دكتور. أحمد مختار مكي
عنوان رواية الروائي “فكري عمر” الصادرة عن المجلس الأعلى للثقافة “الزمن الآخر”(1)، يأخذك إلى مقارنة بين زمنيين: الزمن الآني، والزمن الآخر، فيتساءل القاري ما الزمن الآخر؟ وهذا ما عبر عنه د. “عزوز” بقوله “فإن الكاتب يبحث كيفية إيصال مفهوم عنوانه إلى المتلقي من خلال وظائفه التي تجعل المتلقي في سؤال دائم عن الهدف من العنوان، ويبحث المتلقي عن شفراته لسبر غوره، واستكناه معالمه”(2)، ولقد نجح الروائي في اختيار عنوان روايته الذي جمع بين أنه معبر عن الرواية وفي ذات الوقت يجذب انتباه القارئ، ويجعله يطرح العديد من التساؤلات حول ماهية هذا الزمن الآخر.
تقنيات الرواية:
الزمن: ليس هناك أحداث دون زمن ولكن الزمن قد يكون ظاهرًا أو غير واضح، والزمن ضروري في الرواية، مثل أن يقول (قبل المغرب بنصف ساعة كان صبري محروس يفكر..)، (طلبت منه نعيمة زوجته حينها أن ينام حتى أذان العشاء) (في ساعة العصاري يقف سيد إدريس وراء خصص الشباك يراقب الحارة) كل هذه العبارات إشارات زمنية، “وهكذا تتشكل سلاسل من الإمكانية الزمنية وتتسع في أطوار تندمج فيها الأحداث الأدبية”(3).
المكان: “لا يمكن تناول المكان بمعزل عن تضمين الزمان كما يستحيل تناول الزمان، في دراسة تنصب على عمل سردي، دون أن لا ينشأُ عن ذلك مفهوم المكان، في أي مظهر من مظاهره”(4)، والحيز أو المكان في هذه الرواية يتمثل في ( قرية ميت حجاج)، ويسعى الروائي إلى خلق مكان خيالي له مقوماته الخاصة وأبعاده المميزة، نرى وصفه لشارع بالقرية (بل ويسمون شارع مقام الولي المبارك بمقر الفساد … لآن الشارع الذي يقام فيه مقام الشيخ هو شارع يستغله قليل من ساكنيه في ترويج الحشيش والدعارة؟! شارع مغلق في نهايته يمتلئ بالنساء والبنات كأنهن يتوالدن ويخرجن من تحت الأرض كالديدان، وكل أسرة غريبة تأتي للسكن في القرية لا تجد سكنا فارغا إلا في هذا الشارع تسكن في بيت من الطوب اللبن، أو حجرة مبنية بالطوب الأحمر مع أصحاب البيت الذين لا عمل لهم سوى يوميات الجمع والحرث)، وهذا الوصف للروائي دلالة على امتلاكه لتقنيات السرد، فهو يعي جيدا وجود علاقة بين المكان والشخصيات فالشخصيات توجد المكان وترسم ملامحه، ثم تتأثر به، وحيث إن المكان بيئة اجتماعية فهو يمثل “الكيان الاجتماعي الذي يحتوي على خلاصة التفاعل بين الإنسان ومجتمعه، ولذا فشأنه شأن أي نتاج اجتماعي آخر يحمل جزء من أخلاقية وأفكار ووعي ساكنيه”(5)، وهذا ما قام به الروائي من رسم للبعد الاجتماعي لشارع قبر ومسجد الشيخ محمد حجاج.
ويتضح لنا أن أهمية المكان لا تأتي من حيث شكل المكان أو جغرافيته إنما بالصورة التي تخدم شكل الرواية ومضمونها وأثر المكان في شخصيات الرواية وأثرها في المكان، وهذا ما نجح فيه الروائي في هذه الرواية.
تقنية التناص أو التضمين: يلجا الروائي أو القاص إلى الموروث سواء أكان موروثا دينيا أم شعبيا من العادات والأمثال الشعبية، ويطلق على هذا مصطلح التضمين، ثم صار يطلق عليه التناص، ثم اتسع مفهوم التناص وأصبح ظاهرة جديرة بالاهتمام والدراسة.
لجأ الروائي في هذه الرواية إلى التناص الديني، والتناص من الموروث الشعبي.
التناص الديني: “وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا” (سورة مريم الآيه 25، 26)، واستخدم في التناص جزء من الآية “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ “( الآية 101 من سورة المائدة)، وجاء توظيف التناص مناسب للمواقف التي استخدم فيها
التناص من الموروث الشعبي: استخدم الأمثال الشعبية والعادات الشعبية، وحيث إن التراث الشعبي هو الأكثر انتشارا بين فئات الشعب وأكثر تغلغلا في ثقافاته الفرعية، يصبح استخدامه في العمل الأدبي له أهميته، “فإن عملية إنتاج التراث وتداوله وتغيره عملية مستمرة منذ بدء الخليقة ومستمرة إلى الأبد طالما هناك بشر يولدون ويتفاعلون”(6)
الأمثال الشعبية: “المثل عبارات متداولة بين الناس تتصف بالتكامل ويغلب عليها الطابع التعليمي ,وتبدو في شكل فني يرتفع درجة عن الأسلوب العادي”(7)، ومن الأمثال التي استخدمها الروائي في التناص
ــ يا خسارته من عمل النسوان تجارته ــ الزن ع الودان أمر من السحر
ــ الفاس وقعت في الراس ــ م القلب للقلب رسول
ــ ضل راجل ولا ضل حيط ــ كلب حي ولا سبع ميت
وتعدد استخدام التناص من المثل الشعبي داخل الرواية وكان الاختيار موفق ومتناسق مع السرد وله أهميته في تعميق وتوضيح المعنى.
العادات الشعبية: “هي الطرائق التي يتصرف بها عامة الشعب، بمعني العادات التي تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل والمتعلقة بكيفية السلوك أو القيام بالأفعال “(8)، من العادات التي استخدمها الروائي منها عادات تتصل بالطعام والشراب والمشاركة الوجدانية للجيران.
ــ عادة توزيع الفاكهة والقُرَص ليلية العيد على روح الأموات (بعد أن تأتي النسوة في النهار … ليتخلصن من دموع الحزن على موتاهن قبل العيد يتركن له قففا مليئة بالقُرَص والمور والتفاح ….)
ــ عادة تتصل بترك المشروب (رأى ما فعله الضيف من تجاهل للمشروب هو علامة الشؤم)
ـــ عادات تتصل بالوفاء للجيران لا تقام الأفراح ولا تظهر فرحة العيد، أو اي فرحة أو احتفال وعند الجار حالة حزن (ستخفت فرحة العيد في الحارة إكراما، لـ نعيمة ولذكرى الرجل الشهم الأسطى سيد إدريس وسيتأجل زفاف نوال لأجل غير معلوم)
ـــ عادة التجريس: وهي عادة لفضح من خالف قيم وتقاليد وأعراف المجتمع ( زفة صباحية يتقدمها الأطفال تعرف نعيمة والحارة كلها أن الزفة في الصباح هي زفة فضيحة، مثل زفة منتصف الليل حين يمسك رجل أو شاب في بيت امرأة وهما على سرير الزنا)، وهكذا استعان الروائي بالتناص مما أضفى على السرد صبغة مصرية، وقال من خلاله في سطور قليلة ما يقال في صفحات.
السرد:
السرد أو الحكي “يقوم على دعامتين أساسيتين، أولاهما: أن يحتوي على قصة ما، تضم أحداثا معينة، وثانيتهما:أن يعين الطريقة التي تحكى بها تلك القصة، وتسمى هذه الطريقة سردا، وذلك أن قصة واحدة يمكن أن تحكى بطرق متعددة، ولهذا فأن السرد هو الذي يعتمد عليه في تمييز أنماط الحكي بشكل أساسي”(9)
1ـ الراوي : لا توجد رواية بدون راوي، لأول وهلة ترى الراوي ، في أول جملة في الرواية (اندفع سيد إدريس إلى حجرته)، (جرى إلى بيت الأسطى سيد إدريس رجال الحارة)، ولكن الراوي “يحاول أن يكون غير مرئي، ولا يتدخل في الأحداث إلا بأقل قدر ممكن”(10)، وفي هذه الرواية تعددت الأصوات، في المقطع السابع عشر يبدأ (أي دنيا قذرة هذه؟! يطلع الواحد من حفرة يقع في دحديرة) هنا أسمع صوتا دون راوي، هو صوت (الأسطى سيد إدريس)، في المقطع الواحد والعشرين يبدأ (أي غباء فعلت! وأي تبديد للوقت وللفرص! ظننت أنني بالحقيبة السوداء الممتلئة أوراقا مالية من أوراقهم ستزغلل أعينهم، ………… ليصبوا في أذني كل ما يعرفونه عن سيد إدريس)، هنا أيضا أسمع صوتا أخر، دون راوي هو صوت (همام الراعي)، وتعدد الأصوات بأن “يسمح الحكي باستخدام عدد من الرواة، ويتناوب الأبطال أنفسهم على رواية الوقائع واحد بعد الآخر، ومن الطبيعي أن يختص كل واحد منهم بسرد قصته”(11)، وهذا ما رأيناه حيث يروي (سيد إدريس) جزء من قصته، ويروي (همام الراعي) أيضا جزء من قصته.
2ـ الحوار: الحوار بكل أشكاله يؤدي دورا رئيسا داخل الرواية، ومن خلاله نتعرف على أبعاد الشخصية، “ويستدل به على وعي الشخصية وتفردها، ويساهم في تطوير الأحداث، فضلا عن دوره في المساعدة على بعث الحرارة والحيوية في المواقف المتميزة التي تساعد على تشكيل البناء الفني للحدث”(12)،لجأ الروائي للحوار سواء أكان بين شخصين و أكثر أم بين الشخص ونفسه وهو ما يطلق عليه المنولوج الداخلي، وكما سنرى من عرض بعض النماذج لهذه الحوارات كيف استطاع الروائي أن يجعل منها عاملا مساعدا في إثراء روايته، من أمثلتها :
ـ حوار سيد إدريس وهو ميت مع الصوت الذي اعتقد أنه صوت ابيه
ــ أنت مين ياللي هالل علينا ؟
ــ أنا سيد إدريس..الأسطى سيد إدريس المنجد.
ــ سيد ابني !
ــ أيوه يا آبا. الحمد لله إنك لسه بتتكلم.. أنا مت يا آبا .. بكره العيد.. سبت العيال وأمهم من غير راجل.
إلى أن وصل الحوار
ــ إيوه يا آبا أنا سمعك.
ــ أسمع يا ابني كويس. أنا سمعت إن فيه ناس بتحاول تهرب، وبتخرج فعلا، بس دا في أول يوم، أنا كنت هاجرب بس خفت. وبعدين هارجع أشيل هم إيه تاني؟! خلي بالك إذا فشلت، أو اتعرفت بره بيكون مصيرك اسود، ولا هاقول اسود ليه؟! هو فيه إيه؟!
من خلال هذا الحوار أوضح لنا الروائي كيفية معرفة سيد طريقة الهروب من الموت، والتي عليها تقوم هذه الرواية، ومن هنا تبدأ حبكة العقدة التي يعيش معها القارئ.
ومن أمثلة حوار المنولوج حوار (سيد إدريس) مع نفسه: (انكشف الملعوب ووقعت يا سيد في هوة الجحيم إن عاجلا أو آجلا ، خدعك صوت ظننت أنه صوت أبيك ….. صدقت يا أحمق، وبلا مبالاة، كما تعودت، سرقت روحك، وعدت في ثوب مسخك هذا الذي أطلقوا عليه الشيخ”عبد الله حجاج”…. بتهزر مع ذي الجلال! يا أيامك السوداء يا سيد أنت أحط من “إبليس”، و”فرعون”، و”أبو جهل”،و”أبو لهب”)
جاء هذا المنولوج الداخلي بين سيد ونفسه، بعد أن سمع من (همام الراعي) (عاد واقفا على أحد قباب المقابر ناظرا إلى سيد في ثوب الشيخ قائلا: لن تفلت مني أبدا. أنت فرصتي الأخيرة!)، ومن خلال هذا الحوار الداخلي كشف لنا أن الصوت الذي سمعه ليس صوت أبيه، وكشف لنا شخصية (همام الراعي) بأنه ملك الموت.
والحوارات الواردة في سياق السرد جاءت جميعها معبرة عن حالة أو إيضاح لأبعاد شخصية من شخصيات الرواية، لقد نجح الروائي في استخدام الحوار داخل الرواية.
تقنية الاسترجاع: كان اللجوء إلى الاسترجاع ضرورة في هذه الرواية، حيث إن بطل الرواية (سيد إدريس) مات في بدايتها ثم عاد في هيئة (الشيخ عبد الله حجاج)، ومن ثم اعتمد الروائي على تقنية الاسترجاع لسرد كثير من الأحداث التي مرت بحياة (سيد إدريس)،من بينها الاسترجاع في المقطع الثالث للرواية الخاص بكراهيته للمدارس وتعلم الصنعة (كأنه في امتحان الصف السادس الابتدائي الذي دخله ثلاث مرات في ثلاث سنوات متوالية فشل في ثالثها وخرج بعدها كارها المدارس ورائحتها…)، وفي المقطع السابع استرجاع قصة زواج (نعيمة) من (سيد إدريس)، وغالبية المقطع الحادي عشر يحمل استرجاع لحياة (سيد إدريس) الماضية، في المقطع الثاني عشر استرجاع عن علاقة (سيد إدريس) و(صبري) في العمل وموقف (صبري) حين داهمه صاحب البيت مع اخته، وهكذا تكرر الاسترجاع في الرواية كضرورة فنية، وقام الاسترجاع برسم الصورة لأحداث ماضية تسهم في تفسير وفهم ما غمض حول بعض الشخصيات.
لغة السرد: جاءت لغة السرد في هذه الرواية راقية، وسوف تظل لغة الرواية هي السمة المميزة بينها وبين الأجناس الأدبية الأخرى، وهي لغة تصويرية، وتستطيع أن تتعرف على كاتب روائي من خلال لغته، كل روائي له في لغة كتابته سمات مميزة، على سبيل المثال عندما تقرأ لنجيب محفوظ، وجمال الغيطاني، ويحي الطاهر عبد الله، تستطيع أن تحدد لمن ينتمي النص الذي بين يديك، هذا التحديد لا ينطلق من طريقة الحكي أو من الأحداث إنما من اللغة المميزة لكل منهم.
لجأ الروائي إلى اللغة التصويرية، منها تصوير حالة الألم الذي تعاني منه (نعيمة ) لفراق (سيد إدريس): (تتمدد الوجيعة في قلب نعيمة طوال اليوم مثل كلاب سوداء مسعورة لا تكف عن العواء، والنهش بقسوة في كل موضع بالجسد)، بهذه الجمل القصيرة قدم الكاتب صورة عميقة لمعاني الحزن الذي تشعر به (نعيمة) لفقد زوجها، نتأمل الجملة الأولى جاء فيها، (تتمدد الوجيعة)، هذه الصورة تحمل عمق المعنى وتختصر كثير من السرد لوصف شدة الآلام التي تعانيها الشخصية، وفي الجملة الثانية (كلاب سوداء مسعورة) نراه لم يكتف بكلاب تنهش، بل تجاوز ذلك لوصفها بالسوداء المسعورة، فالكلب الأسود مخيف بدرجة أكبر من الكلاب ذات الألوان الأخرى، وأن تكون مسعورة دلالة أيضا على شراستها، وهذا أيضا جاء لتعميق صورة الحزن وفي الجملة الثالثة والأخيرة، يوضح انتشار الألم في حياة (نعيمة) بكلمات (في كل موضع بالجسد)، وهناك العديد من المواقف والشخصيات التي عبر عنها الكاتب بهذه اللغة التصويرية، ونكتفي بهذا المثال.
ومن براعة استخدام الكاتب للغة أنه جاء بكلمات ربما كادت أن تندثر، ولا نراها في كثير من الروايات والقصص، فقد أعاد الحياة لهذه الكلمات، منها كلمة (رَخْصَ) وردت في صفحة 34 من الرواية (ثم هبطت هاتين العينين بلا حرج صدرها الرَخْصَ)، و”رَخْصَ: نَعُمَ ولاَنَ”(13)، وكذلك كلمة (الكُوّةُ) وردت في صفحة 41 من الرواية (وجئ بالمخبأ في الكوى)، و” الكُوّةُ : الخرق في الجدار يدخل منه الهواء والضوء (ج) كٌوّى”(14).
لجأ الروائي قليلا إلى استخدام العامية على لسان بعض الشخصيات ، منها ما ورد على لسان (الأسطى صبري) في صفحة 159(أصل الحكاية يا مولانا هي حقي الشرعي، تلت تشهر وأنا زي بناتها)، واتفق مع (دكتور. عبد الملك) في قوله “لا نقبل باتخاذ العامية لغة في كتابة الحوار”(15)، هو بالعامية (تلت تشهر) يقصد بها ثلاثة أشهر، أن قرأها العربي غير المصري لن يصل للمعني ممكن يرى أن المقصود ثلث/ تشهر، كشهر سيفه أي أخرجه من غمده، ومن ثم أفضل استخدام الفصيح حتى في الحوار.
رغم ما رأيناه من اهتمام باللغة إلا أن هناك أخطاء لغوية وأن كانت قليلة أو نادرة، بعد استبعاد الأخطاء المطبعية مثل (أرض أسمنية) في صفحة 128 ، هي: أرض اسمنتية
ولكن ما يتعلق بالأخطاء، فقد تكرر الخطأ في صفحات أرقام 6، 64، 116، حيث استخدم الروائي لفظة (كيلا)، ويقصد بها كي لا ،مثل قوله (كيلا يفقد صنيعيا أصابعه تٌلف في حرير) أما كلمة كيلا لها معنى أخر “كال البرـ كيلا: حدد مقداره بأداة كيل”(16).
أما الخطأ الثاني لغة فهو قوله (لكن صبري الذي يمني نفسه بليال ليلاء حقق لنعيمة ما طلبت) جاء ذلك في صفحة رقم 146، والمقصود هنا بأنه سوف يقضي معها ليالي ممتعة ومبهجة ولكن وقع الخطأ الذي يخالف المعنى الذي يقصده، حيث أن “الليلاء ـ ليلة ليلاء: شديدة الظلمة”(17)
محتوى الشكل أو المضمون:
ما من عمل أدبي إلا ويهدف إلى توصيل رسالة للقارئ، وتختلف الرسائل المقصودة من عمل إلى آخر، وفق ظروف ومتطلبات المجتمع، و”إن محتوى الشكل في العمل هو أساسا في داخل النص أو العمل، غير أنه متصل اتصالا وثيقا بمختلف الأطراف المساهمة في العملية الأدبية أو الفنية. فهو متصل بالمبدع أيضا على نحو مباشر، لأن رؤية المبدع هي أحد الأطراف الأساسية التي تساهم في تحقيق محتوى الشكل، كما أنه متصل بالمجتمع الذي يقدم المواد الخام، والتي يمكن أن نسميها شكل الشكل، وهو متصل أيضا بالمتلقي الذي يتلقى هذا المحتوى”(18)، وسوف نعرض لأهم القضايا التي تناولها محتوى هذه الرواية لنتعرف على مدى قدرة الروائي الاستجابة لمتطلبات المجتمع وقضاياه، ونتعرف على رؤيته الخاصة بهذه القضايا.
الشخصيات:
الرواية أو القصة تتمثل في مجموعة من الأحداث، وهذا الأحداث لا توجد من فراغ، بل لابد أن هناك مجموعة من الأشخاص تدور بينهم هذه الأحداث، في مكان وزمان محدد وبتفاعلهم تتنامى الأحداث، التي يتشكل منها المتن أو المحتوى، و”الشخصية! هذا العالم المعقد الشديد التركيبِ المتباين التنوع… تتعدد الشخصية الروائية بتعدد الأهواء والمذاهب والأيديولوجيات والثقافات والحضارات والهواجس والطبائع البشرية التي ليس لتنوعها ولا لاختلافها من حدود”(19). وفي هذه الرواية يقدم لنا الروائي مجموعة من الشخصيات المتباينة الطبائع، المعبرة عن بيئة المكان الذي حدده
1ـ الأسطى سيد إدريس: رسم صورته الروائي بأنه (في الأربعين لم يغز الشعر الأبيض كل شعر رأسه الأسود الناعم، ولا شاربه الكث. كان سيد وحيدا وجميلا ومفتولا وشهما). ولم يتوقف في رسم الصورة عند حدود الشكل (في امتحان الصف السادس الابتدائي الذي دخله ثلاث سنوات متوالية، وخرج بعدها كارها المدارس ورائحتها) حدد لنا مستواه التعليمي، ثم عمل بالعديد من الحرف إلى أن دفعه أبوه (إلى الأسطى محروس المنجد تعلم سيد خطوة بخطوة مع صبري ابن معلمه)، وهو بذلك حدد لنا مهنته التي أمتهنها طوال حياته، ثم يوضح لنا بعض المتناقضات في شخصيته (كان يجري على لسانه اسم الله كثيرا بخشوع حقيقي يحس له ارتجافا في قلبه إلا أن ذلك لم يمنعه من السباب في أوقات الغضب، أو شرب الحشيش مع أصدقائه في المقهى ليلة الجمعة، ولكنه لا يفكر في أذى بشر قط).
2ـ نعيمة: (فما عيناها السوداوان الكبيرتان، ولا حاجباها المقوسان، ولا رموشها الطويلة السوداء، ولا وجهها المستدير الأبيض مثل اللبن الحليب، ولا جسدها المدور الذي أصابه بعض نحافة، فزاده إثارة بقادر إلا على جذب الجميع في أتون فتنتها) هكذا رسم صورة (نعيمة).
3ـ الأسطى صبري محروس: (لا يؤمن بقيمة شيء في الحياة سوى المال، والأولاد والنساء، لكن المال أولا….. فالأسطى صبري رغم عشقه للنساء، وجريه وراءهن، يحافظ على القرش) هذه ملامح لشخصية (صبري محروس) كما رسمها الروائي.
4ـ همام الراعي: رسم الروائي صورة هذه الشخصية الغريبة، (كهل يرتدي بذلة بنية مقلمة، ويمسك بين يديه حقيبة سمسونايت سوداء. على وجه علامات القوة رغم ضعف بصره الذي لا يخفى. لا يخلو من وسامة ببياض وجه يحدده شعر بني مجعد طويل بعض الشيء، وشارب عريض مشذب فوق فم صغير محكوم. وقد بدا الكهل عجوزا، وليس أربعينيا. التجاعيد تتمدد في وجهه، تختفي، ويملأ البياض فوديه، كما أن عينيه الواسعتين العميقتين شبه عمياوين).
5ـ المعلم حسن شهاب: (لم يكن سوى بئر هائل من الفضول، والتوجس. يملك شبكة صغيرة من مسجلي الخطر، وبلطجية الانتخابات).
6ـ دكتور سعد فريد: (أنه رغم كبر سنة ليس إلا ممارسا عاما، كان يسكن في منزل جميل من طابقين في الشارع الرئيسي في حارة المسيري، يستقبل أهل الطريقة ليلة الخميس الأخيرة من كل شهر).
هذه الشخصيات كان لها دورها المؤثر في سير الأحداث في الرواية، بجانب بعض الشخصيات الأخرى التي كان لها أيضا دورها منها، ست البنات: خالة نعيمة، وأم حسين، وسعاد زوجة حسين، الطفلتان، نسمة وحنان: بنات سيد إدريس، ومحمود سيف: العجوز المتصابي، وأحمد عماد الشهير بحسلكة: عامل بمقهى، المعلم حسن شهاب، ووائل عوضين العامل بالوردية الثانية في المقهى، وجاد الله مسعود: التربي، والشيخ رمضان البدوي: شيخ الجامع، ومنصور الصعيدي: صنايعي لدي الأسطى صبري،أم نوال، وبنتها نوال، مندور: خطيب نوال.
قضايا المحتوى:
جاء المضمون أو المحتوى بالعديد من القضايا التي تناولتها الرواية، والتي تعبر عن مدى وعي الروائي وثقافته، من خلال عمق هذه الأفكار التي طرحت وتعدد القضايا التي تناولها.
1ـ فلسفة الموت
حكاية موت (سيد إدريس)، وعودته للحياة في صورة (الشيخ عبد الله حجاج)، ليست مجرد فكرة عالم تخيلي أو فنتازيا، فإن نظرنا إليها بعمق سوف نجدها تصور لنا فلسفة الموت، عندما تعرض الرواية حالة (سيد إدريس) بعد نزوله القبر (أغلق الباب بصفين من الطوب الأحمر الممسوك بالطين والتبن. يعرف سيد ويراقب بأذني وطواط اللمسات الأخيرة على الباب من الخارج حين يُحاف بالطين، كي يفتح بسهوله للقادم الجديد)، تتفق هذه الصورة مع فلسفة (أفلاطون) التي تؤكد بان النفس لا تكف عن الحياة والحركة بعد الموت، “ومن الحجج التي يقدمها تأكيدا للخلود في محاورة (فيدون) يقول: النفس التي جوهرها الحياة وبالتالي فهي نقيض الموت، ولا يمكن النظر إليها باعتبارها محتضرة أكثر من النظر إلى النار باعتبارها تتحول إلى البرودة، ويقول في محاورة (فايدروس) فالنفس باعتبارها متحركة بذاتها بوصفها مصدر الحياة والحركة، لا يمكن أطلاقا أن تكف عن الحياة والحركة”(20).
وحين تصور الرواية هروب (سيد إدريس) من الموت حين يقول له الصوت الذي ظنه صوت أبيه (اسمع يا ابني كويس. أنا سمعت إن فيه ناس بتحاول تهرب، وبتخرج فعلا، بس دا في أول يوم. خللي بالك إذا فشلت أو اتعرفت بره بيكون مصيرك أسود.. كانت روحه تطوف قريبا منه.. حرك يديه. مزق الأربطة.. ثم مد يده اليمنى، وخطف روحه التي تسبح فوق رأسه، وابتلعها)، نجد أن هذا المشهد الروائي يتفق مع نظرة فلسفة تقول بإمكانية عودة الروح للجسد بعد الموت، “يقول (ليوربيدس) من ذا الذي يعرف إن كانت هذه الحياة ليست موتا وإن كان الموت لا يعد حياة في العالم السفلي؟ ويقول: من ذا الذي يعرف أن كان ما نسميه بالموت ليس حياة وأن الحياة ليست موتا؟، فهو ينظر إلى النفس على أنها ذات أصل سماوي وأنها تقطن الجسم كما لو كانت سجينة، وبوسعها الهرب عند الموت واستعادة ألوهيتها”(21)، وهذا ما صورته الرواية بعد عودة سيد إدريس من الموت حين قال (إني أنبئكم بما تأكلون، وما تشربون، وما تختزنون. ولم يزد على ذلك كلمة. بدا متجاهلا الهمهمة، والأصوات الحانقة التي تصب جام غضبها تجاهه. بعد ساعات قليلة وجدت التائهة، وعثر على الضآلة عُر ف اللص، وجئ بالمخبأ في الكوى حين سأله كثير من الناس عن أشيائهم).
أرى أن الموت هو الحقيقة الوحيدة في الحياة، أما الروح فقد سلمنا بأنها من الأمور التي وجب التسليم بها (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (الاسراء:85).
2ـ عقل الإنسان
العقل هو ما تفرد به الإنسان عن غيره من المخلوقات علي سطح الأرض، فالعقل هبة الله للإنسان التي جعلت له قدرة السيطرة علي العالم، الذي يمتلئ بمخلوقات أقوى منه وأشد فتكاً، “فالبهيمة مع قصور تميزها تحتشم العقل حتى أن أعظم البهائم بدنا وأشدها ضراوة وأقواها سطوة إذا رأي صورة إنسان إحتشمه وهابه لشعوره باستيلائه عليه لما خص به من إدراك الحيل”(22)، وهذا ما عرضته الرواية (البهيمة لا تفكر للحظة في كينونة ما يحدث لها.. البهيمة التي لم يهبها الله العقل.. يا سبحان الله! عظم ابن آدام الضعيف في عين الحمار والكلب والقطة والخروف والماعز والبقر والجاموس وحتى الجمل . يقولون إن كل بهيمة من تلك البهائم ترى الطفل عملاقا كعنترة بن شداد) وبهذا صورت الرواية أهمية العقل الذي وهبه الله للإنسان.
3ـ قضايا اجتماعية
تناولت الرواية العديد من القضايا الاجتماعية، قدمت من خلالها تشريحا اجتماعيا لفئات المجتمع.
تناولت الرواية قضية (الغيرة والحقد) هي قضية اجتماعية أخلاقية، يتولد عنها كثير من مظاهر الكراهية، بعد عودة (سيد إدريس) من موته بخصائص أخرى تسمح له معرفة ما يدور بدواخل نفوس الناس، تروي الرواية (لم ير زمان أطنان الغيرة، والحقد التي تتوارى خلف وجوه مشدودة بالبسمات والدعوات … كم هم كريهون وأشرار هؤلاء الناس أهل قريته! قليل جدا من يحمل في جوانبه طيبة مغموسة بالدهاء لزوم العيشة. إنهم شياطين، بل قل معظمهم شياطين وأفظع والطيبون لا مكان لهم هنا)، جاء هذا الوصف لما يعانيه المجتمع من غياب القيم، وقيمة الحب خاصة التي استبدلت بالكراهية التي تعني عدم الحب للآخرين والحقد عليهم.
وتناولت الرواية غفلة الإنسان في شبابه والتغيير الذي يطرأ عليه عند الشيخوخة (جميعهم يشربون من اللذة على قدر ما يستطيع أيام الشباب والصحة، وفي الشيخوخة يتركون خطى المشيب المتمهلة تروح بهم وتجئ إلى الجامع في الأوقات الخمس المفروضة للصلاة … يحلم الواحد منهم أن يموت على مصطبة الجامع، أو يموت وهو ساجد)، هذا التناول للقضايا الاجتماعية، يعد محاولة من الروائي لتفسير ما آل إليه حال المجتمع المصري، “من انحدار قيمي كنتيجة طبيعية لما ساد البلاد من تغييرات اقتصادية، أدت إلى اهتزاز في قيم المجتمع التي كان يعتقد بأنها رسخت، وحل محلها أساليب سلوكية جديدة كالانتهازية، والرشوة والفهلوة”(23).
كانت هذه جولتنا مع (فكري عمر والزمن الآخر)، الرواية التي تنبئ بروائي أتوقع له مستقبلا عظيما في عالم السرد، يمتلك أدواته باقتدار، واتوقع أن سار على هذا النهج وطور إمكاناته وثقل موهبته، سوف يحتل موقعا متميزا بين الروائيين العرب.
……………………….
الهوامش
1ـ فكري عمر، الزمن الآخر، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2013,
2ـدكتور. عزوز علي إسماعيل، عتبات النص في الرواية العربية ، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012، ص77.
3ـ دكتور. كانديو بيريث جاييجو، “الفضاء ـ الزمن اقتراب سوسيولوجي”، (ترجمةـ دكتور. محمد أبو العطا” مجلة فصول ، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب،المجلد الثاني عشر،العدد الثاني،1993، ص63
4- دكتور.عبد المالك مرتاض: تحليل الخطاب السردي معالجة تفكيكية سيمائية مركبة لرواية زقاق المدق،الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية ، 1995، ص 227
5ـ ياسين النصر، الرواية والمكان، بغداد: وزارة الثقافة والإعلام، 1986،ص16.
6ـ دكتور.محمد الجوهري وآخرون, دراسات في علم الفولكلور,القاهرة : عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية ,1998، ص 132.
7ـ دكتور.أحمد مرسي ، الأدب الشعبي وفنونه , القاهرة : وزارة الثقافة، 1984 ، ص22.
8ـ هيس بيث, واخرون , علم الاجتماع ,(ترجمة : محمد مصطفى الشعبي)، الرياض: دار المريخ للنشر، 1989‘ ص 116.
9ـ دكتور. حميد لحمداني،بنية السرد (من منظور النقد الأدبي)، بيروت: المركز الثقافي العربي،1991،ص45
10ـ جيرالد برنس، “مقدمة لدراسة المروي عليه”، (ترجمة علي عفيفي)، مجلة فصول، مرجع سابق، ص84.
11ـ دكتور. حميد لحمداني، مرجع سابق، ص 49.
12ـ دكتور. باقر جواد الزجاجي، “البنية السردية في الرواية السبعينية وإشكالية توظيف الحوار الفني”، مجلةاللغة العربية وآدابها، جامعة مؤته، العدد التاسع،د. ت، ص 47.
13ـ مجمع اللغة العربية، المعجم الوجيز، القاهرة: مجمع اللغة العربية،1980،ص 259.
14.ـ المرجع السابق، ص 546.
15ـ دكتور. عبد الملك مرتاض، الروايةـ بحث في تقنيات السرد،الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، (عالم المعرفة) ، 1998،ص 106
16ـ مجمع اللغة العربية، مرجع سابق، ص546.
17ـ المرجع السابق، ص 569.
18ـ دكتور. سيد البحرواي، محتوى الشكل في الرواية العربية، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب،1996، ص24.
19ـ دكتور. عبد الملك مرتاض، الروايةـ بحث في تقنيات السرد،مرجع سابق، ص73.
20ـ دكتور. جاك شورون، الموت في الفكر الغربي، (ترجمة: كامل يوسف حسين)، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، (عالم المعرفة)،1984،ص53.
21ـ المرجع السابق، ص 52.
22ـ الغزالي ، إحياء علوم الدين، القاهرة : دار مصر للطباعة،(جزء أول) ، 1998، ص111، 112
23ـ دكتور. أحمد مختار مكي،”المجتمع المصري بين التعليم الحكومي والتعليم الخاص “، المؤتمر العلمي السنوي الأول مستقبل التعليم في مصر بين الجهود الحكومية والخاصة، جامعة عين شمس كلية البنات، 2002 ، ص 7.