فصل من رواية: “رقصة الموت الأخيرة”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جيلالي عمراني

تسكتُ خالتي، أو تنهشها جدتي بعكّازها عندما تتجاوز حدود اللّياقة أو بإضافة غير ضّرورية، أو تسكتها الحكاية نفسها. تسقط نائمة، فتخادعني مانحة لذاكرتها الجارحة راحة محارب.. تتناوم لتتناسل حكاياتها في يوم آخر أو في شهر آخر لا أحد يضمن مزاجها.  أبحث لاحقا عن نكتة نادرة أعيدها إلى سحر الحكاية، إليّ، أعرف أن خالتي "ثيلّلي" إن بقيتْ بلا حكايات ستنتحرْ، أتوهمُ أن هذه النخلة الحزينة ستضع حدا لكثير من الأسئلة المحيرة، تضع حدا لهذه الشرنقة التي وضعتني الأقدار داخلها، أجل،  إن صمتت بعدما فجرت فيها ينابيع الحنين الجارف، ستتفكك كآلة قديمة تماما كما أتفككّ قبل سفري المزمع بعد سنة بعد سنتين، ربما لن أسافر إطلاقا، كنت على عجل من أمري، كأني أذهب إليه بزاد كامل لمواجهة هذا التاريخ.

تجدني في الردهة كالمجنون بالصّخب، وبأغنيات أرتجلها، مهووسا بهذا التاريخ الممتع، المليء بالفراغات. أستفز حواسها وعواطفها، أستفز ذاكرتها، أحمل كناشتي، أفتخر بقصّة أكتبها عن الجندي العاشق، أرقص رقصاتها، لا أخسر شيئا في حالة إصراري لأخذ ما أريد، الحكاية حكايتي و الجوهر جدتي. عندما أعود من دكان “الاستقلال” أنفجر سردا بالأخبار والإشاعات والوجوه الجديدة والأكاذيب التي أرويها بغير ترتيب، سأفعل المستحيل لأجعلها تضحك من تصرفاتي، صمتها لا يخدمني البتّة. ربما والدتي تراني مجنونا بالفعل بهذه التخيلات التي تعذبها بلا شك، ابنها قد جنّ نهائيا! أحدثّها عن الذي سافر عن الذي جاء، عن التي ذهبت وحدها إلى العين، عن التي خاصمت جارتها بسبب الكبريت الذي لم تُعده إليها، عن أشجار التّين التي أثمرت قبل الأوان..

في اللّيل أنام رفقة شخصياتها المدهشة، يتراقصون معي في الظلمة، أحاول ترميم وجوهها البعيدة و هي بعيدة جدا، أربط بين علاقاتهم، أدوارهم على مسرح الأحداث، بين الحين والآخر يزعجني تماما إضافاتها التعسفية لشخصية سعد المركزية و بطولته المطلقة، تزعجني  فعلا سطوتها تلك غير المبررة، ثم علي أن أجد لإضافاتها المجانية مكانا في مُتن الحكاية التي لم تبدأ ككل القصص التي كتبها يوسف إدريس أو الطاهر وطار، فأكتشف بالصّدفة أنّ شخصيات خالتي ترفض البطولة المطلقة، مثلا، اعتقدت لليال طويلة أن سعد  الأمير القادم من العاصمة هو البطل الحقيقي لذلك اختارته الأميرة بلا منافس حقيقي، بعد ليلتين كاملتين أضافت اسم أخيها عنوة، أقحمته ليتقاسم البطولة في الأشهر الأخيرة. لم أستسغ إضافاتها للوهلة الأولى أراها كتأثيث غير مناسب للمكان والزمان.  كنتُ رفيقها المدلل، الذي يقبل ما يشاء و يرفض ما يشاء، إلا في هذه النقطة تحديدا، لم تتقبل مني بتاتا إصراري على البطولة الفردية  لسعد.

لم يكن وحده، سعد بلا صالح(جدّك) مهزلة، صالح يخطط بذكاء لأنه فعلا كان أذكى من سعد، حتى في المدرسة الابتدائية يتحصل على علامات أكبر من علامات سعد، الفرق الوحيد و الفاصل بينهما، جدك سعد أكثره شجاعة و اندفاعا.”

تقبلتُ بصعوبة أمر الشّريك لا مفرّ من سطوتها. لم يكن سعد وحده الذي جلس في نادي الترقي مع العلماء، وجلس أيضا مع كبار السياسيين في العاصمة، و تخرج بشهادة(fin d’étude)قالت أن أخيها صالح رافق سعد إلى العاصمة ودرسا و تعبا و ناضلا وطردا منها طردا مشينا، وعادا في نفس الحافلة إلى مدينة البويرة. ثم أقلتهما شاحنة قديمة حتى عين إبرة ثم مشيا على الأقدام ليصلا فجرا إلى قرية أفتيس. كانا رفيقين جميلين يثيران شغبا في أي مكان يدخلاه.

أتحايل على تلك الوجوه المرّكبة، المليئة بالخدوش و النّدبات، يهمني كثيرا ترتيب الحكاية من أولها إلى نهايتها، عندما تتناوم خالتي أكون ثالثا أو رابعا في الحكاية نفسها: يحدث أحيانا أن نتفق مع شخصياتي المرتبكة، فنخرج إلى عوالم رحبة، نجد أنفسنا عند شجرة الصنوبر المتطاولة، تلاعبنا جدتي الصّغيرة مبتلة الضفائر. هي المبتدأ و المنتهى، نقبل قواعد اللّعبة التي تفرضها، حتى سعد الأمير يقبل شروطها القاسية.

كنت ضائعا بين أساطيرهم و الحكاية التي أتنفسها، كنت الضائع بين نسوة ثلاث أميّات لا يفهمن شيئا في المفردات الصعبة والنحو وإعراب الكلمات، وحساب المساحات والمعادلات، أميّات ينظرن إلي بإعجاب متخوفات من عيون كثيرات يرونني مختلفا ومدهشا، أنا الذي أعرف أن لا شيء في ذاكرة سعد، سوى حكايات تافهة تملأها خالتي بفواصل وجمل تطولها وتقصرها كما تشاء، ليس لي أدنى سلطة لأنهيها أو أقتل أبطالها الذين يكبرون، يعودون و يعشقون و يسجنون و يرحلون. حكاياتها ملغزة، معقدة، تتناسل كل ليلة.

………………….

*كاتب من الجزائر

مقالات من نفس القسم