“في أثر عنايات الزيات”.. بين تتبع الأثر والسيرة الذاتية

في أثر عنايات الزيات
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. عزة مازن

في كتابها الأحدث “في أثر عنايات الزيات” (2019) تقتفي الشاعرة والكاتبة إيمان مرسال أثر الأديبة الراحلة عنايات الزيات، تقودها إليها رواية وحيدة بعنوان “الحب والصمت” منشورة عام 1967، بعد رحيل كاتبتها منتحرة عام 1963، في نهاية العشرينيات من عمرها.  في خيوط تزيدها التفاصيل تشابكًا أحيانًا وتبعاد بينها الفجوات أحيانًا أخر يلتقي التاريخ بالسياسة بالقضايا الإجتماعية وقضايا المرأة، تتخللها قضايا وجودية تبحث في حرية الإنسان واستقلال قراراته. في إطار يجمع بين التحقيق الصحفي والبحث المعرفي والخيال الأدبي تنجرف الكاتبة وراء البحث عن صاحبة رواية “الحب والصمت”، التي تركت بصمة عميقة على طريق الأدب، ومع ذلك غفلتها قوائم التأريخ للرواية العربية وكتابة المرأة العربية.

يُستهل السرد ببحث الكاتبة عن “مدفن المرحوم رشيد باشا بالعفيفي”، لا تحمل سوى العنوان المكتوب في جريدة الأهرام في يناير 1967 لذكرى المرحومة عنايات الزيات. في 19 فبراير 2019 تذهب الكاتبة إلى البساتين، لا تحمل سوى ذلك العنوان: “عندما وجدت هذه المعلومة في صفحة الوفيات، كنت واثقة أن هناك الكثير من القصص في ذاكرة من بقوا، وفي صفحات الكتب وركام الأرشيف، وما علىَ إلا أن أتحلى بالصبر. والآن بعد سنوات من احتفاظي بصورة هذه القصاصة، وكأنها هوية عنايات الشخصية، وبعد أن توالت مكالماتي مع بولا منذ الخريف الماضي، لا أعرف من هو رشيد باشا، ولا قرابته لها. إنني حتى لا أعرف اسمه الأول، وإذا كان أصله مصريًا أم تركيًا أم جركسيًا”. يغوص السرد في حكايات أربعة ممن يحملون اسم رشيد باشا في القرن التاسع عشر. بينما تتجول الكاتبة بين المقابر بحثًا عن مدفن عنايات الزيات يتحول السرد إلى شئ من النقد الاجتماعي المستتر في مشهدية عالية: “حولي أحياء ينامون ويستيقظون ويأكلون ويتعاركون ويتكاثرون؛ مشهد قبيح ومؤذ، ومن الأفضل ألا يُرى، ولكنه برهان على إرادة الحياة في نفس الوقت. تتحول الدهشة تدريجيًا إلى ألفة في المرور على أسماء وغرف نوم ومطابخ وطشوت غسيل مفتوحة على الشارع، في أسلاك الكهرباء المشدودة فوق الخط الكوفي وكل نفس ذائقة الموت. يتجاور الصبار والورد الجاف وأكوام القمامة ورائحة البول والثوم الذي يُقلى في زيت…. بوتاجاز مسطح فوق مقبرة، منشر غسيل ممدود بين شجرة وشاهد من الرخام…”.

يستعين السرد بأسلوب التداعي الحر، فتتنقل الكاتبة بين الزمان والمكان. تأتيها مكالمة من بولا (الفنانة نادية لطفي) الصديقة المقربة لعنايات الزيات وزميلة الدراسة في المدرسة الألمانية، تعتذر عن موعد بينهما لتأثرها بموت فاتن حمامة. تتطلع الكاتبة، التي تعيش وتعمل في كندا، وتأتي إلى مصر في إجازات قصيرة، من شرفتها لتطل على القاهرة. تأتيها صور من مصر الستينيات: “رأيت خالاتي وقد عدن إلى بيت جدي في إجازة الصيف. جلست الطالبات المتمدينات في غرفة التليفزيون بقمصان النوم القصيرة ليشاهدن فيلم السهرة في تليفزيون أبيض وأسود. بكرات لف الشعر تجعل رؤوسهن ضعف حجمها الطبيعي”. تستعيد الكاتبة مشهدًا من فيلم “لا أنام” بين فاتن حمامة وعماد حمدي، وتتداعى إلى ذهنها صور من مصر الخمسينيات والستينيات: “استعدت وأنا واقفة في الشرفة تطلعي المبكر إلى القاهرة، قبة الجامعة والنوادي وحدائق الأحياء الهادئة، والسيارات المكشوفة والتليفونات المنزلية والفساتين القصيرة وحفلات الكوكتيل. إنه شوق خالاتي أيضًا لأن يكن بطلات على الشاشة…. كانت الأفلام اقتراحًا بجغرافيا أخرى، بحياة مختلفة في مصائرها الدرامية: مدينة الخمسينيات والستينيات…. كانت الأفلام نافذة على الحب والحظ التعس والعقاب. دائمًا هناك عقاب؛ إن لم يكن من المجتمع فمن السماء”.

الكاتبة ينتابها الإحباط، فهى لا تصل لا إلى المقبرة ولا إلى عنوان عنايات الذي وصفته لها بولا، ميدان أسترا بالدقي. تتوقف الكاتبة أمام أسئلتها المؤجلة عن دافعها للبحث عن عنايات الزيات: “ما الذي أبحث عنه بالضبط؟ إنني حتى لا أعرف ما الذي سأفعله بهذه الصور والأوراق التي وعدتني بها بولا إذا حصلت عليها. هل أنا ألعب أم أهرب من حياتي بالبحث عن أي خيط يدلني على حياة امرأة كتبت رواية وماتت في شبابها؟ ألم أقرأ روايتها مرات؟ هل الرواية مهمة لدرجة البحث عن صاحبتها؟ هل قرارها المبكر بالموت هو ما يشدني إليها أم احتمالات مستقبلها كاكاتبة التي لم تتحقق؟ ألم تحك لي بولا عنها في حواراتنا التليفونية ما يكفي لأتخيل حياتها؟”.

في الفقرة التالية (تعتمد الكاتبة الفقرات المنفصلة المرقمة بديلا عن عناوين الفصول)  يعود السرد إلى البداية حيث اللقاء الأول بين الكاتبة، إيمان مرسال، وعنايات الزيات بالعثور على روايتها المجهولة “الحب والصمت” مصادفة عند أحد بائعي الكتب بسور الأزبكية. ترى الكاتبة أنها رواية حداثية بامتياز، يتجاوز السرد فيها الرثاء لموت الأخ ليخلق “تدريجيًا طبقات كثيرة معقدة ومتداخلة؛ حيث يبدو وكأن كل مخرج من الحداد، هو تشابك مع اختبار جديد يخص الحياة، لا يلبث أن يخلق عودة إلى شرنقة الداخل، شرنقة جديدة في كل مرة”. ترى مرسال أنها “رواية عن الموت، ليس موت الأخ هشام ولا الحبيب أحمد، بل الموت اليومي الذي تحاربه نجلاء في داخلها…. إنها رحلة فردية للبحث عن معنى”. لمست الكاتبة في رواية “الحب والصمت” “لغة طازجة ومنعشة؛ أحيانًا باردة، وأحيانًا عاطفية، وأحيانًا متعثرة كأنها ترجمة من لغة أخرى. أحيانًا متأثرة بأجواء الرواية الرومانسية عامة في زمانها، وأحيانًا حديثة وغرائبية وشفافة وفريدة. إنها عمل أول بامتياز، تتجاور النبرات ولكنها تتآلف تحت بصمة كاتبة موهوبة”. ومع ذلك لم يكن تميز الرواية وحده ما جذب إيمان مرسال وأجج رغبتها في البحث في أرشيف كاتبتها، ولكنها اعتبرتها رسالة تساعدها على فهم ما تمر به هي نفسها: “أحيانًا يهز كيانك عمل أدبي ما ولا يعني ذلك أنه عمل غير مسبوق في تاريخ الأدب، أو أنه أفضل ما قرأت في حياتك. إنها الصدف العمياء التي تبعث لك رسالة تساعدك على فهم ما تمر به، في اللحظة التي تحتاجها تمامًا، دون حتى أن تعرف أنك تحتاجها. الامتنان ليس للأعمال العظيمة فقط، ولكن للأعمال التي كان دورها عظيمًا في فهمنا لأنفسنا في لحظة محددة، حتى أننا عندما نلتفت لحياتنا يمكننا تعريفها بهذه الأعمال”.

وتتساءل الكاتبة عن أسباب خروج رواية “الحب والصمت” من قوائم التأريخ للرواية العربية وكتابة المرأة العربية؟ “هل لأنها صدرت بعد “الباب المفتوح” بسبع سنوات فلم يلفت القارئ تميزها؟ أم لأنها صدرت في 1967 فلم تجد قارئًا أصلا؟ هل عنايات لم تنخرط في اليسار المصري مثل لطيفة فحرمها بسلطته الرمزية الاعتراف بها”؟  وتعود الكاتبة للتساؤل حول أسباب شغفها بتتبع أثر عنايات الزيات، فتكتشف تشابك الخيوط بينهما. يحفزها البحث عن أرشيف عنايات الزيات لأن تُخرج أرشيفها الخاص في بيت والدها، لتنسقه بنفسها ولا تتركه لمن يتحكم فيه بعد وفاتها، فقد طمست أسرة عنايات الكثير من أوراقها الخاصة ولم تسمح إلا بظهور بضعة أوراق قليلة تحمل رؤى عامة: “شعرتُ أن لدى أرشيفًا خاصًا وجعلني ذلك أفكر أنني عشتُ طويلًا جدًا، أطول مما توقعت. ثم تخيلت أن عنايات كان لديها أرشيف أيضًا، ربما أقل مما عندي عندما كنت في مثل عمرها، وأنها لو كانت حقًا لا تريد أن تراه عين غريبة، لكانت حرقته قبل أن تأخذ الحبوب الزهرية ذلك الشتاء”.

تلتقي الكاتبة بأفراد من أسرة عنايات الزيات وأصدقائها ومعارفها، وتكتشف أنها كانت تعاني من الاكتئاب منذ طفولتها وكانت تعالج في إحدى المصحات النفسية. ثقلت عليها ما كانت تعانيه من تهديد بحرمانها من طفلها الوحيد بسبب رغبتها في الطلاق، ورفض الدار القومية للنشر لروايتها “الحب والصمت” ، ورغبتها في الحرية والتحقق خارج حدود أسرتها البرجوازية ومجتمع ذكوري قاهر، رغم تفتح والدها وثقافته؛ كما أحزنها إنشغال صديقتها الوحيدة (نادية لطفي) عنها بأعمالها السينيمائية، وعجزها عن الزواج والسفر مع حبيبها بعد الطلاق خشية الحرمان الأبدي من طفلها الوحيد.

يزداد تشابك الخيوط بين الكاتبة وعنايات الزيات: “عاودني نفس الإحساس الذي بدأت أشعر به منذ صيف 2015: ليلة ذهبت وحدي لبيت أبي في العيد، خرائط هيئة المساحة، لحظة وصولي لشارع عنايات، أمسية التاون هاوس ومقابلتي لعظيمة ونادية. شعور غامر أنني “كنت هنا”. هذه الجملة هي جملة عنايات، كتبتها في الرواية وفي يومياتها في سياق ما تصورته من أنه لن يكون لها أثر. كأنها وهي التي ماتت قبل أن أولد، تُعرفني بجزء من حياتي، تجعلني أراجع علاقتي بهذا المكان الذي ظلت غير مرئية فيه..

تتماهى الكاتبة، إيمان مرسال مع صاحبة “الحب والصمت” حتى أنها تصف حالتها في خريف 2017 في كندا: “عشت خريف 2017 مثل خيال مآتة، تهتز يداي وأنا أمسك بكوب القهوة، يتغير مزاجي من تطرف لآخر في سرعة البرق، عادت نوبات الهلع تداهمني بدون إنذار، ولم تفلح المنومات في هزيمة الأرق. بدت النهارات عمليات عبور بالغة الصعوبة لساعات العمل والليالي حفرًا أسقط فيها بلا أمل. والأسوأ من ذلك، العودة للطبيب النفسي لمدة ساعة كل أربعاء”. وهي نفس العبارات التي تصف بها حال عنايات الزيات عندما زارت مستشفى بهمن للصحة النفسية لآخر مرة في نوفمبر عام 1962: “كانت عنايات طوال الأسابيع السابقة تشعر أنها خيال مآتة، تهتز يداها وهي تُمسك بكوب القهوة، يتغير مزاجها من تطرف لآخر في سرعة البرق…. والأسوأ من ذلك، العودة للطبيب النفسي لمدة ساعة كل أربعاء”.

اختارت إيمان مرسال تتبع أثر عنايات الزيات، لا أن تكتب سيرة حياتها، وتعلل ذلك بأن ” تتبع أثر شخص يختلف عن كتابة قصة حياة هذا الشخص. تتبع الأثر لا يعني ملء كل الفجوات، ولا يعني البحث عن الحقيقة من أجل توثيقها. إنه رحلة تجاه شخص لا يستطيع الكلام عن نفسه، حوار معه، ولا يمكن إلا أن يكون من طرف واحد”. تحولت عنايات الزيات من كاتبة مجهولة إلى “نداهة” تطارد الكاتبة ، وحفزها تدمير أرشيفها الشخصي وغيابه إلى تتبع أثر ما تم طمسه: “تدمير أرشيف عنايات الشخصي، بدا لي كارثة في أول الأمر، لكن غيابه جعلني أتتبع أثر ما تم طمسه. جعلني أفكر أن طموحي ليس عرض حياتها في صفحات كتاب…. قلت لنفسي، لا يجب أن أتكلم بإسمها، لا يجب أن أقدم مسودة لحياتها، هناك لحظة تقاطع بيننا، سأجعل هذه اللحظة تعمل مثل دليل روحي وسنختلف في كل ما عداها كثيرًا. ربما هي نفسها لا توجد إلا في هوامش نجت من سيطرة المؤسسات والأسرة والأصدقاء؛ ربما كان علىَ أن أتتبع أثارها في “الهالك”، في جغرافيا دراسة عاشت وماتت فيها، الشارع والمقبرة والمدرسة الألمانية ومعهد الآثار الألماني، في قانون الأحوال الشخصية وقضية الطلاق، في سياق رفض الرواية ونشرها، في الأحلام والصداقة والحب والاكتئاب والموت. لقد بدت لي قصص كل من تقاطعت حياته مع حياتها، وكأنها جزء من قصتها. أردت أن أعرفهم واحدًا واحدًا لأنهم مروا بحياتها”.

“في أثر عنايات الزيات” عمل يجمع بين الخيال الروائي، والتحقيق الصحفي  والبحث المعرفي في دهاليز التاريخ والجغرافيا والسياق الاجتماعي والثقافي والسياسي، كتاب يتطلع بطموحه إلى ما يتجاوز صفحاته القليلة (245 صفحة من القطع المتوسط، منها أربعة صفحات لقائمة المراجع). ينوء السرد بأفرعه المتشعبة، المتشابكة أحيانًا والمنفصلة والمتوازية أحيانًا، خاصة ذلك الإستغراق المعرفي في التأريخ للأشخاص والأماكن، مما يشتت القارئ ويصرفه عن بؤرة السرد. ومع حرص الكاتبة على تتبع أثر عنايات الزيات، وليس كتابة سيرتها الذاتية، كما أوضحت، إلا أنها استعانت، ربما دون وعي منها، بتقنية كاتب السيرة الذاتية الكلاسيكية، وتقول عنه: “كاتب التراجم القديم كان يخرج من موضوعه يمينًا ويسارًا كما يحلو له؛ يذكّره اسم من يكتب ترجمته بالقبيلة فيحكي عنها… ثم يعود ليحكي قصته قليلًا فيذكره ذلك بحكمة تعجبه فيخبرنا بقصة قول هذه الحكمة، وبمجرد أن يعود إلى من يكتب عنه، تعجبه شخصية أخرى شبيهة لها، وهكذا وهكذا”.

 

 

مقالات من نفس القسم