فصل من رواية “مفتاح الحياة”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم فرغلي

عَدَدْتُ غيابها عن حياتي الضربة الثانية لي بعد موت عماد المبكّر، والصادم، الذي كان حَدَثًا مفصليًّا في حياتي وحياة كلّ شلّتنا (الأصدقاء المُقرّبون) تقريبًا. وبالرغم من أنني تمنّيتُ لها السعادة من أعماق قلبي، لكنّي، لن أسامحها أبدًا على زواجها المبكّر، ورحيلها إلى أمريكا مع زوجها. وسوف يلاحقني الشعور بالتعاسة لغيابها دائمًا. بينما سيظلّ عزائي أنها كانت سعيدة بقرارها بالزواج والهجرة.

جاكلين صديقة بالمعنى الذي أفهمه لفكرة الصداقة، ومعها أتحدّث عن أيّ شيء يخطر ببالي، فتبتسم وتهزّ رأسها بتفهّم وهدوء كعادتها.

 بين أسباب ارتباطي الروحي بها؛ إحساسي بأنها أكبر من عمرها، فقد كانت أكثر نُضجًا منّي بكثير. عاقلة، وهادئة، قارئة نهمة، وتحلم بالحياة في أوربا أو أمريكا. لم تشاركْني تعلُّقي بالشارع، والخروج مع عماد ورامي وشلّة الجيران في توريل. لكنها، لا تخفي شَغَفَهَا بحكاياتي عنهم. ووصفتْني بأنني أصبحتُ أُشبِهُ الأولادَ، بسبب شدّة ارتباطي بهم!

تاريخ مغادرتها للمنصورة أصبح تاريخًا مركزيًا، أُؤرّخ به الحكايات والأحداث. أحكي الحكاية، وأقول حَدَثَ ذلك بعد سَفَر جاكلين. وأحيانًا أبدأ قائلة: “لمّا جاكلين كانت هِنا، أو لمّا سافِرنا “رأس البرّ” مع جاكلين حصل كذا”.

“بقَدْر جمال المنصورة بقَدْر ما أضاعتْ شباب الكثير من أبنائها”. هكذا قالتْ يومًا، ومعها الحقّ طبعًا، فلا يمكن مقارنة المنصورة، بكلّ ما فيها، بليلة في الإسكندرية، أو القاهرة.

 اعتادتْ جاكي، كما نُدلّلها، في رحلاتها للقاهرة مع أمّها وأختها الأصغر، زيارة المسارح، والسينمات، والتّردّد على مطاعم أنيقة، ونوادٍ عديدة. أمّا هنا، فليس لدينا إلا ناديَيْن أو ثلاثة، وبعض المطاعم. السينما لا تليق بالعائلات. والحياة اليومية فيها مَبنية على الروابط الاجتماعية والزيارات العائلية في البيوت.

 لكننا، مع ذلك، مثل كائنات البحر؛ لا يمكن أن نبتعد عن المنصورة إلا ونشعر لها بالحنين الجارف. وهو مرضٌ شائعٌ عند أهلِها جميعًا تقريبًا. فمَن الذي لا يحبُّ المنصورة؟ ولعلّ تعلُّقنا بالمنصورة له علاقة بمعرفتنا بتاريخ المدينة الجميل.

كان عمّي وديع، مثلًا، حين يأتي لزيارتنا قادمًا من بورسعيد، يحكي لنا عن منصورة ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، فتبدو لنا كأنّها بلدة أوربية بسبب الأبنية العتيقة، مخروطية الأسقف، التي تخصّ الرعايا الأجانب. يُخرِج لنا ألبوم الصور الجِلْدي العتيق، الذي يحتفظ به معه في حقيبة صغيرة، أينما ذهب. نتأمّل الصور التي تبدو لنا كأنها رحلة في زمنٍ آخر. صُورٌ بالأبيض والأسود، مصقولة، وفي حالة جيّدة كأنها كروت بوستال. صور من زمن آخر، لا علاقة له بزمن بالمدينة التي نعرفها.

 لم نكن نملّ من تكرار الفُرجة على الصور، وبينها صورته وهو يقف بجوار مبنى القنصلية الإسبانية بتصميمه الأوروبي الجميل، أو أمام مدرسة “الفورير” التي درس فيها في صغره، وصور أخرى لشارع السِّكَّة الجديدة في الأربعينيات، مع صور جدّي فلتس وجدّتي اليونانية “تيته فيودورا”. أخبرنا مرّة عن “حارة الخواجات”، التي عاش بها الكثير من الإيطاليّيْن واليونانيّيْن.

 من بين الصور التي كنتُ أتمنّى أن أحتفظ بها، صورة لعمّي وديع أمام المدرسة اليوناني، التي عملتْ فيها جدّتي “تيته فيودورا” أو “فوفا” كما يُدلّلها أفراد العائلة.

وكنّا منبهرين من مساحة الحدائق والأشجار حول مبنى المدرسة الذي يُشبه قصرًا فخمًا بسلالم عديدة. وكان واضحًا عُلو أسقف القصر الذي تحوّل للمدرسة اليونانية. وكان جدّو فلتس يقول إن المنطقة كلّها كانت تابعة للجالية اليونانية، حتّى الخمسينيات.

ولم نرَ صورًا لأبي في تلك المرحلة، إلا في صورة وحيدة، بدا فيها طفلًا، تحمله جدّتي بين يَدَيْها، وبجوارهما يقف عمّي وديع الذي كان يكبر بابا بأكثر من عشر سنوات.

وحتّى أمّي حَكَتْ لي أنها وزميلاتها خلال فترة الدراسة، كنّ يذهبنَ إلى السينما في الحفلات الصباحية. وبضحكةٍ خجولة؛ تُلَمِّح لي أن تلك السينما ملتقى المواعيد الغرامية بين البنات والشباب، حتّى لو اقتصر الأمر على تبادُل الابتسامات من بعيد، والغزل العفيف. ولمّا سألتُها إذا ما حدث مرّة والتقتْ بابا في موعد غرامي في السينما، فابتسَمَتْ في خجل، وطلبتْ منّي السكوت. وفهمتُ طبعًا أنها ربّما كانت تلتقي شخصا آخر قبل أن تتعرّف إلى أبي، الذي تزوّجتْه زواجًا تقليديًّا.

حكى لي بابا أيضًا عن “مدرسة الليسيه”، التي تقع في أوّل شارع طلعت حرب في توريل، قبل أن تتحوّل لمدرسة حكومية. وعن جمال أيّام المنصورة زمان. وعن الطبقات الأرستقراطية التي وجدت متنزّهًا لها في “نادي التجديف” و”كازينو النيل”، بالإضافة للحفلات الموسيقية التي كانوا يُقيمونها لأمّ كُلْثُوم وعبد الوهاب وكبار الفنّانين في قصورهم، خصوصًا قصور عائلة الشّنّاوي.

وحين نسأله عن تفاصيل بعض ما أخبرنا به “عمّي وديع” يقول لنا مبتسمًا إن وديع لا يعرف شيئًا عن المنصورة منذ الخمسينيات، بسبب انتقاله إلى بورسعيد للعمل هناك، وبقي بها، وتزوّج، وصارت معرفته بها أكبر من المنصورة.

كلّنا نعشق المنصورة بجنون، ولكننا أيضًا نعرف أنها أصغر من طموحاتنا، ولذلك كان من الطبيعي، بين آن وآخر، أن نسمع عن هجرة أو سَفَر أصدقاء لمَنْ هم أكبر منّا عُمرًا.

 ولكننا كنّا نستقبل الأمر بشكلٍ طبيعيّ، بسبب سُمعة المشاهير الذين انطلقوا من المنصورة، وأصبحوا نجومًا في المجالات كافّة. وهو ما يجعلنا نشعر بالزهو، ولا نبالي بسخافات الذين يسخرون من انتشار زُرقة عيون الفتيات، بالإشارة السخيفة إلى تزاوُج الفرنسيّيْن بأهل المدينة إبّان حملة لويس التاسع وهزيمته وأَسْره في المدينة.

 في النهاية، ارتبط قَدَرُ المنصورة بطريقة بنائها كمدينة عسكرية محدودة المساحة، ولم تكن له أيّ حلول. وأسهم الريف والقرى القريبة منها في تضييق الخناق حولها بما لا يتيح أيّ مجال لتوسّعها.

مع ذلك، كانت المنصورة، وستظلّ، بالنسبة لنا، العالم كلّه.

……………

* فصل من رواية “مفتاح الحياة”، الرواية الثالثة من “ثلاثية جزيرة الورد”

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال