فضائل الخيانة في الترجمة

بورخيس
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أندريه غباستو (André Gabastou)

ترجمة: الحسن علاج

كثيرا ما مارس بورخيص الترجمة ونظر لها: فكل أدب، يصدر، بحسبه، عن هذا النشاط. يرد الرابطة المشتركة للأمانة إلى أصل كاذب.

ألف بورخيص ثلاثة نصوص “نظرية” في الترجمة، وقراءتها تعتبر ضرورية إذا ما رغبنا في فهم أولويتها الأدبية: “طريقتان في الترجمة” (1922)، “ترجمات هوميروس” (1932) و “مترجمو ألف ليلة وليلة” (1935)، والتي ينبغي أن يضم إليها [ النصوص ] هذا الإخراج الموضح لأفكاره حول موضوع “بيار مينار، مؤلف الكيخوتي”(1939). وفي سنة 1933، كتب الكاتب القومي الأرجنتيني رامون دول (Ramon Doll)، ضمن مهمة تحت عنوان “بوليس ثقافي” ضد كتاب مناقشة، وهو مجموعة مقالات لبورخيص: “تنتمي تلك المقالات، البيبليوغرافية عبر قصديتها أو محتواها، إلى نوع أدبي طفيلي يكمن في تكرار أسوأ لأشياء قالها آخرون بشكل أفضل ؛ وفي جعل دون كيخوتي دي لامنتشا ومارتان فييرو عملين غير مطبوعين، ثم العمل على نسخ صفحات كاملة من تلك الأعمال.” لم يتمكن رامون دول من تقديم تعريف أفضل للبرنامج البورخيصي: طرح المؤلف للمناقشة، حقيقة متلاشية، انعدام النص الأصلي. ففي بداية نص لبورخيص، يوجد دائما نص آخر، نص لشخص آخر. وفي هذا الصدد، فإن تمهيد طبعة 1954 لكتاب التاريخ الكوني للعار يعتبر جليا. وفيه نقرأ: “إنها [الصفحات] تشكل لعبة غير مسؤولة لخجول لايمتلك الشجاعة لكتابة حكايات والذي يتسلى بتزييف أو إتلاف (وأحيانا بدون عذر جمالي) قصص الآخرين.”

فمن جهة، كان بورخيص على الدوام حائدا، ومن جهة أخرى، فهو كان يملأ تخييلاته بشخصيات شبيهة به: مترجمين، كتبيين، عصاميين متبحرين في المعرفة، إلخ. ثم، إنه بفعله ذلك، الوديع الحامي لبوينس آيرس فإنه يزعزع القاعدة التي ترتكز عليها الثقافة الغربية: تميز المؤلف، أسبقية النص الأصلي، انسداد الحدود بين القراءة والكتابة. فالكتابة، القراءة والترجمة، تعتبر عمليا في تصور بورخيص شيئا واحدا.

نماذج من هوميروس وألف ليلة وليلة

كان ينبغي توقع ما الذي يفضي إليه نقيض المثل الإيطالي «المترجم، خائن” ( trduttore، traditore) من أجل الدفاع عن إمكانية لترجمة ناجحة. وبالرغم من ذلك، فإن بورخيص كان واعيا تماما بالخسارة التي يستوجبها النأي، وهو ما دفعه إلى أن يكتب: “ستبدو أبيات إيفاريستو كارييغو، بذات الأسلوب، فقيرة في نظر شيلي مني أنا الذي أفهم بين السطور قيلولات سكان الضاحية، أنماط وجزئيات المشهد الطبيعي غير واضحة لكنها كامنة: صحن دار، شجرة تين خلف حائط وردي، نار القديس يوحنا في واد صغير.” فهو يقوم “في ترجمات هوميروس”، بفحص دقيق لمختلف ترجمات المؤلف دون أن يقوم بأدنى إحالة إلى النص الأصلي ( بسبب جهله النافع باليونانية”، كما يقول)، قبل أن يستنتج: “مع افتراض أن كل تركيب جديد للعناصر يعتبر إلزاميا في مرتبة أدنى من أصله يعود إلى افتراض أن المسودة 9 تعتبر إلزاميا أدنى من المسودة h ـ لأنه لا توجد سوى مسودات. لاتصدر فكرة ” النص النهائي إلا عن الدين أو عن الضجر.” ففي “مترجمي ألف ليلة وليلة”، يدافع بورخيص عن فكرة أن ترجمة ما تكون ناجحة بقدر ما تكون مرتسمة في سلسلة ثقافية، وهي حالة أنطوان غالان ( Antoine Galland) ( “نحن، قراء نعيش زمنا مفارقا في القرن العشرين، نتذوق فيه طعما عذيبيا للقرن الثامن عشر الفرنسي وليس الأريج الشرقي المتلاشي الذي صنع حداثته ومجده منذ مائتي عام” ) أو حالة القبطان بورتون (Burton)، الذي أوجد جوابا لتلك المسألة: “كيف كان أشراف القرن التاسع عشر يتسلون بالروايات المسلسلة للقرن الثالث عشر ؟” وبالمقابل، فإن بورخيص يرفض للسبب ذاته ترجمة الألماني إينو ليتمان ( Enno Littmann)، التي تعتبرها الموسوعة البريطانية من أجود الترجمات التي يتم تداولها: “حجتي في ذلك هي كالتالي: إن ترجمات بورتون ومارداروس ( Mardrus)، وحتى ترجمة غالان، لاتفهم إلا بوصفها تأتي بعد أدب ما. […] فعند ليتمان، العاجز، مثل واشنطن، على الكذب، لن نعثر على أي شيء أخر سوى على الأمانة الألمانية. إن ذلك زهيد جدا، إن ذلك دون الكفاية.” وبالطبع، فإن بورخيص يسائل مرة أخرى مفهوم الأمانة، بما أنه يوجد شيء ما مفارق ضمن الأهمية التي يوليها له بما أنه لا يتكلم العربية ولا يفهمها. وهو ما لم يمنعه من امتداح الـ “أمانة الرائعة” لإدوارد لان ( Edward Lane) والـ “خيانة الخلاقة السعيدة” للدكتور مارداروس. من حقنا التساؤل. أمانة أو خيانة لأي شيء ؟ ففي “بيار مينار، مؤلف الكيخوتي”، أعاد هذا الأخير بنفس العبارات كتابة الفصول التاسعة و الثامنة والثلاثين من الجزء الأول للكيخوتي، ومقطع من الفصل الثاني والعشرين. يخاطبنا بورخيص بالقول: “يعتبر كل من نص سيرفانتيس ومينار متطابقين حرفيا، غير أن الثاني يعتبر الأكثر غنى على وجه التقريب.” وفي الواقع فهو يطرح، في نص يمتلك كل مظاهر خدعة ما، قضية تلقي العمل الأدبي: يقرأ القارئ النص انطلاقا من كينونته في العالم، من تجربته وانطلاقا من زمنه.

لصوصية شعرية

فلو تم العمل على العودة ببورخيص إلى ميدان علم الأخلاق وإيثيقا الترجمة، بعبارة اخرى إيثيقا الأمانة، فإنه سيكون من المسموح به الحديث عن “لصوصية شعرية” جان ـ كليت مارتان ( Jean – Clet Martin)، عن “وسيط” آلان بول (Alan Pauls)، عن “كتابات تابعة” رافائيل إيستيف ( Raphaël Estéve)، ثم أن يجعل منه خائنا للأفكار التي كانت رائجة في عصره (وترى الفكرة الرئيسية أن كل ترجمة تكون مصحوبة بخسارة بالنسبة للأصل ). فهو يقوم تماما بتحويلها بمهارة إلى قطع وهو ما ينبغي أن يلاحظ في فكره بداية للأشغال التي ستغير إدراك الترجمة، ومن بين أولئك أمبرتو إيكو، الذي كتب في قول نفس الشيء تقريبا: “على أن مفهوم الأمانة يسهم في الاعتقاد بأن الترجمة هي شكل من أشكال التأويل وأنه عليها أن تتغيا دائما، بالانطلاق من وعي الثقافة ووعي القارئ، اكتشاف لاأقول مقصدية المؤلف بل مقصدية النص، ما يقوله النص أو يوحي به في علاقة مع اللغة التي يعبر بها وضمن السياق الذي نشأ فيه.” نحن ندرك منذ جاكوبسون بأن التكافؤ اللساني لا وجود له وأن الترجمة ليست ولن تكون في وقت من الأوقات نسخة لأي شيء مهما كان، إنها تقترب من الاستعارة، ولو صدقنا كلام بورخيص، فإن الاستعارة تكون ناجحة بقدر ما تتاصل في المجال الثقافي للقارئ.

……………………….

عن المجلة الفرنسية: ( Le Magazine Littéraire) عدد: 520 يونيو 2012

 

مقالات من نفس القسم