بولص آدم
كنتُ قد عاهدتُ نفسي، صديقي العزيز سليم، على الابتعاد عن هكذا مواضيع، لكن لمعزّتك عندي، ولسؤالك عن قصة عامر، فقد ورّطتنا معًا للدخول في المعمعة الشبحية، فاسمع ما يلي:
تَلَقَّفَتهُ كما تتلقّف شركةٌ زبونًا تائهًا على الأرصفة الرقمية، ممن يبحثون عنها وتبحث عنهم، حيث تُفصَّل الكتب كما تُفصَّل البدلات الرخيصة في مصانع الظلال. شركة متخصّصة في كل شيء: من أطروحات الدكتوراه إلى روايات الحب، مرورًا بكتب السيرة الذاتية المُختلقة، وليس انتهاءً بقصص الأطفال التي تكتبها خالة تعبت من تعليم الروضة، وفقـرات الترويج للمطاعم التي لا تملك قائمة طعام، بل قائمة ضحك.
شركة تعتمد على “كُتّاب أشباح” لا يظهرون في الصور، ولا في حقوق النشر. أبو شامة وتوابعه ينسّقون له أماسي توقيع باذخة وكأنه نجيب محفوظ. صاحب الشركة يُدعى “درهم أبو شامة”. اتفق مع عامر على حزمة متكاملة، جزء منها جذب مصوّرين ومؤثّرين (على الأقل ثلاثة)، غالبًا هم أنفسهم، فيما يُسمّى أماسي أو حفلات توقيع، وهي أيضًا متشابهة، والأمكنة مختلفة فقط. وفي رسالتي هذه تفاصيل الدليل:
اسمه على الغلاف الأمامي بحجم رغيف خبز انتخابي، وصورته على الغلاف الخلفي واقف كتمثال من الكاريزما البلاستيكية. كاريزماه لا تُقاوَم، لأنها مدعومة بفلاتر. أنفه بارز، وعيناه ترمقان المستقبل بنظرة لؤلؤية مبلّلة بالغرور. في المقابلات التلفزيونية، يتحدث بنبرة رخيمة كمن يقرأ وصفة شوربة روحية، ويدندن كثيرًا بكلمة “الحنين”. الصحفيون يهزّون رؤوسهم كأنهم في حضرة كاتبٍ أتى من ضفاف الأسطورة. القارئات يرسلن صور فناجين القهوة بجانب كتبه، المربوطة بشريط وردي كهدية من القدر.
أما الناشر، فكان يبتسم ابتسامة مدير بنك أثناء غسيل الأموال. وفي حفل توقيعه الخامس، تقترب منه فتاة بنظرات دامعة وتقول:
– “صفحتك 93 غيّرت حياتي!”
يبتسم، يهزّ رأسه بأسى عميق، ويهمس:
– “كتبتُها وأنا أنزف.”
وفي داخله، يعرف أنه كان وقتها في منتجع فاخر، ينزف فقط من سخونة المسبح.
ذات يوم، دخل مقهى جديدًا. وجد شابًا نحيفًا يقرأ جراح الذاكرة الثامنة باهتمام. جلس قربه وسأله:
– “كيف تجد الكاتب؟”
– “صادق. حقيقي. كأنه يكتبني.”
– “هل تظن أنه كتبه بنفسه؟”
– “طبعًا. هذا لا يمكن أن يُكتب إلا بوجعٍ أصيل.”
ضحك في داخله. دفع ثمن قهوته وقام مغادرًا.
عاد إلى البيت، فتح الحاسوب، وكتب:
“في البدء كانت الورقة بيضاء، وظلّت كذلك.”
أغلق الجهاز، وأرسل عنوانًا جديدًا لأحد الأشباح: “صمت الكاتب العظيم.”
يقدّمه الإعلام بـ: “… وسارد الأسى المعاصر.”
في أحد معارض الكتب، طُلب منه أن يُلقي محاضرة بعنوان:
“تفكيك الذات في رواية: جراح الذاكرة الثامنة.”
وافق فورًا. دعا الصحافة. لبس بذلته الأنيقة. ابتسم أمام الكاميرات. ثم صعد إلى المنصّة، أمسك الميكروفون، وقال بثقة:
– “في روايتي الأولى، أردتُ أن أشتبك مع… مع، يعني، الحنين… كشيء… متشظٍّ…”
صمت.
تفلّتت كلمة “تشظّي” مثل حبل نجاة، لكنها انزلقت.
أكمل:
– “أما الرواية الثانية، فقد حاولتُ فيها أن… أن أقلب الصورة السردية رأسًا على عقب، وأدمج بين… بين الغرائبي وال… الواقعي النقدي.”
من بين الجمهور، رفع أستاذ جامعي يده وسأل:
– “في الفصل الثالث من الكتاب، هناك مونولوج داخلي طويل. كيف كتبت تلك المقاطع؟ وخصوصًا عبارة: الأنثى ليست مرآة، بل شهقة في الضوء؟”
ارتبك. بلع ريقه. قال:
– “آه… نعم… تلك العبارة كتبتُها وأنا… كنت، يعني… في لحظة… صمت…”
ضحك الجمهور بهدوء.
ضحكة لا تُسمّى شماتة، لكنها ليست إعجابًا.
مساء ناعم آخر، إضاءة دافئة، مقهى أدبي أنيق. في الخلفية موسيقى بيانو هادئة، وعلى الطاولة نسخ كثيرة من كتابه الجديد جراح الذاكرة الثامنة – للكاتب الكبير: عامر المهمومي.
الكراسي ممتلئة. الجمهور متشوّق. الناشر يهمس له:
– “ابتسم. هذا نجاحك الحقيقي.”
عامر يبتسم. يضبط ياقة سترته. هذه ليلته. وهو الذي قال ذات سهرة:
“الذاكرة فيها طوابق… وبعض الجراح تسكن في الطابق الثامن.”
ثم سلّم هذه الجملة الذهبية إلى فريق الظلال: ثلاثة كتّاب أشباح، يقبضون بالصفحة. الكتاب خرج مذهلًا. اللغة عميقة. البناء محكم. النقد لامع.
هو فقط أضاف الإهداء، وغيّر لون الغلاف.
يبدأ الحفل.
المقدّمة طويلة ومليئة بكلمات من قاموس لا يفهمه حتى هو: “تعرية الذاكرة… إزاحة السرد نحو الداخل… كأن اللغة تنقّب في طبقات الروح.”
عامر يبتسم. يتظاهر أنه يفهم. ثم يُمنح الميكروفون. يتنحنح، يقترب، ويقول بثقة:
– “حين بدأتُ الكتابة، كنتُ أبحث عن طابقٍ تسكنه ذكرياتي… فوجدتُ الطابق الثامن.”
يواصل:
– “كتبتُ هذا الكتاب وأنا في أكثر مراحل حياتي وجعًا… مزّقتُ كل مرآة داخلي…”
وهنا، تسأله إحدى الحاضرات:
– “في الصفحة 113، تقول: الذكريات لا تموت، هي فقط تغيّر أثاثها الداخلي… هل كنت تقصد أن الإنسان يُزيّف ذاكرته، أم أن الذاكرة هي التي تخون الحقيقة؟”
يتلعثم.
يفكّر بسرعة: هل الصفحة 113 هي مقطع مريم أم نجم؟ من كتب هذا السطر؟
فيجيب:
– “الذاكرة… معقّدة… وأنا أؤمن أنها… مرنة؟”
تتسرّب همهمة. بعض الوجوه تتبادل نظرات.
ثم يسأله شاب من الخلف:
– “في النص، هناك قصة فرعية عن فتاة تعاني من فقدان ذاكرة جزئي، هل هذه مستوحاة من تجربة شخصية؟”
عامر يجيب:
– “آه… نعم… فتاة… مهمّة جدًا…”
ينظر للناشر. ثم يقول:
– “في الحقيقة، كل الشخصيات بداخلي. أنا كتبتهم، وكتبوني.”
وفي المساء الدعائي الثالث… على الطاولة، رُتّبت نسخ كثيرة من كتاب جراح الذاكرة الثامنة، كأنها شهود لا تنطق. بجانبها، جلس الكاتب عامر المهمومي، مرتديًا وشاحًا صوفيًا رغم الجو الحار. وراءه لافتة تقول:
“الذاكرة تكتبنا – أمسية مع الكاتب الكبير عامر المهمومي.”
الجمهور في البداية كان كبيرًا نسبيًا، حوالي 45 شخصًا. كاميرا هاتف تبثّ مباشرًا على وسائل التواصل. الناشر يتصبّب فخرًا. عامر يلوّح بيده وكأنه قائد أوركسترا.
امرأة في منتصف العمر تغادر لأن الكرسي بلا مسند ذراعين – تقول: “أنا عندي ديسك.”
شابّان يغادران لأنهما ظنّا أن الأمسية ورشة كتابة إبداعية مجانية.
فتاة ترتدي الأسود الكامل تغادر بصمت عندما قال عامر:
– “أنا لا أؤمن بالحزن، أؤمن بالأثر الجمالي للحزن.”
تهمس: “حزن مَن يا عمّي؟”
مراهق جاء ليصوّر ستوري، غادر فور انتهاء كلمة “مرحبًا بكم”.
رجل خمسيني قال بصوت مسموع: “رجعت الكهرباء”، فغادر.
بعد نصف ساعة، تبقّى فقط:
ثلاثة من كتّاب الأشباح: يوسف (قصص الطفولة)، مريم (الفصول النفسية)، ونجم (الحوارات). خمسة أصدقاء منتفعين: يحبّون عامر لأنه يدفع الحساب في المقهى.
الناشر (يتظاهر أن القاعة ما تزال ممتلئة). الكاميرا ما تزال تعمل… لكن لا أحد يشاهد البث. بدأ عامر يتحدث:
– “حين قررتُ أن أكتب هذا الكتاب، كنتُ أقيم في شقة صغيرة في باريس، وكان كل شيء يكتبني: الضوء، الصوت، الفراغ…”
همهمة من يوسف.
نظرة ساخرة من مريم.
ضحكة صغيرة من نجم.
عامر يُكمل:
– “الفصل الرابع مثلًا… كتبته وأنا في حالة اختناق، كنتُ أبكي تقريبًا…”
قاطعه يوسف فجأة، بنبرة جادّة:
– “لكنني كتبتُ الفصل الرابع.”
عامر يبتسم بتوتر، يقول:
– “يعني… نعم، كتبته تحت إشرافي الروحي.”
مريم تقول:
– “أنت أرسلتَ لنا ملاحظة صوتية مدتها 11 ثانية تقول فيها: (اعملوا لي شي عن ذكرى الطفولة وعلاقة ما مع الحرب).”
ضحكة من أحد الأصدقاء. صمت. ثم يبدأ هؤلاء الأصدقاء بالانسحاب، واحدًا تلو الآخر:
الأول تلقّى “اتصالًا طارئًا”.
الثاني “خرج ليدخن ولم يعد”.
الثالث قال بصوتٍ مسموع: “سوف أسبقكم على القهوة، احكوا لي لاحقًا الذي صار!”
الآن، لم يبقَ سوى عامر… وكتّابه الأشباح. من هنا تبدأ المناقشة الحقيقية.
نجم يسأله، بوجه شبه بريء:
– “كيف فسّرتَ جملة: (الأنثى ليست مرآة، بل شهقة في الضوء)؟”
عامر يتردّد، يضحك، ثم يقول:
– “جملة… عميقة… تقصدون بها تفكيك المفهوم الأنثوي… صح؟”
مريم تردّ، بنبرة واثقة:
– “أنا كتبتها. وكنتُ أعني العكس تمامًا.”
يوسف يضيف:
– “وأنتَ كنتَ معترضًا على الجملة، وقلتَ لي بالحرف: (أيّ شهقة هذه؟ ليست فنيّة).”
في تلك القاعة المُطلّة على ساحةٍ مهجورة من أطراف المدينة، نُصِبت الطاولة الخشبيّة بعناية، وفُرِشت فوقها نسخٌ أنيقة من الكتاب الجديد: “جراح الذاكرة الثامنة”، ممهورةٌ باسم الكاتب عامر المفهومي، بخطٍّ ذهبيٍّ متورّم.
جلس عامر في صدر القاعة كعرّافٍ ينتظر نبوءة التصفيق. كان يرتدي وشاحًا قزحيًّا، وقد علّق على عروة سترته وردةً جافّة، قيل إنّها من “جبال العتمة”.
قال في أولى كلماته:
– “هذا الكتاب خلاصة سنواتٍ من الحفر في الجراح… وفي الذاكرة، لا الأولى، ولا الثانية، بل الثامنة، حيث تُشفى الكتابة ويبدأ الألم من جديد.”
هزّ البعض رؤوسهم بإعجابٍ، بينما بدأ آخرون يحدّقون في ساعاتهم، أو يفتّشون بأبصارهم عن شيء خلف نوافذ القاعة.
لم تمضِ عشر دقائق، حتى غادر رجلٌ أشيب يتمتم ساخطًا:
– “ظننتُها أمسيةَ شعر.”
ثم تبعته فتاةٌ شابة تمتمت عند الباب:
– “ظننتُه عنوان فيلم.”
وغادر شابّان وهما يتبادلان الضحك:
– “قال ذاكرة ثامنة! وأنا ما زلتُ أبحث عن الأولى!”
وتناقص عدد الكراسي المشغولة، كأنّ كلّ كرسيٍّ يستعيد مبرّره الخاص للفرار.
في المنتصف، بقي خمسة أشخاص:
ثلاثةٌ بوجوهٍ صامتة، تبتسم شفاههم دون أن تضحك عيونهم، ورجلان من رفاق المقهى، لا يعرفان عن الكتاب شيئًا، سوى أنّ عامر وعدهما بعشاء فاخر بعد الأمسية.
استأنف عامر خطبته عن الكتاب:
– “الفصل الرابع كتبته في ليلةٍ قمريّة، حين كنتُ أقيم في باريس. تذكّرتُ فيها وجهي وأنا طفلٌ يتلعثم باللغة، وينام على أرصفة الشتاء.”
رمقته فتاةٌ من الحضور القليل بنظرة ثابتة، وقالت:
– “لكنك لم تكن في باريس. أنا من كتب الفصل الرابع.”
شهق الرفيقان.
تلعثم عامر، ثم ضحك وقال:
– “أوه، طبعًا طبعًا… ملاحظاتي أوحت لكِ بتفاصيله، أليس كذلك؟”
أجابت بهدوء:
– “ملاحظتك الوحيدة كانت: (اكتبي شيئًا يجعل القارئ يبكي).”
ضحك الرجلان من جديد، ثم تذرّع أحدهما برسالةٍ على هاتفه وغادر، ولحقه الآخر بعد لحظات، قائلاً:
– “الذاكرة الخامسة اتّصلت بي.”
تبقّى في القاعة أربعة:
عامر، وثلاثة من كتّاب الظلّ.
رفع أحدهم، واسمه يوسف، رأسه وقال:
– “أنا كتبتُ الفصل السابع. الفصل الذي أثنى عليه الجميع.”
ردّ عامر بسرعة:
– “نعم… نعم، لكنه بُني على فكرتي، فكرة الطين والحنين…”
قاطعه يوسف:
– “بل بُني على قصةٍ من طفولتي، أرسلتُها لك صوتًا مسجّلًا، وقلتَ بالحرف: (جميلة. نستخدمها).”
ساد القاعة صمت ثقيل.
كان عامر يجفّف جبينه بمنديلٍ ورقيّ، وقد تلوّن وجهه.
قالت مريم، الكاتبة الثانية، بنبرة حادة:
– “ما كتبتَه بنفسك في الكتاب لا يتجاوز ثلاث فقرات… وكلّها في الإهداء.”
اقرأ أيضاً:
“فضيحة موقعة “قصة قصيرة لبولص آدم: تعرية أوهام الكاتب المُلفَّق
“فضيحة موقعة “قصة قصيرة لبولص آدم: تعرية أوهام الكاتب المُلفَّق