعتمة والمضيئة ولها مشيتها وطول وقت وكل إمكانيات الشعر المذهلة. ولكنها منذ أن أعلنت أنها قررت عندما قررت قالت ومضت في تأجج ثلاثينيات نضجها: “وعندما قررت أن أتركهم جميعاً/ أن أمشي وحدي/ كنت قد بلغت الثلاثين”

غير أن ما ينتظرنا ما يزال شاهقاً، تلك الكارثة التي نمضي إليها جميعاً، إيمان مرسال في ملكوت غربتها الكندية والقارئ في بركان خطوته المميت:

“مفتوحي العينين نمشي إلي الكارثة

 ليس هناك ارتباك

 وبقوة الخوف وحده

نقطف الشوكة التي تؤرق أخوتنا

 مطمئنين للروايات المترجمة

ولتوفر تبريرات جمالية

للخيانة.

ــــــــــــــــــــــــ

* شاعر ومترجم  مغربي يقيم في باريس

*القدس العربي ع 4690  الثلاثاء، 22 يونيو 2004

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم