فينوس القذرة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 10
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تدوين : محمود عزت *

 

مِمّا أضَرّ بأهْلِ العِشْقِ أنّهُمُ هَوَوا وَمَا عَرَفُوا الدّنْيَا وَما فطِنوا

تَفنى عُيُونُهُمُ دَمْعاً وَأنْفُسُهُمْ في إثْرِ كُلّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ

حين أمسك "جيمس" في ظلام الزقاق الضيق بتلابيب "دوريان جراي" في رواية أوسكار وايلد الشهيرة, ورأي وجهه الملائكي الناعم النضر المحميّ من الزمن, لم يصدق "جيمس" أن صاحب وجه كهذا قد يكون سببا في موت أخته "سيبل فان ", لم تكن المسألة فقط أن قاتل أخته كان يجب أن يكون أكبر سنا من هذا الشاب شديد الوسامة المرتعد بينه و بين الجدار, إنما كانت في سطوة الجمال الفادحة التي وقعت عليها عينا "جيمس" فعجز عقله تلقائيا عن الربط المباشر بينها و بين قبح فادح كفعل القتل, ارتخت أصابع "جيمس" القابضة كالكلابات على قميص "دوريان جراي" الأبيض الحريري ثم تركه يرحل في سلام.

بيت المتنبي البديهي و شديد المفاجأة أعلاه يلخّص كثيرا ما يمكن أن نشعر به إزاء الـ”جمال” ذي السلطة أو السطوة غير المستحقة تماما, ما هي القيمة الحقيقية الكامنة في الجمال البارع التي يحوز بموجبها كل هذا الإهتمام البشري غير المسبوق أمام أي براعة أخرى ؟, هناك مميزات ضخمة للجمال في الحقيقة, نماذج مثل “ديفيد بيكهام” , “كيفان تاتيلوج” الشهير بمهنّد, “حسين فهمي” “باريس هيلتون ” …إلخ ضاعف الجمال من قيمتها الأولى و الأصلية بشكل مبالغ فيه, إن كان هناك أصلا أي أساس لأي قيمة مفردة أخرى يمكن لهذه النماذج أن تقوم عليها بعيدا عن فكرة جمالها الفائق , هذا مثلا ما يجعل لشاب وسيم في مدرسة ثانوي مشتركة من السطوة المعنوية ما يضعه جوار الأول على الفصل و بلطجي الفصل و مهرج الفصل الأكثر شعبية, بل يمنح السلطة المطلقة لفتاة تافهة و سطحية و سخيفة القدرة على تدويخ الكثيرين لأسابيع للحصول على رقم هاتفها المحمول على منديل ورقي, الصورة الجميلة هي أخطر ما يمكن أن يواجه العقل البشري, من حيث أنها جميلة و من حيث أن عقولنا دائما ليس لها القدرة الدائمة على تخطي الفرضيات البديهية بنفس القدرة التي تستفزها غالبا الفرضيات المركبة , خاصة تلك التي تقف وراءها مؤثرات أخرى , هرمونية و نفسية , لها دورها الضخم في بناء سطوة الجمال البلهاء النافذة .

ما المعنى إذن في هذه السطوة غير المبررة؟ عاطفة شديدة العمق و الإيلام كالحب كيف تم تركها هكذا منذ بدء الخليقة عرضة لسطوة غير مفهومة أو محكومة منطقيا كهذي؟

هل هي منحة ربانية تساوي الموهبة مثلا , مثل تلك التي صنعت من الصعلوك متسوّل الأمراء المتنبي شاعرا عظيما ؟ أو زير نساء سافل مثل بيكاسو فنانا خالدا ؟ أو حتى من فاشل دراسيا كإديسون إلها علميا ؟ , لكن بالرغم من أهمية كل الهبات السابقة و التي تحتاج إلى جوارها على الأقل بعض المجهود الروحي أو العقلي للوصول إلى نتائج أو إنتاج “الجميل” , تقف وحدها , منحة ” الجمال ” الأكثر رفاهية و سذاجة , على قمة المنح الإنسانية درا للربح دون أي مجهودات حقيقية إضافية .

هناك الكثير لنقرؤه في الميثولوجيا عن الجمال : “فينوس” الآلهة الرومانية الأكثر شهرة بين عائلة الآلهة الكبيرة, و أكثرهم ورودا في القصائد و المجازات, الجمال المطلق الذي اعتبر نفسه ساميا على باقي الآلهة من نسب أبيها “زيوس” , و تعالت على صحبتهم جميعا, فعاقبها زيوس بالزواج من “فلكان” إله الدروع و السُرُد, القبيح الفظ القذر. فخانته مع “مارس” إله الحرب و الدمار, الذي أحبته دونا عن باقي الآلهة !, و فضحهما أبوللو فتعرضا لعقاب زيوس العظيم. فينوس التي منحها “باريس” التفاحة ( المنذورة للأفضل) دونا عن مينرفا إلهة الحكمة و هيرا زوجة زيوس و ربة الآلهة, فحلّت عليه اللعنة و جرّ وراءه الحرب و الخراب على بلاده و أهله حين عاد بعشيقته هيلين إلى طروادة, ليس ذلك فقط, ساندت “فينوس” باريس في حربه أمام الأثينيين الثائرين لشرفهم إلى أن قضى زيوس بالنصر لأثينا .

كل هذا التاريخ الحافل بالرداءة الأخلاقية في الميثولوجيا , لم يؤثر ولو قليلا في صورة الربّة “فينوس”, و التي بقيت مثالا للجمال و الفتنة و السحر و مثال لكل محبوبة شفّافة رائعة.

الإنسان الجميل يعتبر نفسه صاحب ثروة ما, مميز بشكل أو بآخر و صاحب تأثير و نفوذ و أولوية, اللص الجميل هي التيمة الأكثر شعبية في السينما, السينما ذاتها هي ترويج للـ “جميل” و للـ “صورة” في أقسى أشكالها, حيث يظهر البطل السينمائي الجميل : طيب و مضحي و قوي و معطاء و مركز الكون , ليجد المشاهد نفسه في مأزق كونه هو الآخر طيب و مضحٍ و معطاء لكنه للأسف ليس جميلا بما يكفي لينال كل هذا الحب و الحظ و الأهمية و السعادة التي شعر بها في حياة هذا “الجميل” الذي كان على الشاشة .

نقطة أخرى, مختلفة عن نقطة “سطوة الجمال” وهي “سطوة الأشكال” عموما أو “سطوة الصورة “, أذكر أن سيدة عجوز كان تطرق باب منزلنا كل شهر تقريبا فأفتح لها أنا او أحد اخوتي فتقابلنا ابتسامتها اليسوعية البيضاء, تسأل عن أمي التي تمنحها بعض النقود أو أي شيء آخر تحتاجه, كنت أنا و إخوتي و أمي و أبي الذي صادف أن رآها مرات قليلة , نتحدث عن النور المطلّ من ملامحها و ملائكيتها الكسيرة , إلى ان أخبرتنا أمي ذات يوم أنها رأتها تتسوق في المتجر الفاخر بكل ثقة مع شابة أنيقة, تشتريان أغلى السلع و ترتديان ملابس فاخرة , و ما إن رأي “الملاك الكسير” أمي في المتجر ذاته حتى أخفت وجهها و فرّت تقريبا من المكان, على الرغم من إحتمالية وجود عدة تفسيرات لتصرّف هذه المرأة, إلا أنني للحظة شعرت بالعجز في الجمع بين ابتسامة هذا الملاك و احتمال أنها قد خدعتنا طوال هذه السنين تحت أي مسمى, حاولت أن أدافع عنها قدر الإمكان, أبرر الأمر بتفسيرات متتالية , مقارنة بـ”أم محمد”, العجوز الدميمة العوراء , التي كنت ما إن أفتح الباب و أسمع سؤالها المتكرر بوجبة أو كوب شاي أو كوب ماء حتى أشعر برغبة جديّة في مواجهتها بكل ما “نسمعه ” من آخرين عن امتلاكها لعقار في منطقة ما أو كونها بائعة ثرية في سوق بعيد, بل حين رأيتها أكثر من مرة في “قصر العيني” تضاءلت كل الإحتمالات أمام كونها هناك لغرض ما غير العلاج, الإتجار بمرض مثلا في امتحانات الكلية, انا أحد الذين يجدون صعوبة بالغة في الحكم على الأشخاص بمعزل عن “صورتهم” أو لنقل , يستهلك ذلك مني بعض الوقت, أتذكّر كذلك ملاحظة هامة سجلتها خلال الفترة التي اندمجت فيها في العمل الخيري بكثافة, و هي أن الأيتام الجميلون و الأيتام ذوي الملامح المسكينة أو الكسيرة أو الملائكية يحظون باهتمام أكبر غالبا, في رسالة المهندسين كان هناك ما يسمى بنظام ” الأخ الأكبر” , حيث يلتزم المتطوع بدور الأخ الأكبر ليتيم من أيتام الدار, يزوره و يذاكر له و يحتفل معه بعيد ميلاده و يقضي معه دوريا أكبر وقت ممكن بحيث يصبح مسئولا عنه بشكل من الأشكال ماديا و معنويا, كان الأيتام الجميلون أو ذوي الملامح الملائكية هم الذين يسجلون أرقاما قياسية في نظام الأخ الأكبر الذي يسمح بأن يكون لليتيم الواحد أكثر من “أخ أكبر” , كانت هناك أسماء شهيرة : حبيبة و زياد و علي, تتحول أعياد ميلادهم إلى احتفال كبير للدار كلها تحضره أعداد كبيرة من المتطوعين من خارج نشاط الأخ أكبر ليقضوا وقتا مع حبيبة أو زياد , مقارنة بأعياد ميلاد أخرى عادية و محدودة, و في كل مرة كنت أصادف يتيما ذا شعبية كبيرة كان يصادف أن يكون “جميلا” , أعترف أنه أحيانا تكون للشعبية أسبابا أخرى, خفة الظل مثلا , لكنها غالبا ما تكون شعبية أقل, بالإضافة إلى كونها هي الأخرى شعبية مبنية على ما يجعل الصورة “أكثر جمالا” .

اليتيم الدميم الذي يصادف ألا يمتلك أي مواهب أخرى ترفع من رصيده يحقق إقبالا أقل في طلبات التبني أو احتضان المتطوعين عموما, ربما يعارضني البعض في ملاحظات كهذه, لكن ملاحظات كهذي كانت تتكرر أمامي بكثافة في عدة أماكن, نتجاوز ذلك إلى نطاق الحياة العادية, كثيرا ما أصادف بشرا غير مريحي “الصورة” فتتجنبهم لصالح من “تتوسم” فيهم الطيبة أو القبول, اليوم في مقابلة عمل ,قابلت شخصين على نفس الرتبة الوظيفية , أحدهما وسيم أنيق و الآخر أشبه قليلا بنموذج ذهني لدي لنمط سخيف من البشر : كاب و شعر طويل قليلا و شارب و بشرة داكنة و نظارة شمسية فوق الكاب و جينز كالح و تي شيرت ضيق, طبعا كنت طوال الوقت أحاول التفاهم و الإتفاق مع الشخص مريح ” الصورة” الذي بدا لي أكثر عملية من نظيره غير المريح مبدئيا , غير أن المقابلة انتهت بأن ذو الكاب كان هو من يسّر لي كل التفاصيل و الإيضاحات و المسائل العملية بشكل أكثر ودا و جدية من الأنيق الذي كان رسميا و جافا و غير مستحضر للنية الحقيقية في إنجاز أي شيء, ربما لاحساسه بأنه ينجز شيئا ما بالفعل بمجرد وجوده الجميل في هذا المكان.

أحد أمنياتي العميقة في العام القادم هي أن أمتلك عينا عمياء للـ” الصورة”, تتمكّن من تحييدها تلقائيا فور أن تبدأ في التشويش على ما يمكن تلمّسه بشكل حقيقي , أو تطمسه أو توحي كذبا بوجوده, اكتشف يوميا تقريبا ما يضيف إلى قناعتي بأن للـ “صورة ” سلطة غير محدودة على ذهني, فبدأتُ تدريجيا في التوجّس من الزخارف و الكرانيش و المبالغات و الجميلات و النموذج المثالي و إعلانات التلفزيون و أفيشات الأفلام و اللبقين و خفيفي الظل و ماركات الأزياء و السعداء بحياتهم .

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* نقلا عن مدونة كوبري إمبابة للشاعر محمود عزت 

http://nournour.blogspot.com

 

مقالات من نفس القسم