أيمن مصطفى الأسمر
في روايته “خلخلة الجذور” الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2019، يرصد فكري داود بفصحى محكمة التحولات الحادة بالمجتمع المصري على مدار فترة زمنية تمتد لعقود، ومن خلال شخصيات وأحداث متشابكة بقرية مصرية صغيرة صرح كاتبها منذ البداية أنها:
“الناحية كمئات القرى والكفور، المتناثرة فوق وجه المحروسة، تتشابه سيرهم الذاتية إلى حد التطابق، يلعب أبطالها نفس الأدوار، وإن اختلفت المسارح والشخوص”.
تنمو حبكة الرواية على مهل بالتزامن مع وقائع وشخصيات تبدو لنا كمعالم طريق تدل على الزمان والمكان:
“فمعركة الفلوجة مثلا، الواقعة قبل وصول عبد الناصر ورفاقه إلى سدة الحكم”.
لتصل بنا إلى:
“إلى أن حمل القادمون أخبار آخر معاهدة عقدها خليفة زعيمهم الأسطوري مع العدو المغتصب”.
ورغم امتلاء الرواية بشخصيات عديدة تشارك بأدوار رئيسية في أحداثها المتشابكة والمتصاعدة على خلفية التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يذكرنا بها الكاتب من حين لآخر:
“ليأتي قرار تحديد الملكية ويلقي بشديد تأثيره على جميع المناحي، بعد الاقتطاع من أفدنة الكبار لإعادة توزيعها على الصغار وشغيلة الغيطان”.
شخصيات مثل الحاج أمام ووالد بهنس، العمدة وأدمون، الشيخ عبد الرحيم وابنه زابد واخته سنية، الداية وداد وزيزي وبهنس وهريدي والخشن والدكش، عادل وقدري وشريف وعبد الشافي وحسام وهادي وفوزية .. الخ، إلا أنه تبرز فوق هؤلاء جميعا شخصيتان محوريتان تقوم حبكة الرواية بكل تفرعاتها عما روي عن علاقة ما تربط بينهما، وما تبع ذلك من خطبة قصيرة ومشروع زيجة لم تتم، ليترك ذلك في نفس أحدهما ما ترك من آثار، الشخصيتان هما أحلام وأمين، أحلام تلك المرأة النموذج التي يحمل اسمها دلالات كثيرة، فهي المرأة المشتهاة من الجميع، التي يزيدها مرور السنوات حنكة وغموضا – وبالأخص – فتنة وبهاء، كما تزيدها جبروتا وقدرة على التلاعب بمصائر البشر وثرواتهم على قلتها أو حتى انعدامها، لكنها تعرف الوسيلة للاستفادة من كل شخص ومن كل شيء حتى وإن بدا تافها أو محدود القيمة، تبسط أحلام ظلها بوضوح وثقل على أحداث الرواية ومساراتها المتشعبة، وتبني العديد من التحالفات مع أشباهها، زيزي وبهنس وزايد وآخرين لتحقق أحلامها، وتفرض سيطرتها على الجميع بمن فيهم حلفائها، وتسبك الخطط والمكائد لتأخذ ثأرها الذي تراه حقا لها، على العكس من ذلك تبدو شخصية حبيبها ثم غريمها أمين – والاسم له دلالته أيضا – هادئة حكيمة، متوارية بشكل ما وراء ستار أحداث الرواية، لكن وجوده المستتر الذي تدفع به الأحداث أحيانا إلى العلن يجعل منه الند والنقيض لشخصية أحلام، فعلى عكس شخصية أحلام التي تسيطر عليها الرغبة في الثأر من أمين لما تظنه من حرمانه لها من حقها الذي يكفله ما تملكه جسدا وعقلا من مؤهلات الانتقال إلى طبقة اجتماعية أعلى:
“فإلى جوارك حط رحال الحبيب، عائلا كريما، يسعد بالعطاء أكثر من الأخذ، وبهلَته الندية، تنقطع ألسنة المتشدقين، يكفيك وأمك عناء سؤال اللئيم، ثم سيأتي حتما أوان الانتقال محفوفا بزغاريد ودفوف، وكثير من الحسد، إلى بيت إمام المصلين؛ صاحب الجزارة الوحيدة، والعشرين فدانا ملك، يتلألأ وسطها فدانان للجوافة والنخيل، و…”
نراه يخاطب ابنه شريف التي نسجت المرأة الأخطبوط الشباك حوله، وأحكمت تدبيرها لتنتقم من أبيه في شخصه كما فعلت من قبل مع أخيه عادل:
“كل زارع يابني أَدرى بزرعه، والموجة العالية يا بني تستوجب الانحناء قليلا علها تمر، وكم من ريح هوجاء عصفت بجريد النخل، ينحني الجذع قليلا وسرعان ما يعاود الانتصاب”.
وفي خلفية تلك العلاقة المضطربة وأحداثها المعقدة يواجهنا فكري داود بمظاهر التعفن الذي ضرب جذور المجتمع فأدى إلى خلخلتها، فنتابع ما تفعله أحلام وشركاؤها زيزي وزايد وبهنس ومن يدورون في فلكهم من تمكين للفساد وارتكاب للموبقات، فيتم تسخير المغلوبات على أمرهن من النساء في علاقات مشبوهة، كما يتم الاستيلاء بحيل جهنمية على بيوت الفلاحين والأجراء المهترئة:
“لاحت لبهنس فرصة تستحق الاغتنام؛ أجاز إقراض الناس بزيادة مضاعفة، ولا أسهل من )البصم( على الإيصالات، ورهن أوراق البيوت – التي لها أوراق -، وأسهم الأرض القليلة”.
“قدم إلى المحكمة هو وزايد بعض وصولات المدينين، ازداد الخناق حول الأعناق، اقتربت دمعة الرجال، لم يجد أكثرهم حلا سوى تسليم بيوتهم القديمة أوبيعها، محاولين تسديد الدين، وبدا مألوفا جدا مشاهدة من يجر أفراد أسرته في عرض الطريق، وهم راحلون عن أماكن أفنوا فيها أعمارهم الفائتة، وبين ظهرانيها تناثرت ذكرياتهم ولو كانت غير سعيدة”.
“لايململ كلا الرجلين، سوى شروع أحلام في رفع أسعارهذه البيوت، وتفضيل أصحابها البيع لها، آملين في بقاء شيء من المال بعد تسديد الدين، قد يستعينون به على عناء الرحيل إلى وجهات يعلمها الله”.
لكن خاتمة الرواية تعطينا إشارات إلى ما قد تؤل إليه الأحداث في دورات متتابعة من المد والجزر:
“.. صخب موسيقي مصدره مجلس زيزي العلوي، بينما بدت أحلام بين مَن اعتادوا السهر معها، كعروس وسط زفاف فريد، تداعب كلماتها أذني بهنس، ناعتة إياه برجاحة العقل في تصريف شئون الناحية، فيمتليء صدره بهجة، دون دراية منه بأن عربة نصف نقل توقفت للتو أمام بيته، وهي تقل ابنه حسام ونفرا من رفاقه مع بعض الذخيرة والبنادق”.
“وفوق السكة الملاصقة للترعة، وعلى بعد خطوة من ابنته، شبك أمين ذراعه حلقة في ذراع شريف، وهم في طريقهم للانفلات خارج حدود الناحية، تتبادل عيونهم الارتفاع – دون اتفاق – لترقب وجه القمر، الذي لم يحن موعد بزوغه بعد”.
إذن فالقمر لم يحن موعد بزوغه بعد، وليست هناك نهايات حاسمة، فالجذور التي تخلخلت يلزم الكثير من العمل الشاق لإعادة غرسها، والمجتمع الذي تمكن منه الفساد والانحلال بحاجة إلى جهود دؤوبة لإصلاح أحواله.
يبقى أن أشير أن فكري داود قد حرص على أن يطلع القراء في نهاية الرواية على مكان وتاريخ بداية ونهاية كتابتها، السعودية / تثليث 20 فبراير1998 م، مصر / دمياط 23 أكتوبر 2011 م، وهي فترة زمنية طويلة نسبيا، تشير إلى أن الكاتب قد عكف على إنجازها بكثير من الصبر والدأب حتى اكتملت بين يديه على الشكل الذي يرضى عنه، وهي – بالتأكيد – تمثل حلقة هامة من حلقات مشروعه السردي طويل الأمد.
……….
أغسطس 2021