فصل من رواية “شَرْطِي هو الفرح”

ashraf al sabbagh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أشرف الصباغ

عاودتني الهلاوس ليلا. لم أحكِ لأحد. ولم يكن يعرف أحد أنني أذهب في الليالي المقمرة لأشاهد محفوظة. صرت أخاف منها، وأنجذب إليها في الوقت نفسه. لم يفلح الأطباء في المستشفى الميري من تحديد حالتي. جربوا البخور والرقي وقراءة القرآن. استدعوا الشيخ السباعي مرة أخرى. وعندما راح يتحدث عن الجن والعفاريت، طرده جدي عزيز. استدعوا القسيس الذي راح يقرأ هو الآخر كلمات من الإنجيل ويربت على رأسي وظهري، فقالت له أمي، شكرا، يا سيدنا، قدَّس الله روحك، ورافقته إلى باب الدار وهي تتمتم بكلمات غير واضحة. وفي النهاية، أخذوني إلى العضاضة التي كانت قد فقدت البصر تقريبا. قالت لهم:
-اذهبوا واتركوه.
سألتني:
-نزلت النهر؟
-لا.
-طلعت شجرة النبق أو السنط؟
-شجرة النبق.
ابتسمتْ عن فم أهتم بدون أسنان. نظرتُ إلى فمها المظلم وتذكرتُ باب الحرش الكبير فوق الهضبة. أصابني خوف. بدأ جسدي يرتعد. أخذتني في حضنها وتشممتني. ربتت على رأسي، وقالت:
-انزل إلى المياه..

في تلك الليلة، نمتُ في هدوء. وفي الصباح ذبح جدي عجلا صغيرا، وتوافد الجيران ليهنؤا أمي بشفائي.
أصبح الطريق مفتوحا، لكي أرى محفوظة. بدأت أتردد على بيت العضاضة التي أصبحتُ أرتاح إليها، بينما الجميع يرون أنها الشفاء والدواء.
تجنبتني محفوظة في البداية. كانت تضع الأكل أمام أمها، وتسألني عما إذا كنت جوعانا أم لا. في البداية كنت أخجل رغم إلحاح العضاضة بأن آكل معها. كان كل أهالي القرية يرسلون يوميا ما تسمح به حالتهم. وفي الأعياد كانت جدتي الصغرى ترسل بطة أو دجاجة، ويرسل غيرها خبزا ودقيقا. ومع الأيام صرنا نتجاذب أطراف الحديث، والعضاضة تعلق بين الحين والآخر. وأحيانا كانت تضحك، فأتذكر باب الحِرش الكبير.
الحزن يملأ عيون محفوظة. أحيانا أضبطها تغني أغاني لم أسمعها أبدا في دارنا. وأحيانا كانت تبكي في صمت. وفي الليالي التي يكتمل فيها البدر كان حالها يتبدل كليا، لا بكاء ولا تذمر ولا خوف.. كانت تضحك وتتحنجل. لم تكن تشكو من التعب أو الإرهاق بعد عودتها من توزيع المياه. وفي يوم الذي اكتمل فيه القمر، قالت لي:
-تعال معي الليلة إلى النهر..
طلبتُ من أمي أن أبيت تلك الليلة في بيت العضاضة. رفضت. فحزنت وارتعد جسدي. تصببتُ عرقا. فحملوني إلى بيت العضاضة.

نامت العضاضة بعد أن أطلقت صراخا وعويلا يمزق القلب. مسحت محفوظة على رأسها وتمتمت بكلمات قليلة غير واضحة. التفتت إلى بعيون لامعة وأشارت بالخروج.
كان البدر مكتملا. تقدمتني بخطوة. أمسكت بيدي. رحت أسير خلفها مجذوبا إلى الطريق. لم تكن تتكلم، لكنني كنت أسمع حديثها. رحتُ أرقبُ ظلا يتقدمنا. كانت أنفاسه تختلط بأنفاسها وأصوات أخرى لطيور ما تتخلل كلمات متفرقة لبشر غير موجودين معنا. عبرنا القنطرة الترابية. توجهنا إلى مدخل مقام سيدي الخراشي. همست: اتبعني.
درنا سبع مرات حول المقام. وعلى المصطبة الصغيرة في الركن البعيد، جلستْ وأجلستني إلى جوارها. تمتمت بكلمات دون أن تفتح فمها. تربعت على المصطبة، وأشارت لىَّ أن أفعل مثلها. كان جسدي يرتعد. تسلل خوف ما إلىَّ.. خوف جديد ليس كذلك الذي ينتابني عندما أسير في الظلام أو أقترب من شجرة السنط، أو أصعد شجرة النبق.. فجأة، وجدتُ نفسي أمد يدى في نفس اللحظة التي مدت فيها يديها.. جذبتني نحوها في هدوء.. أحاطتني بذراعيها، رفعتني إلى أعلى قليلا. مالتْ إلى الخلف. أصبحتُ فوقها تماما. احتضنتني بقوة، أحاطتني بساقيها. انبعث دفء في جسدي، بينما كان جسدها ينتفض. وراحت تبكي..
كان البدر يضئ المكان وكأنه صب كل نوره علينا: عيناها صافيتان وابتسامة رائقة تغزل كل ملامحها. نهضتْ وسحبتني من يدي. توجهنا إلى المسافة بين الشجرتين. راحت تخلع ملابسها. أشارت بأن أفعل كما تفعل..
عاريان وقفنا في مواجهة بعضنا البعض. اقتربتْ مني. لمستْ عضوي الذكري، وقبلتني قبلة طويلة. دفعتني إلى النهر. صرختُ، لكنني لم أسمع صرختي. وجدتني أسبح إلى جوارها، نغطس معا ونطفو معا.. كان إحساسي بجسدي يخف كلما اقتربنا من الضفة الأخرى المحاذية للهضبة. لم أكن خائفا..
خرجنا. نظرتُ نحوها. كان جسدها وكأنه لم يلمس الماء قط. اقتربتُ منها. مددتُ يدي نحو صدرها.. المسافة من الشاطئ إلى باب الحرش تحولت إلى ساحة مفروشة بالأخضر.. كلما اقتربنا من الباب، كانت المسافة بين أقدامنا وبين الأرض تزداد.. قبل أن ندخل، وعلى الباب مباشرة، التفتت نحوي بابتسامة كنور البدر. وإذا بدوامة هواء باردة ترفعنا معا إلى أعلى، وصوت ارتطام هائل يزلزل كل ما حولنا. انفتحت طاقة نور، وإذا بمحفوظة تتجسد طيفا لا أول له ولا آخر.. كينونة واحدة بأطياف متعددة تسير متناغمة.. كل شئ واضح ومكشوف، ولا شئ ملموس..

انبعث صوت ليس له مصدر.. أنت لست بحاجة هنا إلى هذا العقل المحدود.. لست بحاجة إلى جسد مادي ملموس.. هنا عالم إدراكي مختلف تماما.. لست بحاجة إلى يدين أو قدمين أو عينين.. لست بحاجة إلى أذنين لسماع أي شئ.. كل شئ يسير في انسيابية غير عادية.. يسير على نسق آخر تماما من الحركة والكلام والنظر.. لا أسئلة ولا أجوبة.. عندما يبرز السؤال، تبرز إجابته.. قد تلتقي كينونة ما، أو أكثر من كينونة معا.. السؤال غير المنطوق وغير المسموع يعرف هدفه، فتأتي الإجابة دون سماع السؤال أو النطق به..
تردد الصوت في كل الأنحاء.. أن تدخل من الباب الكبير وسط تلك الدوامات والعواصف، فتتحول، فتتخلص تماما من كل شئ.. العقل هنا ليس مجرد قطعة من اللحم واللفائف والخلايا. هو أيضا كينونة تمارس ذاتها لذاتها. كينونة إدراكية مفتوحة على المطلق.. ينطلق إلى كل الوجود بلا مكان ولا زمان… لا ذكرة أيضا، لأن الذاكرة، فقدت وظيفتها وتحولت إلى حالة إدراكية: هنا والآن ولا شئ قبل ولا شئ بعد، فانتفت عنها صفاتها.

ويهتف الصوت مجلجلا من دون مصدر.. عند العودة تبدأ في استرجاع نفسك. على الباب لا دوامات ولا عواصف ولا هدير. مجرد خلايا تتجمع كدخان أو حبيبات سابحة في الفراغ تلتئم لتصنع نفس شكلك القديم الذي دخل منذ فترة غير خاضعة للحسابات البشرية. كلما ابتعدت عن الحرِش وعن الضفة المحاذية له واتجهت صوب الضفة الأخرى عبر النهر، تتحول كينونتك، تنبت لك أياد وأصابع وأرجل وشعر وعيون وأسنان وفم، تُصدِرُ أصواتا، يعاودك التردد والتأرجح. كلما ابتعدت عن الضفة المحاذية للهضبة واقتربت من شجرتي السنط والنبق، تتلاشى الصور والكينونات، تنسى تلقائيا، يغيب عنك ذلك العالم الكائن خلف باب الحرش. ليس نسيانا، بل تحول في طبيعة وجودك وفي كينونتك الإدراكية بطبيعتها خلف الباب هناك بداخل الحرش في قلب الهضبة. في منتصف النهر تماما يراودك السؤال الذي لا يمكنك الإجابة عليه. وبمجرد أن تلامس قدماك الشاطئ وتشعر ببروة الماء، تستيقظ كما يستيقظ البشر.. تمر من بين الشجرتين، تلمس جدار مقام سيدي الخراشي يخيل إليك أنك حلمت حلما غريبا وطويلا لكنك لا تتذكر منه شيئا.

يجلجل الصوت وكأنه من داخلي… هذه الهضبة، هذا الحرش الكبير، تلك المياه، ذلك الفرع الذي تعبره إلى ذلك العالم الذي ليس له مصدر، بل هو المصدر والأزل والأبد، كل ما يربطك بهذا العالم هو إحساسك، هو تلك النقطة التي ترسخت في عقلك البشري المحدود، تلك النقطة التي تبدأ العمل برتابة بمجرد أن تقترب من الشجرتين، تخرج من مياه النهر إلى الضفة القريبة..

نعود مجددا إلى المقام. تسبقني بخطوة. تجتاحني رغبة في مواصلة أبجديات التعرف، في النظر إليها، في لمسها. تبتسم، تنظر في عينىَّ مباشرة، تأخذ يدي وتضعها على صدرها، تُقَرِّب شفتيها من شفتيَّ لتكمل الأبجدية الثالثة.. تشير بأن أستلقي على ظهري، تمسح على صدري في هدوء وبطء. تضغط عند القلب مباشرة. تغمض عينيها، وتهمس بأن أغمض عينىَّ.. تعتليني وكأنها تمتطي حصانا.
نعود إلى دارهم. العضاضة نائمة وأصوات غريبة تصدر من فمها. تشير محفوظة إلى ركن بعيد. أنزوي هناك، بينما تتجه هي إلى الركن المقابل، وتغمض عينها.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

النملة

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الطيور