فيلم “المسحور”.. فرويد يَحلُّ لغز الجرائم

هيتشكوك
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فكرى عمر

تمهيد:

بين السينما وعلم النفس علاقة وطيدة، كلاهما يَمدُّ الآخر بنماذج بشرية مختلفة. كان “سيجموند فرويد” قارئًا نهمًا للأساطير اليونانية، والمسرح، والروايات، والفنون البصرية. من خلالها وضع يده على سمات الفنانين، وعصورهم، وجذور الدوافع الإنسانية، بل وأطلق مؤسس مدرسة التحليل النفسى على بعض العُقد النفسية مصطلحات استلهمها من تلك الأعمال الأدبية مثل عقدة أوديب التى يرتبط فيها الإنسان بأمه فى مرحلة الطفولة من مسرحية “أوديب ملكًا” لسوفوكليس. والنرجسية، أى حب الذات والأنانية، من الأسطورة اليونانية “نركيسوس” الذى كان مولعًا بالنظر إلى وجهه الجميل فى المياه.

الأدب والفن لهما السبق إذًا فى تأكيد وإنارة بعض نظريات التحليل النفسى؛ فالأديب الجيد محلل نافذ إلى عمق الظواهر الاجتماعية، والنفس البشرية التى تتشابه غرائزها فى كل العصور. ومع رواج نظريات التحليل النفسى نهل منها بعض الأدباء والسينمائيين فى أعمالهم الفنية، أى حدث العكس فى الأدب، والتشويق والغموض فى السينما.

هتشكوك وفرويد:

يعتمد المخرج الإنجليزى ألفريد هتشكوك فى كثير من أفلامه على مفاهيم علم النفس، ومدرسة التحليل النفسى بخاصة، ويتجلى عنده هذا الأمر بطريقتين: الطريقة الأولى مجموعة أفلام تدور حبكتها حول عقدة نفسية محددة يعانيها البطل، أو البطلة، وتكون سببًا إما فى استغلاله والإيقاع به/ها فى ورطة مثلما حدث مع بطل فيلم Vertigo “الدوُّار”، الضابط المتقاعد الذى يستغله صديق قديم بعد معرفته سبب التقاعد وهو رهاب المرتفعات، أو تأخذ هذه العقدة بُعدًا خارجيًا رمزيًا مثلما حدث فى فيلم The Birde “الطيور” الذى تتمحور حبكته حول عقدة الأم المسيطرة على ابنها، وغيرتها من كل أنثى أخرى تقترب منه. علاقة الاستحواذ هذه تبدأ فى التعبير عن نفسها حين تأتى الفتاة ميلانى من سان فرانسيسكو بقفص طيور إلى ميتش، الرجل الذى تعجب به، فى بلدته الساحلية. هنا تُحس الأم بأن الفتاة الجميلة تُشكِّل خطرًا عليها، فتتجسد غيرتها ومخاوفها فى صورة طيور المدينة الساحلية التى تتحول من الدعة إلى التوحش، تهاجم الفتاة أولًا لتبعدها دون أن تنجح، ثم تهاجم البلدة، تخرب بيوتها، وتصيب أطفالها، وتتسبب فى قتل بعض سكانها. ومثل فيلم Psycho “نفوس معقدة” الذى يتقمص فيه البطل شخصية أمه بعد وفاتها؛ لأنها كانت تتسلط عليه، ويرتبط بها فلم يستطع أن يكون نفسه. نراه يحب الفتاة التى تقيم عنده فى فندقه الصغير، وفى الليل يرتدى باروكة شعر أمه، وملابسها ليقتلها ثم يلقى بجثتها فى المياه.

الطريقة الثانية من خلال أفلام أبطالها لديهم خبرة كبيرة بالتحليل النفسى، يواجهون المرضى بالحقائق، ليساعدوهم على التعافى، أو يدور الفيلم مباشرة فى مستشفى للأمراض النفسية، أبطاله أطباء نفسيون ومرضى يعانون من مختلف الأمراض والعُقد مثل فيلم “المسحور” الذى اتخذته نموذجًا للقراءة النقدية فى هذا المقال، وهو فيلم تدور حبكته حول عقدة ذنب تسبب فقدان البطل لذاكرته، ومحاولة الطبيبة علاجه وكشف سر جريمة قتل تطارده الشرطة بسببها؛ لأنه المتهم الرئيسى بفعلها.

الحبكة المركزية، وخيوطها المنثورة:

تُبنى معظم أفلام هتشكوك التى تعتمد التشويق والإثارة على حبكة مشوقة تساهم فى الوصول إليها مجموعة من التتابعات تبدأ أحيانًا من اللقطة الأولى، لتستمر فى التصاعد، كأنها حبل مشدود بأقصى قوة، فلا يستطيع المُشاهد مغادرة مكانه، لأن كل لقطة تحمل جزءًا من الحبكة، وتمهيدًا للقادم، أو ستُستخدم فى إبراز تناقضه.

فيلم Spellbound “المسحور” واحد من النوعية الثانية. أُنتج الفيلم فى عام 1945م، من بطولة إنجريد برجمان فى دور الدكتوره كونستانس بيترسن. جريجورى بيك فى دور فاقد الذاكرة جون بالانتين. ليو جى كارول فى دور الدكتور ميرتشيسون، ومايكل تشيكوف فى دور الدكتور بورلوف. ونورمان لويد، جون إيمرى، روندا فيلمنج، وغيرهم. وكتب سيناريو الفيلم “بِن هِيشت”.

يستهل الفيلم بعبارة لشكسبير: “العيب ليس فى نجومنا. العيب فى أنفسنا”، ثم مقدمة أخرى لدور المحلل النفسى فى علاج المشاكل العاطفية للشخص العاقل، سنواجه إذًا مرضى الغرام، والعقد النفسية التى خلَّفت جروحًا فى القلب لا تندمل بسهولة.

يبدأ الفيلم بلقطة تحاول فيها الدكتوره كونستانس دفع مريضة، تَدَّعى أنها تكره الرجال جميعًا، لاجترار ذكرياتها، لكن المرأة تثور بعد قليل عليها، لأن المُحللة النفسية تتعامل دائمًا بعقلانية، وبلا عاطفة. يتهمها زميلها الدكتور فلوريت المغرم بها بأنها لا تستطيع علاج أحد وهى لا زالت دون تجربة عاطفية. من الحوار بينهما نعرف ماضيها، ورأيها. هى فتاة جادة، تؤمن بالعلم ونظريات مدرسة التحليل النفسى وحدها. ترى أن الحب مجرد تعبير المهذب عن الرغبة الجنسية الجامحة. يدخل الدكتور مورتتشسون إليهم ليخبرهم بأن اللجنة الطبية اختارت رئيسًا جديدًا لمستشفى المنطقة الخضراء بدلًا منه واسمه الدكتور إدواردز. لا يبدو عليه الألم، بل التفهم لتبدُّل حال الدنيا، وضرورة التجديد.

يأتى الطبيب الجديد شابًا على عكس ما اعتقد الأطباء الآخرون، أصغر سنًا من أغلبهم. من اللحظة الأولى تقع الطبيبة فى حبه، ويتبدل حالها ورأيها إلى النقيض، لكن ثمة مشكلة تلحظها أولًا، ثم يلحظها الزملاء حين تنتاب البطل حالة من الاضطراب، يليه فقدان للوعى حين يرى أى ثوب، أو غطاء أبيض عليه خطوط غائرة متعرجة.

يكتشفون أنه ليس الطبيب المنتظر إدواردز، الذى أبلغتهم سكرتيرته بغيابه وأرتهم صورته، فيعرفون فى هذا المُنتحل مريضًا بفقدان الذاكرة كان يعالجه إدواردز. هنا تُصوب كل أصابع الاتهام إلى هذا المريض وتصفه بالقاتل بعد اختفاء الطبيب، وتُبلغ الشرطة عنه فيهرب. تلحق به الطبيبة لتثبت براءته وقد صارت عاطفتها طرفًا فى التحليل النفسى لا عقلها وعلمها فقط، فهى تؤمن من اللحظة الأولى أنه ليس قاتلًا. هو فقط مريض بعقدة ذنب من مرحلة الطفولة تدفعه إلى اتهام نفسه بالجريمة حتى يتطهر من ألم العقدة بالعقاب.

هذا الاختصار لا يلغى طبعًا مشاهدة الفيلم، لكنه يفتح بابًا لرؤية بعض الأشياء، منها أن هتشكوك يلعب فى الفيلم على أكثر من هدف: الأول هو تأثير الحب، السحر كما يشير إليه الفيلم وإن بشكل مجازى، على الشخصيات، فالحب يُحوِّلها من حال إلى حال، يجعل الطبيبة تقبل راضية بما كانت تهاجمه قبل النور العذب الذى يغمر قلبها دون مقدمات.

والثانى هو الاستفادة من نظريات مدرسة التحليل النفسى فى كشف دخيلة الشخصيات، ودوافعهم، بل والتركيز على أحلامهم لكشف هويتهم، وتفاصيل حياتهم الواقعية الدقيقة التى لا يستطيعون مواجهة أنفسهم بها أثناء اليقظة، وتفسير الأحلام بهذا الأسلوب هو إنجاز ضخم لفرويد فتح أمام البشرية الطريق لمعرفة ذواتهم بأبعادها الشعورية وقبل الشعورية واللاشعورية.

والثالث هو الواقعية. هذا فيلم بعيد عن عالم الفانتازيا الموجودة فى أفلام أخرى له. “المسحور” فيلم يميل إلى الواقعية النفسية رغم استعانة هتشكوك بالرسام سلفادور دالى فى تصميم حلم البطل، وهو هنا، للمفارقة، يؤكد واقعية الفيلم أيضًا بالاستغناء عن التشوش والضبابية فى الحلم فى مقابل الصور الحلمية المقنعة التى تميز بها الفنان السريالى فى لوحاته وتصميمه.

والرابع مجموعة من الخيوط المنثورة طوال الفيلم تجعلنا دائمى التطلع إلى الحقيقة، لقطات متتابعة فيها إشارات إلى عقدة البطل، أو خيوط ستُطوِّق عنق المجرم فى النهاية، ففى اللقطة الأولى مفتاح اللغز، وهى هفوات اللسان التى دوَّن فرويد الكثير عن أهميتها البالغة فى اكتشاف حقيقة الإنسان، وفضحها لما يحاول أن يخفيه عن الجميع. كان الدكتور الدكتور مورشيسون قد أعلن فى البداية وهو واعٍ تمامًا أنه لا يعرف إدواردز، ثم أخطأ لسانه دون وعى أمام كونستانس بهفوة قاتلة حين قال لها إنه كان يعرف إدواردز ويكرهه، ولأنها شهدت الموقفين المتناقضين، فقد كشفت المجرم الحقيقى، وفى رأسها أيضًا حصيلة رموز الحلم، وإشاراته البليغة إلى القاتل.

أما الهدف الخامس فهو أنه لا أحد أبدًا خارج دائرة الشك إذا كنا نبحث عن الحقيقة، وهى ثيمة متكررة فى أغلب أفلام هتشكوك، فالثقة سذاجة، ودائمًا ما يأتى الفزع والتهديد ممن يمنحهم الأبطال ثقة كاملة. حركت غريزة التدمير والغيرة عقل الدكتور للانتقام، لانتقام، بينما صنع الحب صنع البراءة، وكشف الحقيقة.

ثمة علاقة بين الضوء والظل فى الفيلم، وهى علاقة تعطينا دلائل مثلما يعطينا الحوار بالضبط. وليس الضوء هنا مجسدًا فى الصورة فقط، لكن فى اكتشاف التناقض، وفى رسم المعنى، ففى المشهد الذى يغادر فيه الدكتور مورشيسون رئاسة المستشفى إلى الباب لا يتبعه أحد، هو وحده فى جانب، والأطباء جميعًا وراء رئيسهم الجديد فى الجانب الآخر. والضوء دائمًا مع الطبيبة والمريض طوال الوقت بينما تترامى الظلال حولهم على الحوائط وفى الأركان مشيرة إلى مناطق الغموض التى عليهم الخوض فيها بشجاعة ونقاء.

التتابع فى لقطات القبض على جون فالانتين ومحاولة الطبيبة إنقاذه بعد أن خلعت رداء المستشفى وارتدت فستانًا قاتمًا، انفتاح الأبواب وولادة النور بعد اللقطة العاطفية التى جمعتهما. اعترافها أمام أستاذها الدكتور برولف بأن العقل ليس كل شىء، يمكن للقلب أن يرى بشكل أعمق. وحضور فرويد الدائم بمنهجه التحليلى على ألسنة الأبطال، وبعض المرضى، ونظرياته التى كشفت تفاصيل الجريمة كلها.

وختامًا: ستثب بعض الأسئلة بعد مشاهدة هذا الفيلم وما يشبهه من أفلام كشف الألغاز: هل يمكننا الاحتفاظ بالدهشة مع المشاهدة الثانية؟ وهل نحن أمام أبطال حقيقيين، أم أمام بطولة الحبكة النفسية التى تبحث عمن يجسدها على الشاشة؟ وهى أسئلة لا تهدف إلى دحض عمل فنى مهم كهذا الفيلم بإحكام حبكته، وتوازنه السردى الدقيق، وموسيقاه التصويرية التى تهيئ الأجواء، ولعبة الضوء والظلال، لكن تلك الأسئلة تقارن فقط بين أساليب السرد السينمائى، وخصائصها.

 

 

مقالات من نفس القسم