طاهر علوان
النهايات القاتمة التي ترتبط بالحياة والمستقبل لطالما كانت ثيمة سينمائية وروائية مفضلة تم تقديمها في العديد من الروايات وعشرات الأفلام السينمائية وبما في ذلك استخلاص العبر والنظر بعيدا الى ما سوف يؤول إليه كوكب الأرض إذا ما بقيت نفس القوى الفاعلة وصاحبة القرار.
هذا الخيال الجامح يذهب بنا بعيدا ونجد أن أول ما سوف تفقده البشرية هو النظام التكنولوجي والرقمي المتطور من أنظمة اتصالات وحركة أقمار صناعية وأنظمة ملاحة ولك أن تتخيل الطائرات وهي تخرج عن السيطرة وكذلك البواخر العملاقة ويصبح الأفق والحياة نهبا للفوضى بما يؤدي إلى اختلالات في النظام البيئي والتعرض لضربات كهرومغناطيسية مفاجئة.
هذه كلها يجري تحشيدها في هذا الفيلم الذي يُعرض الآن للمخرج الأمريكي من أصول مصرية سام إسماعيل وهو فيلمه السادس بعد منجز تلفزيوني قدم فيه العديد من المسلسلات منذ العام 2008 وحتى الآن وتنوعت أدواره بين مخرج ومنتج وكاتب للسيناريو، فهو سينمائي متعدد المواهب ويحتل اليوم مكانة مرموقة في هذا المجال.
يتعاون المخرج سام إسماعيل (مواليد 1977) مع الروائي رومان علام في إعداد رواية هذا الأخير والتي حمل الفيلم اسمها ونشرت العام الماضي ونالت اهتماما في الأوساط الأدبية، فينجحان في تقديم عالم ديستوبي مذهل شكلت فيه الصورة ركنا أساسيا بعدما كانت أفلام من هذا النوع تقدم انعكاسات الانهيار العظيم من خلال نشرات الأخبار والهلع الجماعي ودفاع الناجين من أجل البقاء.
يبدأ المخرج رحلته في هذه الديستوبيا بهدوء تام من خلال قرار عائلة مكونة من أربعة أفراد أن يتركوا العالم وراء ظهورهم ويذهبوا في إجازة إلى مدينة أخرى، ولعل المحرك الأول لذلك هي الزوجة أماندا – تؤدي الدور الممثلة جوليا روبرتس ومعها الزوج كلاي – الممثل ايثان هاوك، وهما شخصيتان مختلفتان، فالزوجة عصبية المزاج متشككة في كل شيء، لا تثق بأحد، لا تظهر مشاعرها بسهولة وبسبب سخطها من الناس تقرر الذهاب في عطلة في مكان لا يصل إليه أحد.
المكان الجديد ما هو إلا بيت حديث مستأجر ويقع في وسط غابات، وبينما تكون العائلة مشغولة باكتشاف البيت وما حوله حتى يحل عليها صاحب المنزل جي أتش ( الممثل ماهرشالا علي) وابنته بعدما تقطعت بهما السبل، وهنا يبرع المخرج في تقديم مشاهد حوارية تمثل أمزجة ودوافع نفسية متباينة ما بين الشخصيات الأربع التي تتنافر في أمزجتها وتسود نظرية المؤامرة والشك في نظرة كل طرف إلى الطرف الآخر، لكن ذلك كله سوف يتعدى تلك التشابكات الحوارية المصنوعة بعناية إلى التمهيد للخراب العظيم.
وكأنها الفرصة الأخيرة قبل القدر التي من خلالها يفصح كل واحد من الأربعة عن حقيقة ذاته وخاصة أماندا في نزعتها الشرسة التي ما تلبث أن تقترب من عالم الضيف الطارئ وتشاركه رقصة عبثية تفصح فيها أكثر عن ذاتها بينما يشارك الزوج ابنة الضيف جلسة تدخين وثمالة بينما تظهر الشخصية التي تعاني اغترابا حقيقيا في وسط كل هذا هي الفتاة الصغيرة التي تدرك مبكرا أن الكائنات البرية أصابها الاضطراب لسبب ما في موازاة حقائق دراماتيكية ضخمة.
يتجسم هول الكارثة في انفلات كوني شامل وفقدان السيطرة على الملاحة الجوية ثم ظهور منشورات باللغة العربية تلقيها طائرة مسيرة تحمل بيانا عنوانه “الموت لأمريكا” وهنا سوف نحسب للوهلة الأولى أنه فيلم مسيس يحمل العداء العنصري للعرب والمسلمين بدعوى عدائهم لأمريكا لكن الحقائق تتجسم أكثر من وجهة نظر جي اتش والذي سبق له العمل مع جنرال كبير كان على علم بالكارثة وهنا سوف يدوي السؤال في الدورة الحوارية للفيلم، وخلاصته، أن أمريكا لم تترك لها صديقا قط وأن المنشورات التي ألقيت من الطائرة باللغة العربية ألقيت مثلها باللغات الكورية والروسية والصينية.
هنا لن تكون هنالك حشود هائمة على وجوهها وقد تحولت إلى زومبي بل هنالك ضحية واحدة هو الابن الذي تبدأ أسنانه بالتساقط فجأة وإما ما تبقى فهو انغلاق مكاني وتيه لا حدود له يبرع فيه المخرج ومدير تصويره توم كامبل في تقديم لقطات متميزة وغزيرة التعبير.
يستخدم المخرج منظومته البصرية في تقديم صورة مشوشة ومخيفة لعالم مضطرب وخارج عن السيطرة ولهذا فلا تستغرب وجود الكادرات المقلوبة وتطوير اللقطات من الأرض إلى تلك التي تصورها كاميرا محمولة على رافعة ثم بواسطة الدرونز وليقدم سلسلة بصرية بارعة استكملت ما نحن بحاجة إليه من إشباع بصري ومن ذلك مشاهد تجمع قطيع الغزلان من حول أماندا والمشاهد في داخل الكوخ ومشهد هروب كلاي وهلعه من اقتراب طائرة مسيرة تلقي المنشورات وتملأ الأفق بعاصفة حمراء لا أحد يعلم ما هي حتى نكتشف أنها سحابة من المنشورات.
ويبرع المخرج وكاتب السيناريو في تجسيم الأزمة فهي ليست مرتبطة كلها بالديستوبيا بل بالبشر أيضا وهو ما يشغل الشخصيات وما تبوح به، الانغلاق والأنانية وفعل الشر ليس منحصرا في مواقف الدول الشريرة أيا كانت بل هو فعل البشر أيضا وهو ما تفصح عنه أماندا في حوارات معمقة شديدة الدلالة بدت فيها الممثلة الكبيرة جوليا روبرتس وقد دخلت في خريف العمر وتعمد المخرج أن يظهرها كذلك، فالنهايات تشتمل الحياة والشخصيات وكل شيء.
ربما يؤخذ على الفيلم أنه يدور في فلك ذلك العالم الديستوبي المألوف وأن فيه انعكاسات من أفلام أخرى عالجت الإشكالية ذاتها لكنه في هذه المعالجة الفيلمية عمد إلى بناء سردي شديد التكثيف والواقعية وتميز بانتقالات رصينة في الأزمنة والأفعال فضلا عن إيقاع لم يصب بالترهل، واستمر بث الحبكات الثانوية كلما شعرنا بشيء من الرتابة وظننا أن كل شيء قد انتهى إلا أننا كنا أمام تحولات وأحداث جديدة.
اهتم العديد من النقاد السينمائيين بهذا الفيلم ومنه ما كتبته إليسا ويلكنسون في مقال موسع لها عن الفيلم في صحيفة نيويورك تايمز إذ قالت ” إن الفيلم تمت صياغته بمهارة كبيرة بحيث استطاع تحويل المواقف اليومية العادية إلى شيء أكثر رعبًا على الرغم من مجاورته لنا، أو على الأقل أكثر إزعاجًا ومصدرا للقلق. وعلى الرغم من أن الممثلين الرئيسيين بارعون وجميلون ومثيرون للاهتمام، إلا أنهم يشعرون بأنهم في غير مكانهم في فيلم كان ينبغي أن يكون أكثر رعبًا أو أكثر هدوءًا. وهنا يشعرون بأنهم قد تقطعت بهم السبل”.
بينما كتب الناقد روبرت دانييلز مقالا عن الفيلم في موقع روجر ايبرت قال فيه ” يلفت النظر الاهتمام الكبير للمخرج بحركة الكاميرا الجامحة والمتأرجحة. ستختلف المسافة المقطوعة في المشاهد الفيلمية إذ فجأة يجري التلاعب المذهل بالأفق المفتوح والمسافات، حيث يقوم هو والمصور السينمائي تود كامبل بتوظيف اللقطات العامة والطويلة ولقطات أخرى باستخدام الرافعة بشكل بارع ولافت للنظر فضلا عن تقلبات المنظور عند تصوير الكوارث المقلوبة، وهناك لقطات ينقلب فيها المنظور رأسًا على عقب: طائرات تائهة ومنشورات ورقية تتساقط من السماء، وجثث تجرفها الأمواج إلى الشاطئ، وأسلحة مباحة وسيارات تسلا ذاتية القيادة تتصادم فيما بينها”.
…
إخراج/ سام إسماعيل
سيناريو/ سام إسماعيل ورومان علام
عن رواية لرومان علام
تمثيل/ جوليا روبرتس، ايثان هاوك، ماهرشالا علي، ميهالا
مدير التصوير/ توم كامبل
موسيقى/ ماك كايل
المدة / ساعتان و18 دقيقة
التقييمات/ آي ام دي بي 7 من 10، روتين توماتو 75%، ميتاكريتيك 70%