د. نعيمة عبد الجواد
صناعة السينما لغز كبير؛ تمر بها المحن القاصمة، وتخرج منها أقوى وأعظم. ربما ذلك كان ينطبق على حالها في الماضي؛ فبعد تفشي جائحة الكورونا، يشك الكثيرون في نهوض صناعة السينما من كبوتها، وخاصة وأنها تمر بأزمة طاحنة منذ العامين السابقين. ومن ثم، يتواتر التساؤل عما إذا كانت هذه الصناعة لا تزال قادرة على استعادة مجدها مرة أخرى، مع الأخذ في الحسبان منافسة منصات البث المباشر الشرسة. وبالنظرلتيارات الرقمنة العاتية والظروف الغريبة التي تطرح نفسها على الساحة، صار مستقبل صناعة السينما ضبابياً؛ وخاصة بعد تأجيل عرض وتصوير العديد من الأفلام الهامة، وتأجيل جميع الأحداث السينمائية والمهرجانات الدولية في جميع أنحاء العالم، وعلى رأسهم أكبر حدث سينمائي عالمي، وهو مهرجان “كان”.
وتاريخ صناعة السينما يشهد أنها قد استطاعت على مر العصور أن تتغلب على ظروف قاصمة، وخرجت منها أقوى، وراسخة الخطى، وكأنها تجعلت مبدأها مقولة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه “ما لا يقتلك، يجعلك أقوى”. فما لبثت صناعة السينما تظهر، حتى داهمتها الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، فانصرف الناس عنها. لكن القائمون عليها كانوا من الذكاء أن أخذوا مرحلة التوقف فرصة لتطوير الانتاج السينمائي. وعندما فتحت دور العرض أبوابها مرة أخرى، وجدت أفلام ذات ثوب جديد، وتضاعفت مكاسبها. لكنها ما لبثت وضربها فيروس الإنفلوانزا الأسبانية في يناير 1918، الذي ماثلت خطورته في تلك الفترة خطورة جائحة الكورونا الحالية، لكن مع وجود ضعف في الإمكانيات الطبية. وجائحة الإنفلوانزا الأسبانية كانت من أعتى الأخطار التي ضربت الكرة الأرضية بأسرها، واستمرت لفترة 36 شهراً، حتى ديسمبر 1920. وبالرغم من الفارق الزمني، إلا أن الدول قد قامت بإغلاق دور العرض السينمائي، والمدارس، وأماكن التجمع، وأيضاً كان ينصح بارتداء الكمامات، كما هو الحال الآن. ويذكر أن الممثلين قبل الإغلاق كانوا يتساقطون واحد تلو الآخر إثر الإصابة بداء الإنفلوانزا الأسبانية، مما أدى إلى غلق جميع استوديوهات التصوير.
لكن، كانت من أهم المكاسب التي حققتها صناعة السينما حينذاك هو تطوير الاستوديوهات، وإدخال السينما الناطقة، مما حول فترة الركود والخسارة، إلى مكاسب متلاحقة، ونجاحات منقطعة النظير لم يعكر صفوها إلا نشوب الحرب العالمية الثانية. وتغلبت أيضاً صناعة السينما على هذه الضربة الجديدة، عندما شجعت الحكومات شعوبها على ارتياد دور العرض لغرض الإلهاء ورفع الروح المعنوية، ولبث الأخبار الهامة على المواطنين. ويلاحظ أن دور العرض كانت في هذا الوقت الوسيلة الوحيدة لبث الأخبار المرئية على الشعب، وتوثيق ما يحدث بالمعارك، وكذلك وسيلة تواصل لنقل أخبار ورسائل الجنود لأسرهم وأحباءهم. وبعد انتهاء الحرب، ظهرت أفضل الأفلام على الإطلاق التي جعلت السينما العالمية تبلغ عصرها الذهبي، وتحقق أكبر الأرباح.
لكن سرعان ما ظهرت شاشات التليفزيون، وتبوأت مكان شاشات العرض السينمائي في عرض الأخبار، وكذلك أخذت تبث أنواع من الدراما والبرامج الخاصة بها والتي تناسب وجميع الفئات العمرية. فجابهت صناعة السينما هذا التحدي أيضاً وخرجت أكثر قوة عندما استحدثت عرض أفلام الإثارة الكبرى مثل فيلم “الفك المفترس” الذي أرغم المشاهد أن يترك فراشه الوثير في المنزل ليرتياد دور العرض السينمائي مرة أخرى. وحتى بعد أن ضرب سوق الفيديو كاسيت هذه الصناعة، استغل القائمون على صناعة السينما هذه الفرصة لزيادة حجم المبيعات والتسويق، وتحفيز المشاهد على النزول ومشاهدة ما يفضله من أفلام بداخل دور العرض لأنها تسبب قشعريرة خاصة في بدن المشاهد لا تضاهي الجلوس أمام شاشة عرض منزلي. ولقد تكرر نفس السيناريو في حال انتشار الدي في دي DVD ثم مع منصات العرض المباشر حالياً، لكن دور العرض كانت تتصدى بكل بسالة لهذه التحديات الكبرى. وعلمت كيف تجعل منها سوقاً جديداً يزيد من أرباحها.
ومؤخراً، ضرب فيروس الكورونا دور العرض وأجبرت على غلق أبوابها لأجل غير مسمى، مما جعل الوضع أكثر تعقيداً. ومن ثم تصدر تساؤلاً جميع المجلات، والصحف، والمواقع الفنية الهامة، هل ستتراجع صناعة السينما في ظل الظروف الحالية، والتي تختلف تماماً عنما حدث وقت انتشار فيروس الإنفلوانزا الأسبانية؟ فالخطر الحقيقي منشأه أن منصات العرض المباشر، وعلى رأسها منصة النتفليكس العالمية Netflix ، صارت ذات استقطاب مستفحل عالمياً، وخاصة أنها تعرض مواد حديثة سواء أكانت درامية، أو سينمائية، أو برامج باشتراك شهري زهيد في متناول الأيدي. ومن الجدير بالذكر، شبكة النتفليكس كانت تجاهد بأقصى ما أوتت من قوة قبيل أزمة الجائحة أن تقلل وقت ظهور الأعمال السينمائية الحديثة على منصة عرضها المباشر، إلى أن استقر الأمر إلى ثلاثة أشهر. لكن بعد الجائحة، وجدنا أن بعض أفلام الانتاج الضخم قد ظهرت عليها كعرض أول، إما للترفيه أو لخفض خسائر تأجيل العرض وتحقيق بعض المكاسب. ويجدر الإشارة أن منصات العرض المباشر بعد الإقبال المتزايد عليها صارت تنتج برامج ومسلسلات تذاع عليها حصرياً. بل وأنها، فيما بعد، لسوف تقدم على بيعها للقنوات التليفزيونية. وبسبب نتائجها المضمونة ومكاسبها الفورية، تجتذبت منصات العرض المباشر نجوم سينمائية وتليفزيونية وبضع مشاهير المخرجين للعمل فيما تنتجه من مواد.
ومن هنا ظهرت المشكلة الكبرى؛ فلقد تراءى لمنتجي الأعمال السينمائية أنه يمكن خفض تكاليف الانتاج بتقليل جودة الصورة، والتي بذلك تسهل تداول الأعمال على منصات العرض؛ حيث أن تحميلها لن يحتاج لوقت طويل، مما قد يسيبب حدوث انقطاع متكرر عند البث، كما في حال الأفلام السينمائية ذات الجودة العالية. بالإضافة لذلك، الدعاية الإلكترونية على منصات العرض، سهلة وغير مكلفة بالمقارنة بما يتوجب على المنتج بذله من أجل عمل الدعاية لفيلم كبير ذو انتاج ضخم من المتوقع أن يحقق ثلث أرباحه فقط في السوق الأمريكي.
وعلى الرغم من أن الظروف بأكملها ليست في صالح صناعة السينما، لكن صناعة السينما هي عملاق كبير لم يستطع أحد هدمه على مدار سنوات طويلة ماضية، وأن كل محنة تمر بها هي عبارة عن فرصة أخرى للتجديد من ثوبها لاجتذاب المزيد من الجمهور بانتاج مواد متطورة لفتح عالم المجهول، وتمس ذوق الجمهور المتلهف على تلقي المزيد. فمشاهدة الأفلام المقرصنة على الإنترنت، أو أقراص “الدي في دي” DVD ، أو حتى على منصات العرض قبل الجائحة، لم يمنع عشاق الشاشة الفضية من الذهاب لدور العرض. فالسينما قد ولدت عملاقة ولن تتخلى عن مكانتها مهما ساءت الظروف؛ لأنها دوماً قادرة على تحويل الخسائر لمكسب مبين.