نعمان الحاج حسين
“كانا لا يفوتان فرصة يفترقان فيها”
دنيس دي رجمون
الفارق الجوهري بين من عاش قصة حب ومن لم يعشها، مثل الفارق بين من عاش تجربة ان يقتل إنسانا أو أن يموت في الحرب، وبين من لم يعش هذه التجربة لكنه يسمعها أو حتى يرويها غير أنه لا يستطيع أن يعرف عمقها أو مدى حس الخسارة والربح فيها، ولا يمكنه أن يدرك معنى الإحساس بالنجاة من الحرب ولا طعم الحياة بعد ملامسة الموت. وهذا فارق لا يمكن تجاوزه، وكذلك الفارق بين من أحب ومن لم يحب، ونحن نتحدث هنا عن الذين عاشوا تجربة الحب كما لو أننا نتحدث فقط عن الناجين من الحرب، والفارق بين من أحب وبين من لم يحب بمثابة الفارق الجوهري، أما الفوارق داخل الحب فهي فوارق ظاهرية.
وعلى العكس من شكوى المحبين في تاريخ الأدب والسينما وتاريخ الحب نفسه، فلا أحد يخسر تماما في الحب والجميع يربح قصة الحب في النهاية، لأن الجميع عاش التجربة منذ البداية وكان بطلا رئيسيا فيها بما تعنيه الكلمة من ملاعبة الخطر والتعرض له والمغامرة بالسكينة الداخلية من اجل شخص آخر، مثلما أن رواة الحرب كلهم ناجون وليسوا موتى، طالما أنهم هم من يروي الرواية، وحتى لو كانت روايتهم عن التعرض للموت، فإنهم أحياء. وكذلك الخاسر في الحب، يربح دون أن يفقد خسارته، والرابح يخسر ويظل محتفظا بربحه، فالخاسر، أي المحب الذي كابد القلق في البداية خوفا من خسارة المحبوب – أو هكذا يظن – فإنه يربح الحب، ويحصل على المكافأة لاحقا في وقت متأخر. والرابح أي المحبوب، الذي يكون في أول الحب واثقا من المحب، فلا يكابد القلق من خسارة الحب ويتصرف بحبه كيفما يشاء، ولأن الحب يتمزق فإنه يخسر المحب – أو هكذا يظن – فيكابد قلق الحب في النهاية. والنتيجة واحدة لأنها محددة مسبقا بالنسبة الى كل من تعرضوا لحادثة الحب سواء كانوا محبين او محبوبين في البداية، لأنه في النهاية فان المحب سيصبح محبوبا والمحبوب سيصبح محبا، والخاسرون الأصليون هم من لم يتعرضوا للحب أصلا .
* * *
المحب العريق يشكو ظاهريا من انه أضاع حبه، لأنه أضاع محبوبه، لكنه لا ينساه أبدا لأنه لا ينسى حبه، ولأنه لا يمكن لأحد إن ينسى الحادث الذي أصابه يوما، ولا يمكن أن يتخلص من أثاره على روحه وجسده. بداية الحب، او اللقاء الأول، او حتى النظرة الأولى في بعض الحالات، لحظة فاصلة بين ما قبلها وما بعدها، وصدفة اللقاء مع كل ما أحاط بها سوف تكون صدفة قدرية، لان كل ما بعدها سيكون كمثل امتداد خطي لها. وتبدأ المحنة من تضارب مشاعر المحب والمحبوب بعد وقوعهما في الحب، حين تشوش الرغبة بالامتلاك مشاعرهما الأولية، فكل واحد منهما يريد تملك الآخر للتخلص من خوفه عليه ومن خوفه منه ولكنهما يكتشفان ان الخوف لم يبدأ بعد وان الآتي أعظم . وشكوى المحب تنصب على أمور عارضة وأنانية وليست أصلية، فالمحب الذي أسميناه خاسرا لأنه يحب المحبوب ويظن أنه هو نفسه ليس محبوبا، فيشعر أن الحب قيد وانه أسير يعاني دون رحمة وانه بدون إرادة، والمحبوب لأنه محبوب، يظن انه لا يحب إلا بإرادته ويشعر بان الحب حرية، لأنه حر ومحبوب في الوقت نفسه، ويشعر أن الحياة أعطته كل شيء، وان ليس عليه سوى أن يأخذ أو يدع ما يريده .
ويحتاج المحب وقتا لكي يدرك أن ما كان يظنه خسارات في الحب، حين كان المحبوب لاهيا وواثقا من حبه، إنما هي مكاسب لا تقدر بثمن . وهو لا يبادل معاناته مع شخص لم يكابد الحب لأنه لم يحب، أما هو فقد أحب وكابد المعاناة وكانت حياته لذلك مميزة وذات طعم . والمحبوب يحتاج، هو أيضا للوقت، لكي يأكله الندم على ما كان يحسبه مكاسب فائضة من حب في متناول اليد، لأنه لن يحصل من شخص آخر على حب مضمون، فيتحول دون إرادة إلى محب للمحب القديم، بعد أن كان محبوبا قديما، وكان يستطيع أن يظهر أو يختفي متى شاء، لكنه الآن لا يستطيع الظهور ولا يعرف أن يختفي، بينما المحب يتقن التخفي فهو يعيش في ظلمة الحب ولا يستعجل الخروج إلى الضوء، والمحبوب الآن متأكد انه لا يستطيع العيش بدون حب كهذا، وهو لن يجده في أي مكان آخر ولا في وقت آخر، ويكتشف انه لم يكن يوما حرا مثلما ظن بل كان أسير متعته الأنانية دون أن يدري، أسيرا للحب من الجهة الأخرى ومن الجانب الآخر للمتعة، أن يكون محبوبا دون مغامرة، محبوبا لسبب غامض وكان يستمتع في تخمين السبب، لكنه الآن يستسلم لحبه ويشعر انه أضاع المحب الوحيد، وان عليه استعادته بأي ثمن، فعلى الأقل يتعلق المحبوب بصورته في مرآة المحب ولا يستطيع استبدالها حتى بصورته الحقيقية، بعد أن كان المحب هو الذي يظن انه أضاع المحبوب ولا يمكنه استرداده.
في مقطع من رواية “الوله التركي” لانطونيو غالا، تلعب البطلة أثناء إحدى الرحلات السياحية لعبة مع رفاقها : “كانت لاورا قد اقترحت لعبة: ان نستقصي من المحب ومن المحبوب، ليس بيننا نحن الأزواج الثلاثة وحسب، بل أيضا بين من جاؤوا في الرحلة وآخرين نعرفهم جميعا . بحسب رأيها نحن نولد ودور المحب والمحبوب مقسم، وهو الدور الذي نلعبه خلال حياتنا كلها. طبعا المحبوب محب قليلا، متجاوب قليلا، لكن الموقف المسبق والجوهري مطبوع عند كل منهما. في كل علاقة حب يوجد أخيرا عابد ومعبود، سيد وعبد، هناك من ينفجر بالكلام، ومن يرد”-1- والبطلة دسيدريا خرجت من اللعبة “محبة” وزوجها خرج محبوبا، والقصة تدور حول وقوعها في حب رجل تركي، ونفهم في سياق الرواية ان حبيبها كان محبوبا أيضا، وكان يتحكم بها في البداية طوال الوقت . .
تكمن مكابدة المحب ومراراته، من انه يرى المحبوب كاملا، وساحرا، وفائق الجمال، وهو فوق ذلك متاح للجميع ما عداه، مع انه متاح له أيضا، لكنه يفقد هذا الإحساس ويشعر بالحنين للفترة السابقة حين كان المحبوب كائنا مثل الآخرين وكان المحب قادرا على التعامل معه بشكل حر، أما بعد أن يقع في الحب، فانه يستغرب أن الآخرين لا يشعرون بالزلزال عندما يحادثون المحبوب او يحادثهم، وكذلك لا يعاني المحبوب عندما يتحادث مع المحب، مما يزيد من صفات المحبوب الخارقة بنظر المحب، بينما هو يعاني ويبذل جهودا مضنية عندما يقترب من المحبوب او يتكلم معه، وهي ممارسة يؤديها المحبوب كما يؤديها الآخرون دون جهد. وهذه مراحل الوله والكلف والهيام في الحب عند العرب. والمحب يفضل الهرب أحيانا من هذا الجحيم، ويفضل رؤية المحبوب من بعيد دون أن يكون هو مرئيا. تقول “دسيدريا”، بطلة رواية الوله التركي، عن حبيبها: “ولكي أفكر به بكل قواي احتاجه أحيانا أن يختفي “. -2-
وانجح المحادثات في هذه الفترة تلك التي تقع بالصدفة، أي حين يجد المحب نفسه وجها لوجه مع المحبوب، في مناسبة أو أخرى ودون توقع مسبق، فيحصل على انجازات هائلة ولكنها لا تحتمل، فيختصر اللقاء قدر الإمكان لكي يحمل ما يمكن حمله ويعود به إلى استيهاماته، ويفضل القليل على الكثير، لان أي شيء يعادل كل شيء من المحبوب . وبعد لقاء كهذا يتغذى خيال المحب على مواضيع مستمدة من اللقاء لعدة أيام، فيعيد ترتيب وتفسير وتأويل كل كلمة أو إشارة أو حركة، فقد يفسر إشارة ما على أنها دليل لا يدحض على أن المحبوب يحبه ولكن التفسير ينسخ في تفسير لاحق لإشارة معاكسة يتم تأويلها على أنها تعبر عن انعدام الحب بصورة يصعب إنكارها أيضا. ثياب المحبوب – بالصدفة – هي الثياب المفضلة لدى المحب، وكذلك ابتساماته وتحياته ونظراته، ويقول المحب لنفسه انه كان يمكن أن لا يتعلق بالمحبوب فقط لولا ضحكته أو لولا مشيته أو اختياره للثياب، ضمن شبكة يسقط فيها المحب حتى الأعماق، والحقيقة أن خيال المحب يقوم بعملية لاحقة على أنها سابقة، أي أن كل ما يفعله المحبوب أو يرتديه يصبح مفضلا بشكل لاحق، لكنه لا يدرك ذلك ويعتبره مفضلا من قبل، والدليل انه حتى ألوان الملابس، وهي خيارات عشوائية لا نهائية، يرى أنها هي أيضا المفضلة مسبقا لديه، ويظن أن المحبوب يفعل ذلك عمدا ولا يبالي بهوسه، حتى اسم المحبوب هو أكثر الأسماء تميزا وحاملا للمغزى، ولا ينتبه إلى أن آخرين يحملون الاسم نفسه لكنه يتنبه إلى الاسم فقط . وفي أسطورة ” تريستان وايزولدة ” بعد الفراق الأخير بينهما يتزوج تريستان امرأة أخرى اسمها هي أيضا “ايزولدة” وتقول الأسطورة انه ” تزوجها من اجل اسمها وجمالها “- 3-
ويتمنى المحب أن يساعده احد في رؤية المحبوب رؤية واقعية، أو أن يصفه وصفا محايدا، لأنه رغم انه ينظر إليه طوال الوقت لكنه يستشعر عجزا عن رؤيته، وعندما يفعل الآخرون ذلك ويصفون له المحبوب فانه لا يصدقهم، ويشعر انه غارق في خيال لم يعد يتحكم به . وإذا وقعت عينا المحبوب على المحب في لمحة عابرة ولم يعد المحبوب للنظر ثانية، فإنها طعنة في قلب المحب، بينما المحبوب ينظر في كل الاتجاهات بلامبالاة، ولا يجد المحب مع الوقت مفرا من تحويل سلوك المحبوب الساحق بلامبالاته، إلى تكتيك يتبعه هو بنفسه، فيتعمد المحب التصرف بلا مبالاة وقلة اهتمام، دون أن يدري، إلا في وقت متأخر جدا انه تكتيك عند المحبوب أيضا وليس مجرد سلوك لا مبال . ويستطيع شخص دقيق الملاحظة ان يعرف من بين الحضور من هو محب لمن ، ومن هو محبوب من قبل من ، بسبب لغة إشارات بمثابة أسئلة وأجوبة لا تشبه إلا نفسها ولا تقع إلا بين محبين . وقد يجد الآخرون هذا الهوس مضحكا، لكنه مثل كل هوس آخر، الديني والفني، وهوس الحب ليس استثناء .
* * *
هذه هي التفاصيل المؤلمة واللانهائية التي يعيشها المحب والتي تجعله يتعذب طوال الوقت، ويشعر أن لا احد يستطيع ان يساعده، ولكن هذه التفاصيل المعذبة نفسها كنز من المتع الصغيرة وغير الاعتيادية، والتي تجعل الحياة اليومية تتراوح بين الفردوس والجحيم دون المرور بالواقع الرتيب، ولا ينتبه إلا فيما بعد، إلى أي حد يعتبره المحبوب شخصا مرهفا تجاه الأشياء والعلاقات، ولديه خيال غني ومبدع، ولكن المحبوب لا يخبر المحب بإعجابه بكل ذلك ولا يدعه يتأكد من هذا ، ويخفيه عنه بسهولة في البداية لكي يستمتع به وحده، ويعتمد للنجاح في الخدعة على هوس المحب في قراءة الإشارات بطريقة معكوسة. وهكذا يبدو المحبوب سعيدا مع الآخرين – خصوصا – مع انه سعيد بما يفكر فيه المحب وليس ما يفعله حقا مع الآخرين . لكنه يبدوا جامدا أحيانا حين يكون مع المحب فقط ، لأنه يكون في المركز، بينما يريد المحبوب أن يظل بعيدا عن المحب، لأنه يعرف انه بقدر ما يبتعد عنه، فانه سيكون بذلك قريبا من خيال المحب الذي يشيد حبه مثل أسطورة، وان المحب سوف يحلق به إلى مستويات أخرى. وكما لو ان المحبوب يختبر إلى أي حد يمكن للمحب ان يتبعه. ويصبح المحبوب مدمنا على هذه المتعة ولكن مع الوقت يكتشف انه لم يعد قادرا على الاستغناء عن ما أسبغه عليه المحب، ويصبح شيئا فشيئا يرى نفسه كما يراه المحب، أي رهينة للأسطورة التي أسقطها المحب عليه وكأن المحب كان ينسج سجنا خياليا واستدرج المحبوب ليصبح سجينا فيه، ضمن خطة محكمة لم يضعها بنفسه لكنه كان يحس بها بصورة لاواعية. والمحبوب لا يتكلم لغة المحب ولكنه يفهمها حين يسمعها لأنه معني بها، لكن لغة المحب هي لغة عالمه الخاص المتكاملة مع مختلف الموضوعات، وتعلق المحب بالمحبوب جزء من تعلقه بالموضوعات، بل يكاد يكون هذا بالضبط ما يجعله محبا، ويصبح تعلقه بالموضوعات جزءا من تعلقه بالمحبوب. أما اللغة التي يتكلمها المحبوب الذي كأنه يعيش في برج عاجي، فهي لغة العالم الخارجي الشبيهة بلغة برج بابل المبلبلة، وخلال مراحل علاقته مع المحب يقف المحبوب مرارا على أبواب عالم المحب ، ولكنه لا يجرؤ أن يمنح نفسه كلية لهذا العالم ، وهو لا يريد أن يخسره أيضا كما انه يخشى خسارة العالم الخارجي فيراوح على الحد الفاصل.
وعلى الرغم من مظهر الواثق من نفسه الذي يظهر عليه المحبوب، نتيجة تلقيه عروض الحب المتتالية والتي تبقى معلقة لأنه لا يعطي إجابة قاطعة في سبيل تجميع المعجبين، وكأن الحياة المحيطة به كوميديا يسعد فيها الجميع، في مقابل الارتباك الدائم والقلق التراجيدي الذي يعيشه المحب، إلا أن المحبوب يسير في داخله على خيط رفيع ويخشى من لحظة تدور حولها كل مخاوفه ، من أن يفشل في الحب إذا أحب هو محبوبا لا يحبه ، او إذا أصيب المحب الأصلي باليأس وفقد حبه له، وهذا خوفه الأكبر لأن المحب ليس المحب الأصلي وحسب، ولا حتى المحب الأول بل هو” الحب الأول للمحبوب” ، وفشله سيكون رمزا لكل فشل آخر، فيتحول من راقص بارع على الحبل إلى مهرج، ويخسر كل مكاسبه دفعة واحدة ويخسر – خاصة – سحره الذي لا يستطيع العيش بدونه والذي يخلب ألباب معجبيه. أي ان المحبوب يعيش لحظات كآبة في أعماقه يخفيها عن الجميع لأنها تشوه جماله الخارجي ولأنه لا يملك حياة داخلية. ولا يلحظ كآبته في لمحات خاطفة سوى المحب الذي يجيد قراءتها جيدا، والذي يكون قد جمع كل خسائره مثل كنز وأصبح جاهزا لإنقاذ المحبوب، فهو ليس مجرد متفرج في العرض بل لاعب أساسي من خلف الستار، وهو رغم كآبته الظاهرة إلا انه في أعماقه إنسان سعيد متناغم مع عوالمه الداخلية. ولا يجد المحبوب من أمل أخير سوى الأمل الأول أي المحب، الذي ادخله عالم الخيال من بوابة خياله الخاص.
في رواية الوله التركي بعد لعبة “المحب والمحبوب” واستنكار بعض الذين اعتبروا محبوبين تتساءل البطلة دسيدريا: ” لماذا ما من احد يريد أن يعتبر محبوبا؟ ” وتضيف: “رحت أفكر ببرهان هذا الحب الخطير. سمعة المحب أفضل. انه المعذب الأكبر، الخاسر الأكبر. المحبوب ذريعة الحب وباعثه، وها قد بدأت المشاعر مسيرتها وما عاد المحبوب ضروريا، تكفي آثاره. “. -4-
يصبح المحبوب أسير خيال المحب، ويصبح محبا، فهو لن يجد أحدا غيره يعتبر مجرد لفظ اسمه حدثا استثنائيا، ناهيك عن مصافحة باليد. وفي هذه المرحلة يصبح الحب حبا بكل ما تعنيه الكلمة، وعندما يلتقي المحب مع المحبوب فان كل ما كان يعذب المحب يصبح ممتعا له، فهذا المحبوب، الذي لا يملك سوى السحر والجمال إلى درجة مختلفة عن كل الآخرين ، يصبح حريصا على أن يبدو كما يريد المحب بعد ان كان بعيد المنال. ويكتشف المحب في المحبوب تمسكه بكل ما أسبغه عليه، لكن المحبوب لا يعرف التصرف به ويخشى ان يهدره، فيبدو المحبوب جريحا من الحب في داخله كما كان المحب سابقا. وهذه سمة ساحرة أخرى يكتسبها المحبوب في نظر المحب، فالمحب الذي اختبر كل العواطف نحو المحبوب ما عدا عاطفة العطف – لان المحب هو الذي كان محتاجا لها – يشعر الآن انه بالإضافة إلى حبه للمحبوب فانه يحنو عليه وان المحبوب لم يعد يتحكم باللعبة . .
الحب علاقة خاصة، مفرطة الخصوصية، ولا تشبه أية علاقة أخرى، ولا حتى مجرد العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة حتى عندما تتضمنه أو حين يتضمن الحب علاقة كهذه. وهذا في المرحلة الأولى، حيث تكون الرغبة تلخيصا لقاموس هائل من مفردات وإشارات الحب، التي تشبه ترجمة كثيفة وملتبسة عن لغة مجهولة. أي ان المحب والمحبوب يتمنيان العلاقة الناتجة عن الرغبة كخلاص من عذاب الحب، وليس كهدف له كما يظنان في البداية وكما ينظر كثير من الناس إلى علاقة الحب في منتهى غايتها. وفي الوله التركي تقول البطلة: ” كثيرا ما فكرت ان ولهي اشد عنفا من رغبتي الجنسية وأكثر شخصية، لكن من المفجع انه اقل إمكانية للنقل الى الآخر. يمكنك إثارة الرغبة في كائن آخر، لكن ليس الوله “. -5-
فالمحب والمحبوب يتعرفان إلى أشخاص آخرين، ويقيمان علاقات معهم وقد يتزوج كل واحد منهما بشريك آخر، وذلك بسبب سوء الفهم، وهو نمط متكرر في قصص الحب وكأنه جزء من القاموس المشترك بين العشاق، والذي يحدث في ذروة العلاقة بين المحب والمحبوب. ويبدو في الظاهر ان سبب سوء الفهم الذي يؤدي إلى الافتراق، ناجم عن هوس المحب، واندفاعه، وحساسياته المتعبة، التي تدفع المحبوب بعيدا عنه، فالمحب ليس لديه سوى محبوب واحد، مهما اتخذ من علاقات، لكن ما هو أكثر واقعية كسبب لسوء الفهم هو هوس المحبوب، مع انه يبدو لا مباليا لكنه، بسبب شعوره بامتلاك مساحة من المناورة باعتباره محبوبا، فانه يسعى للحصول على محبين عديدين يكونون إلى جانب المحب، وهذه هي الأسطورة التي يرغب المحبوب في تشييدها لنفسه، في مقابل الأسطورة التي يشيدها المحب للمحبوب. وهذا سبب حزن المحبوب او كآبته التي يعيشها وحده لأنه يريد ان يكون المحب ملكا له، لكنه لا يريد ان يسلم نفسه لهذا الحب الوحيد رغم معرفته انه حبه الحقيقي، لأنه اذا فعل ذلك ستكون لعبة الحب قد انتهت مبكرا بينما هو يريد ان يكون محبوبا من الكل دون ان يمنح حبه إلا للمحب .
ولكن الأسطورة التي يصنعها المحبوب بكثير من الافتعال والارتجال فارغة من المضمون، لأنه يختار محبيه وان يكن بطريقة غير مباشرة وإيحائية ، بينما المحب الأصلي هو من قام بالاختيار وغامر بنفسه، وهي مع ذلك – وربما بسبب ذلك – اخطر العاب المحبوب، والتي قد يترتب عليها ما يثقل كاهله طوال العمر، ليس بسبب المنافسة التي قد تنشا بين المحبين الآخرين فقط ، بل لان المحبوب يفقد في بعض المراحل بوصلته، ويختلط عليه المحب الأصلي من المزيف. والمحب الأصلي، وحده، لا ينافس مع المتنافسين على المحبوب، لأنه يعرف أن المحبوب يتلاعب بهم، أما هو فلا يعتبر نفسه ضحية تلاعب، بل ضحية حرب او صراع هو صراع الحب، ولذلك قد يشعر بالتعاطف اتجاه منافسيه بدل الغيرة منهم، لعلمه أنهم ضحايا قضية لا دخل لهم فيها، وحين يلاحظ المحبوب ذلك يتلقى أقوى رسالة من المحب، دون أن يكون قادرا على فك لغزها، حين يشعر ان من بين كل عناصر الهوس عند المحب، فان الغيرة ليست واحدة منها، وكأن المحب لا يغار على المحبوب في وقت كان المحبوب يراهن للحصول على أقصى متعة من إثارة غيرته، بل يشعر المحبوب كما لو ان هناك تناسب عكسي بين شدة حب المحب للمحبوب وبين قلة غيرته عليه، بدل التناسب الطردي وطبعا هذا غير صحيح فرغم ان المحب والمحبوب شريكان في عقدة الحب نفسها، إلا أن قراءة الإشارات عند الاثنين تسيران في خطين متعاكسين في توازيهما ولا يتقاطعان دائما، ثم إن ما يبدو انعدام غيرة عند المحب ناتج عن ان المحب يعرف تماما عمق المهاوي التي يغرق فيها، ولا يلقي بالا لمناورة مكشوفة مثل الزج بالمحبين المتعددين بينهما، فهو منشغل بما هو اخطر، بينما المحبوب غارق في الحب دون ان يعرف، وكل ذلك يحدث قبل ان يبلغ المحبوب المرحلة التي يدرك فيها انه ليس المسيطر على لعبة الحب، وان الحب أكثر من لعبة مسلية، عندما يكتشف المحبوب ان ليس هناك أيضا سوى محب واحد أي بمثابة “محبوب” أما المحب فقد كان واضحا من البداية حين لم يبحث عن أي محبوب آخر حتى لو لم يكن المحبوب محبا .
كثير ممن نجحوا في الزواج وفق هذا النوع من الحب العميق قد انتهوا إلى فشل مزق كل حبهما بشكل كارثي، فغالبا ما يفشل هذا النوع من الحب في الاقتران الزوجي، لكنه ينجح في ان يبقى حبا للأبد بعد أن يعيش كل منهما حياته مع الآخرين، وعندما يلتقيان فان ما يجمعهما غير قابل للتفريق حتى بعد ان افترقا هما نفسيهما، ويكتشفان ان الحب الواقع بينهما يستمر الى ما بعد الرغبة ويظل مشبوبا والإحساس الذي يرافق المحب والمحبوب معا إحساس لا يشبه شيئا سوى ان يعاش – وهو معاش عند كثير من البشر – وما كان “وهما” ناتجا عن خيال المحب يصبح واقعا للمحبوب، فحتى هو حين يسمع اسم المحب يخلبه السحر كما لو انه اسم المحبوب .
في رواية “الوله التركي” فان بطلة الرواية، وهي “المحبة”، تنتحر بعد ان تتغلب على حبيبها “المحبوب”، الذي يلاقي مصيرا بائسا. لكن هذا منحى آخر لرواية كان للروائي فيها هدف مختلف عن هدف هذه المقالة، لكننا سعينا للاقتباس منها لسبب أساسي هو تعزيز “التقسيم” بين المحب والمحبوب، والذي فعلته الرواية بشكل واضح رغم ان الحب بصورته الشائعة علاقة بين حبيبين متساويين. ورغم ان الرواية تعمقت في عرض الحب بشكل استثنائي إلا أن هذه قصة أخرى تماما .
…………………….
- انطونيو غالا – الوله التركي ط1– ترجمة رفعت عطفة – دار ورد – دمشق – 1998 ص66
- انطونيو غالا – المصدر السابق – ص 125
- دني سدي رجمون – الحب والغرب – ترجمة عمر شخاشيرو – وزارة الثقافة – دمشق – 1972 – ص 31
- انطونيو غالا – ص 67
- انطونيو غالا – ص 124