فيلم “أمطار يوليو” وسينما الألم والنبوءات الموجعة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. أشرف الصباغ

فيلم “أمطار يوليو” (إنتاج 1966- 1967) من الأفلام السوفيتية الموجعة التي قد يقرر العقل الباطن للمشاهد أن يجبره على نسيانها إلى الأبد. وفي أحسن الأحوال، يدفع المشاهد إلى ممارسة أشياء مضحكة أو هامشية في حال إذا فتح التلفزيون وفوجئ بأن الفيلم يعرض في هذه اللحظة، مثل أن يتناول كوبًا نظيفًا ليعيد غسله، أو الانحناء لالتقاط شيء وهمي من على الأرض، أو فتح حوار لا معنى له مع شخص وهمي، أو حتى شخص موجود معه في تلك اللحظة.

الفيلم من إخراج المخرج السوفييتي (الجورجي الأصل) مارلن خوتسيف (1925- 2019) والذي شارك أيضا في كتابة السيناريو. وبطولة ألكسندر بليافسكي ويفجينيا أورالوفا ويفجينيا كوزيريفا.

هذا الفيلم يحمل قيمتين أساسيتين تميزان السينما السوفيتية: الصورة باتساعها ورحابتها وزواياها التفصيلية وما يمكن أن تفصح عنه بدون أي كلمات، والحوار بعمقه وخفته وذكائه ودلالاته متعددة الطبقات والراقات. وهما عنصران لهما خصائصهما ووظائفهما في السينما السوفيتية الجيدة، ويمثلان قدمين راسختين لوقوف هذه السينما على أرضية تقاليد مميزة تتسم بالأصالة. وللأسف الشديد، كانت الترجمة الإنجليزية للفيلم ضعيفة للغاية وغير معبرة بالمرة عما يدور عمليًا في طيات الحوار “المرعب” وحركة الممثلين، ونظراتهم، وكلمات الأغاني التي تصدح في الخلفية أو تلك التي يغنيها أحد الممثلين “آليك”، أو حتى ما يبثه التلفزيون من برامج وأعمال مسرحية وما يتردد فيها من كلمات.

الفيلم من الأفلام ثقيلة الوطأة نفسيا وذهنيا، يحمل العديد من المقاصد والمضامين ويعكس حياة الروس عموما في فترة ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وربما الثمانينيات أيضا. لكنه بوجه خاص يجسد تفاصيل حياة الطبقة الوسطى والمثقفين في العاصمة موسكو، وكذلك الأوساط العلمية والمثقفة في تلك الفترة، ويصور أحلامها وطموحاتها وقلقها المكتوم وخوفها من الحاضر والمستقبل، والرعب الذي يسيطر عليها بسبب الفساد والوشايات.

الفيلم يقوم في الأساس على ثلاثة أبطال رئيسيين: “لينا” التي تعمل مهندسة ومصممة في مطبعة ضخمة، وفي نفس الوقت تواصل دراستها. و”فولوديا” الموظف الحاصل على درجة علمية ويعمل في إحدى المؤسسات العلمية. و”جينيا” الذي لا نعرف عنه شيئا، والذي ظهر في مشهد واحد فقط في بداية الفيلم أثناء هطول “مطر يوليو” وأعطى معطفه للينا وكتب رقم هاتفها ليسترده فيما بعد. ولم يظهر “جينيا” على الإطلاق في أي مشهد آخر، لكنه كان حاضرًا طوال الوقت على الهاتف مع لينا، حيث كان يتواصل معها من أجل اللقاء لاسترداد المعطف. وتحولت العلاقة إلى علاقة “صداقة” خفيفة، وتبادل كلمات عادية للغاية. وحتى نهاية الفيلم، لم يسترد جينيا معطفه.

هذا فيلم حزين وموجع للغاية. يصور حياة الملل في أوساط الشباب، وانعدام رؤية أي مستقبل، وغياب أي طموحات على مستوى الواقع، والحياة في ظل شعارات فخمة، وآمال زائفة تخفي الكثير من العطب والعفن وقلة الحيلة. كما أن الحياة نفسها تسير بإيقاع بطيء وممل ومثير للضجر والإحساس بعدم الجدوى. وعلى الرغم من السهر واللقاءات الليلية التي يشارك فيها عشرات الأصدقاء في منزل هذا أو ذاك، أو بار أو مطعم، إلا أن وسائل الاستمتاع شحيحة ومتكررة وليس فيها أي جديد. غير أن الأخطر هنا، هو تفاصيل تلك الحياة وما تنطوي عليه من كوارث حقيقية. فهؤلاء الأصدقاء زملاء العمل يعيشون أزمات تعكس بالضبط ما يمر به المجتمع السوفيتي الذي يبدو منظمًا ومرتبًا وشديد الدقة في حركته وتفكيره. لكن الفساد والعطب يضربان بجذورهما في أعماقه.

إننا نلمح حوارًا حول سرقة الرسائل العلمية، وحول استغلال الباحثين لكتابة رسائل لرؤسائهم، حيث يترقى الرؤساء ويحصلون على ألقاب علمية، بينما يظل الباحثون الصغار مجرد موظفين يقتلهم الإحباط والإحساس بالتفاهة وقلة القيمة… ونجد حوارا آخر يدور حول الظلم وضياع الحقوق في المنظومة الكلية للدولة والمجتمع، حيث يتحدث أحد الأبطال عن الظلم وضياع الحقوق، فترد “لينا” بأنه “لابد وأن تظهر الحقيقة وتستقيم الأمور في نهاية المطاف”.. لكنه يقول لها: “”هذا أمر مؤكد.. الحقيقة يجب أن تظهر.. لكنها تظهر عادة في الفصل الرابع من المسرحية، ولكن هناك فصول تسبقه، ونحن لا نزال في الفصل الثاني”!

هناك أيضا تلك السخرية “الروسية” المرة والذكية في آن معا من توجهات السلطة السوفيتية السياسية عموما، وإزاء أفغانستان على وجه الخصوص. فإحدى البطلات تسأل “فولوديا” عن الشقة التي يستأجرها، فيقول لها، إنه يعيش فيها مقابل أنه “يسقي الزرع”، لأن أصحابها سافروا إلى أفغانستان. فتضحك هي بسخرية وتقول له: “نعم، ذهبوا إلى هناك ليعلموا الأفغان أساسيات الباليه الكلاسيكي!!”.. إنها تلك السخرية المرة والمرعبة، لأنه بعد ذلك بحوالي 10- 12 سنة بدأ الغزو السوفيتي لأفغانستان.

في الحقيقة، الروس مرعبون في تهكمهم، وفي استخدام صيغ وتعبيرات معينة للسخرية من السلطة ومن النظام السياسي، وفي التعبير عن عدم رضائهم عما يجري، لكن الخوف والتعسف والقمع يجعلهم يختارون طرقًا وأساليب متباينة للتعبير عن ذلك، وكأنهم يمتلكون شيفرات أو أكواد للحديث. إن معرفة تلك الأكواد والشيفرات، وإدراك مغزى بطء الإيقاع في السينما السوفيتية ومعادلاته الموضوعية والدرامية، كلها تفاصيل مهمة للغاية من أجل الوصول إلى جوهر العمل الفني “الفيلم” ودلالاته، والتعامل مع سياقاته الدرامية بشكل صحيح وبناء ومفهوم.

لقد بدأ الملل يتسرب إلى علاقة لينا وفولوديا، بينما بدأت تظهر ملامح راحة بدرجات معينة في اتصالات لينا مع جينيا (الذي ظهر في مشهد واحد فقط في بداية الفيلم وأعطاها معطفه). بدأت لينا تحكي لجينيا عن حياتها وعن الملل. وأخبرته ذات مكالمة بأنهم لو عادوا مرة أخرى إلى تقاليد تدوين اليوميات، فإنها ستكتب إن هذا اليوم على سبيل المثال خال تمامًا ولم يحدث فيه أي شيء!! وبعد ذلك تقول له بطبقة صوت معينة تحمل الكثير من الخطر والدلالات: “أهم شيء ألا يكون هناك حرب”!

وعندما التقوا وتوجهوا كلهم إلى الغابة لقضاء يوم كامل هناك على الطريقة الروسية حيث الشواء والفودكا والجلسات والحوارات والألعاب والروسية، كان هذا اللقاء أحد أهم ركائز الفيلم وما يريد أن يمرره للمشاهد الذي اعتاد الإيقاع البطيء وبدأ بالتورط ليس فقط في علاقة لينا بكل من فولوديا وجينيا، حيث بدأ حضور فولوديا يخفت رغم وجوده المادي إلى جوارها، ويتصاعد حضور جينيا على الرغم من أنه لا يظهر أصلا في أي من أحداث الفيلم، بل وأيضا بدأ يتورط بشدة في المشاكل والتفاصيل والضغائن بين الأبطال- الأصدقاء، وينخرط في تفاصيل فشل هذا وعدم تحقق ذاك. ففي الغابة يدور حوار عجيب وغريب ودال بين “آليك” الباحث العلمي الموهوب وعازف الجيتار والمغني وبين لينا وهما يلتقيان بالصدفة بين الأشجار.. حوار خطير ومرعب، لأن الحوار تطرق مجددا إلى البروفيسور “شابوفالوف”، وكيف قام (آليك) بكتابة رسالته العلمية فحصل على درجته، ثم على لقب بروفيسور، وبقي آليك كما هو!

إن لينا تسأل آليك: “من الذي سيقوم اليوم بالشواء؟”… فيقول لها بتهكم واضح وغيظ وغل: “البروفيسور شابوفالوف، لقد اتضح أنه متخصص في الكباب”!! ثم تسأله لينا عن الجيتار، فيقول لها، إن الجيتار ليس ملكه، كما أن السيارة التي يركبها ليست أيضا سيارته! فتسأله ببساطة: “إذًا فماذا تملك؟!”.. فيحدثها بغيظ عن التلصص ومحاولة معرفة أسرار الآخرين.. وعندما بدأ يعرب لها عن امتعاضه من طريقة تعاملها معه وعدم رضائه عن تساؤلاتها الساخرة، ظهر فولوديا، الذي قال مازحا لآليك: “وفقا للأعراف يجب أن أدعوك للمبارزة وإطلاق الرصاص”.. ضحك آليك وقال له إن المبارزة تقليد قديم وغير عصري، وإن ما يحدث الآن، أنه عندما يخونك أحدهم أو يبيعك، فإن الضحية يلتقي الجاني ليسأله عن صحته وأحواله، فيرد بأنه لا بأس، ثم يسأل الضحية عن أحواله وحياته، فيرد عليه بأن كل شيء على ما يرام، وتسير الأمور بشكل طبيعي….

هذه الحوارات المرعبة تعكس مدى اليأس والبؤس اللذين كانا يعيشهما المثقفون والشرائح الوسطى والعليا من الطبقة الوسطى، والرعب الذي كان يسيطر على الناس من الوشايات والخيانة وبيع بعضهم البعض…

إن هذا الفيلم مؤَسس في الأصل على جملة من الموتيفات “التشيخوفية”، حيث تسيطر عليه أجواء العالم التشيخوفي ببطئه وملله وخيباته وكآبته. وبالتدقيق فيما كان يبثه التلفزيون أثناء أحد المشاهد الطويلة للغاية والدالة جدا، كان من الممكن أن نميز أن ما يبثه التلفزيون في خلفية هذا المشهد كان “المشهد النهائي في مسرحية “الشقيقات الثلاث:” لتشيخوف عندما كان الحديث يدور عن المستقبل! ناهيك عن مشهدين آخرين طويلين للغاية: الأول في الغابة عندما بدأت الكاميرا تمر على الأشجار الواقفة والفضاء الخالي إلا من أجواء وفضاءات هذه الغابة، بينما صوت المذيع في الراديو يتحدث عن التقدم العلمي والإنجازات العلمية والتقنية والمستقبل الباهر. أما المشهد الثاني، عندما تمر الكاميرا في أحد شوارع موسكو الكبرى على أفيشات الأفلام والإعلانات التي تشي بالدعوة للسرية، والتحذير من الأعداء الخارجيين والداخليين، والمخاطر والمؤامرات التي تحيط بالوطن!

إن العالم التشيخوفي الكئيب والمحزن حاضر في أساسيات هذا الفيلم ليس فقط على مستوى الأجواء والحالات النفسية والإحساس بالفشل وعدم الجدوى وعدم التحقق، بل وأيضا على مستوى الحوار الدرامي الذي يميز “الدراما التشيخوفية” وحضور مقاطع كاملة من بعض أعمال تشيخوف تم تضفيرها بذكاء استثنائي في الحوار أو طرحها في الخلفيات عبر وسائط أخرى.. وينتهي الفيلم بحالة من “النفور الناعم” للينا من فولوديا، مقابل انشغالها الشفيف بـ “جينيا” الذي لم يظهر بعد، ولن يظهر أبدًا. وبعد أن كان من الممكن أن ترتبط لينا وفولوديا حتى يوم اللقاء في الغابة، أصبح من المستحيل أن يرتبطا. وجاء ذلك في مشهد محبوك بحرفية عالية على مستوى الحوار والصورة والفضاء الضيق الخانق المحيط بهما وعبر حمل نفسي وروحي ثقيل للغاية، عندما يطلب منها الزواج، فتتذكر ما قالته لقريبتها يوم وفاة والدها بأن فولوديا كريم وشجاع ولا يشرب الفودكا ولا يركض وراء النساء، فقالت لها قريبتها، إنه ملائم للزواج. في المشهد الأخير، تتذكر كل ذلك، وتعيده على مسامع فولوديا، لكنها ترد على طلبه بالزواج، بأنها تريد أن تظل “مستقلة” على الرغم من كل الصفات الجيدة فيه!

إن قرار لينا رفض الزواج من فولوديا، لم يكن وليد اللحظة، ولكنه وليد حياة كاملة مشتركة بتفاصيلها، وصلت لينا من خلالها إلى إدراك عدم الإمكانية على الحياة معًا في “تلك المؤسسة” التي يسمونها “الزواج” و”الأسرة”. وهو قرار مرتبط أيضا بالواقع العام وما يجري في المجتمع نفسه من ملل وفقدان البوصلة والإحباط والرتابة اللعينة.

إن فيلم “أمطار يوليو” أحد الأفلام الروسية- السوفيتية الثقيلة، شديدة الكآبة والتعاسة والحزن، والكاشفة أيضا لأعماق المجتمع والمنظومة بعطبهما وعطنهما اللذين كان يتم التغطية عليهما بالشعارات، وطرح الصور الذهنية باعتبارها الواقع أو ما ينبغي أن يكون.

مقالات من نفس القسم