فصل من رواية “رياح يناير”

ashraf al sabbagh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أشرف الصباغ

الناس في هذه الأحياء يعرفون بعضهم البعض: بالأسماء والألقاب، وفي أسوأ الأحوال بالشكل. والمخبرون لا يسكنون مصر الجديدة وجاردن سيتى والزمالك- قال بشير: بعد أن تجوَّل طويلا في الباطنية والدرب الأحمر والغورية. وقال: الأماكن المأمونة هي التي يتغيَّر فيها الناس، يسافرون، ويعودون، ويقضون مصالحهم. إذن لم يبق أمامك سوى العودة إلى محطة مصر، أو البحث عن مقابر قريبة، حيث يروح الناس ولا يعودون، وحيث يروح المودعون أيضا، ويعودون بين الحين والآخر، ثم تطول فترات الانقطاع بين الزيارات، وتطول، إلى أن ينسوا تماما.

منصور يسير في طريق عودته مهرولا نحو شارع محمد عليّ. العرق يتصبب من جبينه رغم البرد. المساء يهجم بسرعة، والوقت لدى منصور أصبح الآن من ذهب: لابد من توفير مبلغ، أي مبلغ لشراء كفن، أى كفن والسلام. لابد من إكرام زكريا ودفنه دفنة تليق به. لن يقرضك أحد، يا منصور. الكل يعرفونك، وأنت مدين للجميع. لن يشفع لك موت زكريا. موتك نفسه لن يشفع لك. زلابية لن توافق على بيع أي شيء. ليس أمامك غير العمل. صندوقك هو الذي سينفعك في هذه اللحظة. ولكن الوقـت ضيِّق، وإذا عثرت على زبونين أو ثلاثة سيكون كرم من عند الله. فهل ستكفي قروشهم القليلة لشراء كفن لزكريا؟

يسحب منصور الصندوق في عجلة، وزلابية تقف على رأسه متعجبة:
– إلى أين يا رجل؟
– زكريا بيموت- قال منصور وهو يضع مسحوقا بنيا في إحدى الزجاجات.
– وما شأن زكريا بالصندوق؟ هل ستسقيه الصبغة، أم ستدفنه في الصندوق؟
– اذهبي عني يا امرأة، سأعمل قليلا ربما رزقني الله بكفنه- قال ذلك وهو يصب الماء في الزجاجة.
– خذ يا منصور- خلعت زلابية من صدرها سلسلة ذهبية كان قد أهداها لها حينما ولدتْ له الابن الأول.
احمرَّ وجه منصور، وكادت الزجاجة تسقط من يده وهو يرجها. ولكنه تذكَّر أن السلسلة ليست ذهباً كما قال لها آنذاك: فما العمل الآن؟ يأخذها أم يرفضها؟
-لا، لا يمكن يا زلابية. هذه ذكرى. ذكرى عشرتنا وأيامنا الحلوة- قال منصور واندهش بشدة حينما أحس بتهدُّج صوته، وبتلك الأحاسيس التي تنتابه فجأة نحو زلابية، فكتم رعشة مفاجئة كادت تزلزل كيانه وتفضحه أمامها.

الذكرى.. العشرة.. الأيام الحلوة.. يااا..ه- قال منصور وهو يسير مهرولا- كلنا مشدودون إلى ساقية واحدة، وبحبل واحد. مربوطون بسلسلة واحدة قوية لا تنقطع، ولن تنقطع.. زكريا.. وزلابية.. وأم سماسم.. وسماسم.. كلنا. ولكنني لم أكن أعرف أنك هكذا يا زلابية . سبحان مُغَيِّر الأحوال.. من حرامية فراخ وغسيل إلى ملاك طاهر.

.. ميدان الحسين مليء الآن بالناس. ولكنهم لا يشغلون بالهم بتلميع أحذيتهم: لأن أغلبهم يسير حافيا، أو يستخدم مداسا من البلاستيك الرخيص. أما الذين يلبسون أحذية، فهم يستخدمونها كوسيلة انتقال رخيصة، وليس من أجل الأناقة. وإذا فكَّر أحدهم في بطر وبذخ التلميع، فهو يدفع وكأنه يقطع من لحمه. حتى السُيَّاح الذين يلبسون الأحذية في بلادهم، يخلعونها بمجرد المجيء إلى هنا ويلبسون الأحذية الكاوتش أو الصنادل البلاستيكية، ولم يبق فقط إلا أن يسيروا حفاة، على الأقل من أجل المشاركة الوجدانية، والإعلان عن التفهُّم والمشاطرة. المقهى في المغربلين مثل المقهى في الدرب الأحمـر. لا فائدة. ليس هناك إلا الذهاب إلى وسـط البلد: هناك الأساتذة والبهوات والبقشيش السخي. هناك يعرفون قيمة الحذاء اللامع. وقيمة الرجل الذي يلبس حذاء نظيفا. نساؤهم يحترمن ذلك، ويعتبرن أن شخصية الرجل في حذائه. ونعم النساء!

بدأ منصور من كافيتريا “الأمريكين” على ناصية شارع سليمان باشا. راح يعمل بسرعة. انتقل من مكان إلى آخر حتى وصل إلى جروبى في ميدان طلعت حرب. أحصى ما معه من نقود. لم تكن تكفي بعد. لمح بار “الكونكورد” من بعيد، تهللت أساريره: هنا سأعمل. السكارى لا يبخلون. دفع الباب بهدوء، ودخل. سار وبيده الفرشاة. رسم على وجهه ابتسامة ودودة مستعطفة. بدأ بمدير البار، ولكن الرجـل قال:
– ولكن ليس هنا. اجلس على الباب- وأصوات من هنا وهناك تنادي عليه.

أخذ منصور يعمل بنشاط وحيوية وهو يمني نفسه بعائد سخي. وفجأة قال: أي عائد سخي والمحلات تغلق أبوابها. متى سأشتري الكفن. لا، لن ينفع ذلك. نهض، دخل إلى البار، اقترب من مرقس إسحاق وعلى يونس، أخذ أحذيتهما وأعطى كل منهما قطعة ورق ليريحا قدميهما عليها. خرج، ثم دخل ثانية في هدوء، اقترب من مجموعة أخرى بعيدة نسبيا، أخذ أحذية شكري طوبار وعماد صالح. لمحه مدير البار، فابتسم منصور:
– حالا، حالا.

تلاشى منصور في لمح البصر من شارع سليمان باشا. استقل تاكسي وطار إلى ميدان العتبة. توقَّف على رأس شارع الموسكي. نزل مسرعا واتجه إلى سوق “الكانتو”. ولكن لم يكن هناك أحد. كل أغلق محله، أو لملم بضاعته وانصرف. لعن منصور سوق “الكانتو”، وسائق التاكسي، ونفسه، واليوم الأسود. لن يستطيع بيع هذه الأحذية قبل العاشرة من صباح الغد، ولن يتمكنوا من شراء الكفن قبل الحادية عشرة في أسوأ الأحوال. ولكنه تساءل: لماذا انصرفوا اليوم هكذا مبكرا؟! عادة ما يسهرون حتى العاشرة. لم يعد أمامه سوى الدعاء لزكريا بطول العمر ولو ليوم واحد. وضحك في نفسه: الحمد لله، الطقس شتاء ولن تتعفن الجثة إذا مات اليوم. وعموما فسنقوم نحن بغسله ودفنه- لا يهم.

عاد منصور متجها إلى الدرَّاسة في بطء وحزن. لاحظ في الطريق بعض التجمعات. وكلما اقترب من ميدان الحسين، زادت التجمعات، وصارت أكثر شراسة وضجة. لم يكن الأمر يعنيه من بعيـد أو قريب. كل ما يهمه الآن هو التصرف والإسراع في إنهاء مهمته.
نظرت إليه أم سماسم في عتاب وغضب:
-هل جننت، يا منصور؟ أين كنتَ طوال كل هذا الوقت؟
-كنتُ أدبر نقودا. هل..؟
-بعد خروجك مباشرة.
-وما العمل؟- سأل منصور وهو يقدم كل ما معه من نقود إلى أم سماسم.
-ستُصَلَّون عليه الفجر أنت وزوج سماسم وتدفنونه قبل طلوع الصباح. القبر جاهز، حفره زوج سماسم أثناء غيابك.
-والكفن؟
-سنكفِّنه بملاءة بيضاء من ملاءات سماسم الجديدة.
وتساءلتْ فجأة:
-ما هذه التجمعات التي تسير هناك؟
-لا أدرى.
-يقولون إن الحكومة سترفع أسعار العيش.
-إذن هي مظاهرات.
-أعرف أنها مظاهرات، ولكن هل سترفع الحكومة أسعار العيش؟
-ومن أين لي أن أعرف. هل أنا وزير العيش؟
ابتسمت أم سماسم رغما عنها، وقالت:
-لم تتغير يا منصور- وطفرت من عينها دمعة.
لم يعد منصور إلى البيت رغم أنه تذكَّر زلابية أكثر من مرة أثناء حديثه مع أم سماسم. انتابه قلق مفاجئ عليها: مظاهرات وهي وحدها بالبيت، هل لديها خبز أم لا؟ وقرر: سأشتري لها سلسلة ذهبية غدا، فزكريا لم يعد بحاجة إلى شيء.

المظاهرات تستهوي بشير. يتنقل من تجمع إلى آخر وهو يفكر: البقاء في هذه الأحياء خطر. سأعود إلى محطة مصر. ولكن ماذا يحدث، لماذا كل هذا الهرج والمرج؟

وفجأة عم السكون الشوارع. سكون مشوب بالتوتر والترقب والقلق. سكون يحسه بشير ويعرفه جيدا: يشبه سكون العنابر في الليل قبل أن يهجم الأولاد الكبار على الصغار، مثل السكون الذي حدث عندما هاجمه المخبرون أسفل القاطرة، والسكون الذي قطعه صوت الرجل في مرسى مطروح، على البحر، وهو يصيح على أولاده. سكون مرعب ينذر بالخطر.

انزوى بشير في ركن معتم بأحد الأزقة الجانبية في شارع الموسكي. وخلف عربة محملة بالبضائع وضع رأسه على حقيبة منصور واستغرق في نوم طويل عميق لم يكن يقطعه سوى نبش القطط في أكوام القمامة المتراكمة هنا وهناك.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

النملة

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الطيور