محمد أبو النجا
“تاريخ البشرية هو تاريخ البحث عن الطعام”
كارل ماركس
1932
لكل شيء مقادير، فلصُنْع قصة عن طفلة ذات طفرة چينية غريبة، يُحضَّر التالي:
- زوج،
- زوجة،
- قميص نوم (اللون حسب الرغبة)،
- فِراش.
تُشعَل الشهوة، ويُضاف الزوج إلى الزوجة، ثم يُقلَّبان على الفراش الساخن، ولا يُفصَلان إلا عند التأكد من إفراز السائل، الذي يُترَك لفترة، إذا طالت دون انتفاخ بطن الزوجة تُعاد المحاولة، وإذا علت يُترَك في الرحم تسعة أشهر. في حالة خروج الطفلة بالشهر السابع، لا بد من الاستعانة بطبيب، حتى يكتمل استواؤها.
*
حلَّ يوليو، أي مرَّت تسعة أشهر، ولا بد من إخراج الطفلة قبل أن تُحرَق الأحداث. الزوج جالس على المقهى يلقي بزهر الطاولة سعيًا لكسب رهان، فيعترض الغريم:
– أنت قرصت الزهر.
تنداح الهمهمات، وتشتد حرارة الرجال، وأخيرًا تجذب الابنة الكبرى جلباب أبيها وهي تصيح:
– أمي بتولد.
*
يُسخَّن ماء، يُزاد عويل الطلق والحركة أمام عيني الزوج المتوترتين، ثم يُكتفى من هذا النوع من الصراخ ويُضاف نوع طازج، فيدخل الزوج إلى الغرفة مسرورًا، لكنه يستريب من الوجوه الواجمة، فيقترب ليكشف عن مولوده الجديد، وإذا بوجهه يتربد في خيبة ويخرج مُطرقًا. تراه أمه المتربعة، وتشم فيه شيئًا:
– ما لك يا ولدي؟
– بنت يا أمي.
– وإيش تنتظر من شجرة عنب بناتي؟
ثم رمت نظرة على الخمس بنات المتكومات أسفل المشربية، وتطلَّع هو إليهن متحسرًا، وقال:
– ذنبي؛ طاوعتك وطلقت مراتي الأولى.
– وماذا كنت تحصد من نخلة دكر يا ولدي؟ أقلها أصبحت أبو البنات.
– في الحالتين ستختفي بذرتي بموتي، و لن أجد السند في شيخوختي.
تناول طربوشه ونزل. سأل نفسه: ماذا تغيَّر سوى أن البنات قد زِدن واحدة؟ ما لم يحسبه أنه قد أزاد البشر طفلة غريبة؛ ليس بموهبة أو بهيئة، بل بشيء تخطى التصديق حتى في بقية المخلوقات، ولم يأتِ الإنذار للزوج بذلك إلا ليلًا.
*
أمسى الزوج على المقهى مهمومًا، حتى أتته ابنته بالخبر:
– ستي بتقول لك احضر الآن ومعك حكيم.
وبذهابه إلى البيت، علم أن الوليدة لم تكُفَّ عن البكاء. قالت الداية:
– صحتها جيدة، لكنها ترفض ثدي أمها.
وأتوا بمرضعات واستعانوا بحكيم، فباءت المحاولات بالفشل. توالت الأيام، وبكاء الطفلة لا يتوقف، حتى جاء صباحٌ خرس فيه صخبها، فعلموا أن أنفاسها ستمضي دون رجعة. رفض الزوج تناول فطوره. مكث على السطح في محاولة لطرد الغم، وأتته ابنته الكبيرة بالمولودة:
– قطعت النفس والحركة.
حين لم تتلقَّ ردًّا، وضعتها على المقعد، ومضت. كان الزوج يناشد ربه المغفرة، وهو يُؤنِّب نفسه لما بدر من جحود واعتراض على النعمة. تهدج في تضرع لإنقاذ ابنته. أدركه ألمٌ لم يحسبه. وفجأةً، تناهى إليه أنين الطفلة، ثم أعقبه بكاؤها، فاتسعت عيناه بهجة.
*
انهمرت الزغاريد، ووُزِّع المُغات، ونُثِر الملح على الرؤوس، ورنَّ الهون بين فواصل الغناء الجماعي للحضور: “اسمعي كلام أبوكِ.. اسمعي كلام أمك”.
وحضر السهو ضيفًا وأبى أن ينصرف، فلم يطلقوا على الطفلة اسمًا لانشغال الزوج في البحث عن دواء لعلَّتها. قصد الحكماء والعطارين والشيوخ والقساوسة والدجالين، ومع أنهم لم يصدقوا شكوته، أعطاه بعضهم وصفات وطقوسًا رفقًا به. ويبدو أن عناء الزوج قد زاد من تعلقه بابنته، فأمضى الوقت رفيقها، حتى إنه كان يصحبها إلى عمله، ويترك ضيوفه، ويقفز من نومته حال سماع صراخها، فأتت الأسئلة عنها بصفة “حبيبة أبوها”.
*
مرت ثمانية أشهر كانت كافية لتغيُّر الكثير. ماتت الجدة، وازدهرت تجارة الزوج، ونَمَتْ “حبيبة أبوها”. مشت على أربع وبدت ملامحها؛ تجلت الغمازتان على خديها وطابعُ الحُسن في ذقنها، واختُتِمت تلك الفترة بخبر هُرِع به صديق الزوج إليه:
– فتوة الجمالية تعيش أنت.
– لا حول ولا قوة إلا بالله.. سأصحب زوجتي ونقدم التعازي.
– أهذا كل ما استوقفك؟ أنسيت أن بموته قد مات العهد بينه وبين فتوتنا؟!
– ما حدث بيني وبين فتوتنا مرَّ عليه زمن؛ من المؤكد أنه نسي.
*
دبَّ الجوع في الحارة، التي هي مرتع الحي في الحبوب والفاكهة والأسماك و…، فمنذ أن أُقيمت فيها السوق، لم تتوقف الأرجل ولا نزول القُفَف من المشربيات، إلا في منزل الزوج فقط، وذلك بعدما نهى الفتوة عن أي تعامل معه؛ انتهى الطعام في البيت، واضطُرَّ الزوج إلى أن ينجد الصالح من بضاعة دكانه، بعدما لاحظ أن بعضها قد عطب على الأرفف، فصار يُطعِم أسرته منها، بعدما منعها زمنًا عنها، حتى إنه كان يبتاع الفاكهة من آخرين، ولم يكن ذلك إلا تشاؤمًا من أن يأكل مما يبيعه.
بعد عناء ووسائط باءت بالفشل، اضطُرَّ إلى أن يتخلى عن إيجار منزله المدفوع مسبقًا ويبيع دكانه بسعر بخس، ثم هاجر مع زوجته وبناته الست على الكارو. التزم الصمت خجلًا مما أوقعهن فيه، واجترَّت ذاكرته تلك الليلة التي عادى فيها فتوة حارته.
*
في ليلة عُرسه، نصحته العائلة بالحَمَام المحشي ليرفع رؤوس رجالها. ومع توالي السنين، ومجيء الابنة الثالثة، تسلل إليه الخوف من ضياع حلم الولد، فضعفت نفسه وجرَّد أذنه من أحاديث الرضا لتصبح مطمعًا للألسنة. جرَّب وصفات العطارة، شرب اللبن مباشرة من أثداء الماعِز، لَهَط من الكوارع، حتى أنه استحلب الأفيون ودخَّنه. ثم أتت الليلة التي حُضِّرت فيها وصفة المولودة غريبة الچينات؛ بدأ الزوج يومه بلقيمة ملوثة، أصابته بإسهال فظل حتى العصر يرتشف النشا الذائب في الماء، والزنجبيل، وشراب قشور الرمان؛ هدأت معدته التي لم تنادِه جوعًا إلا عند مضيه إلى البيت في ساعات الليل المتأخرة، غير أنه لم يقصد إلا غرفة نومه ليشبع جوعه الجنسي.
عقب افتراق الجسدين، رمته زوجته بنظرة زهو لم تخلُ من الدهشة وشبع جسدي يسد حاجة دهر، أما هو فقد انتشى بالفحولة الطارئة. ارتدى جلبابه وعليه قفطان أجَّله لمناسبة عظيمة، ونزل في الهزيع الأخير من الليل يتمخطر وشيطانه يؤكد أنها ليلة ولي العهد. قصد الغُرزة. دخل منتفخًا في محاولة لإضفاء أهمية على اكتشاف إكسير الفحولة، الذي أتي بوصفة: الجماع على معدة خاوية. نفَّض المكان ببصره، كانت جميع المقاعد مشغولة. طلب مكانًا من الصبي، فرماه بنظرة كالتي تُلقى على صعلوك وأجابه:
– رُح، وتعالَ غدًا.
استشاط الزوج ودفع الصبي الذي ترنح ثم تهاوى. انتبه فتوة الحارة فأنزل عصا الجوزة عن مبسمه وقال:
– كيف تجرؤ في حضوري؟!
وكانت سقطة الصبي قد غرَّت الزوج بالقوة التي حلت عليه، فبلغت به موجة الشجاعة آخرها، وشعر بأن دوره في الفتونة قد آن، ربت على كتف فتوة الحارة باستهانة وقال:
– لا تتدخل في ما لا يعنيك.
طغى الصمت وتجمَّد المشهد، وتنَّح الفتوة لبرهة مذهولًا، ثم همَّ بالنهوض؛ شعر الزوج بأن ساعات قد مرَّت حتى أدرك الآخرُ استقامته الشاهقة، كانت هذه المرة الأولى التي يقترب منه إلى هذا الحد، رأى أن مستوى نظره عند بطن الفتوة، وكان هذا آخر ما رآه.
قالوا له إن غيبوبته قد طالت لشهر كامل، أكل خلاله رز باللبن مع الملائكة.
*
توقفت الكارو في طريق صحراوي، وقال العربجي:
– لن أستطيع إكمال الطريق؛ أمامنا دورية إنجليز وقد قتلوا لي حمارًا من قبل. ستصلون أسرع وبأمان إذا اخترقتم الصحراء من هنا.
شقُّوا الرمال الذهبية، وطال الطريق حتى خُيِّل إليهم أنهم لم يصلوا قط، ثم تراءى لهم شاب أتى يسألهم ونظراته تحوم في تشتت:
– من أنتم؟
– ومن أنت حتى تسأل؟
– ألم تجد في مرورك من هنا ما يثير الدهشة؟
– نحن نقصد الجمالية، حيث أقارب زوجتي.
مرَّ الشاب على البُقَج بنظرة سريعة، إلا أنه توقف عند “حبيبة أبوها” وسأله:
– ألا تخاف عليها من حرقة الشمس؟
– المضطر.
– ما اسمها؟
وهنا تذكرت الأسرة السهو، وفطنوا إلى الفخ الذي أوقعهم فيه. تلعثموا في بحث عن اسم للطفلة التي اقتربت من العام، غير أن الشاب بادر يسأل الزوج أيَّ عائلة يقصد؟ تنهَّد الزوج وأجابه باسم عائلة الفتوة الجديد، فرحب الشاب وهو يخبره عن فتوة الجمالية:
– خيره عليَّ، ولا بد نِوَجِّب معاكم!
وطلب منهم اتباعه إلى أن وصلوا إلى هضبة أسفلها غرفة كبيرة مصنوعة من القضبان الحديدية المغلفة بالأسلاك المتشابكة. قال الزوج:
– وكأنها زنزانة.
– هي بالفعل زنزانة؛ كانت تابعة للإنجليز، وتركوها لنا نستخدمها استراحة.
قدم لهم طعامًا، ثم قال للزوج:
– استريحوا، سأذهب لآتي لكم بالعربة الخاصة بعملنا.
غير أنه فعل ما جعل الزوج ينط من مجلسه؛ أغلق عليهم بقفل ضخم وقال:
– أتراني مغفلا؟!
– ماذا تقصد؟
– ليست هذه المرة الأولى التي يرسل فيها الإنجليز مصريين للنيل منا. قل لي كم أخذت من نقود حتى تُسلِّم ولاد بلدك يا خائن؟
– لا أفهم عما تتحدث! انتظر، أستتركني أموت أنا وعيالي؟
– عيالك؟! أنت حتى لا تعرف أسماءهن. اسمع، سوف أذهب إلى رأس الشارع أتقصى الأمر، ولو وجدت أنك بريء سأعود لأحررك، أما لو جاءت ظنوني في محلها فسوف أرجع لأقتلك.
– انتظر، انتظر.
لم يكترث الفدائي لندائه أو لصراخ الأطفال، فقد كان يذخر بالحماسة ولهفة الانتقام لزملائه الذين قُتِلوا غدرًا، وها هو على موعد مع زميل للنيل من دورية الإنجليز الموجودة على بعد كيلومتر واحد. وما كاد يقترب من الطريق، حتى أتت سيارة مكتظة بالجنود البريطانيين؛ انتابه خوف مقترن بالغيظ. أخرج طبنجته، وإذا بالجنود يرشقونه بوابل من الرصاص، فسقط مُخلِّفًا وراءه الزوج وأسرته؛ محابيس يناجون القدر المجهول.
………………………
*فصل من رواية بنفس العنوان تصدر قريباً عن دار تنمية بالقاهرة
*محمد أبو النجا كاتب مصري من مواليد الثمانينيات، أصدر رواية بعنوان “الباروني” في عام 2016، و”الوصفة الغريبة” هي ثاني أعماله الروائية.
***
عن الرواية: سماءٌ وصحراء وبحر وحاضرة تنمو، وطفلة تُولَد بطفرةٍ چينية تمنعها من الأكل لكنها لا تحرمها الحياة، وغرباء يتيهون في التاريخ والجغرافيا، يناضلون ضد شظف العيش وقسوة اللقمة. وهكذا، ينعطف الغريب على الغريب فيولَد العالم، وتنضج الحكاية على نارٍ هادئة.
في “الوصفة الغريبة”، يستعير محمد أبو النجا حيل الطهي ومفرداته وأسراره، لينسج عبرها تغريبة سرديَّة مدهشة، ممتدة في الزمان والمكان، عن تلاقي الغرباء، وعن طبائع البشر وتحولات مصائرهم، بإرادتهم الحرَّة تارة، وبيد الأقدار والصدف تارة أخرى. ملحمة روائية تُمسك بقارئِها منذ جملتها الافتتاحية، لتخوض به غمار رحلة عجيبة، من لحظة الميلاد الأولى، وحتى الابتلاع الأخير لوردة الموت الوحشيَّة.