محمود عماد
في أحد الأزمنة التي لا نعلم متى هي تحديدا ربما تكون في مستقبل قريب أكثر مما نتوقع، وربما يكون مستقبلا بعيدا للغاية لا نعلم متى يأتي.
أحد البلاد صاحبة القوة العظمى التي من الممكن أن تكون أي بلد في هذا الزمن:
يجلس علي كرسيه يرجع ظهره إلي الخلف غارقا في تفكيره العميق يداعب خصل شعره الأجعد هب واقفا، اتجه لمرآته التي اعتاد النظر فيها لملامحه التي تذكره وتذكر الناس دائما بجده نفس الشعر الطويل الأجعد والعينين السوداوين هل تشابهت معه بعد أن رأي العينين الأصليتين؟
خلع معطفه الأبيض الذي لا يخلعه إلا نادرا اتجه إلي النافذة ينظر إلى النجوم وبدأ يحدث نفسه مثلما اعتاد في الأيام السابقة. هل فشلت التجربة؟ هل ضاع الحلم؟ تخدع نفسك وتقنعها بالتشبث بالأمل رغم أن عقلك العبقري يجزم بالفشل. يا ترى ماذا حدث لسليمان؟ هل ضاع في الفضاء؟ أم تمزق جسده؟
من المفترض أن يكون عاد منذ عام فالرحلة تستغرق عامين وربما بضعة أشهر الآن مرت ثلاث سنوات ونصف بدون أن يرجع، يتهمني الجميع بالفشل وأن جدي كان فاشلا أيضا ولا يستحق شهرته ولا يستحق التقدير، النجوم في السماء لامعة هذه الليلة سأستخدم التليسكوب لأرى بوضوح، أم لأتمسك ببريق الأمل الغير موجود لا أعلم.
وضع عينه ليرى لاحظ شيئا يلمع في السماء يتحرك قادما نحوه لم يعد يعلم هل هذا حقيقي أم أصابه الجنون مع اقترابها علم أنه ليس مجنونا ما يحدث حقيقي جرى مسرعا إلى الخارج ليستقبل ما أنتظره لعام أو أكثر اختراعه العظيم.
**
الدولة صاحبة القوة العظمي قبل ذلك بقليل:
في السنوات الأخيرة ورغم بعض الحروب والنزاعات والأوبئة ولكن التكنولوجيا أخذت في تطورها كأن
شيئا لم يكن، والأفكار لاستخدامها
أخذت في التطور هي أيضا، وانشأت منظمات لتمويل الاختراعات من المهتمين بها علي مستوي العالم. هنا وجدها ألبرت فرصة ذهبية لإعادة اسم عائلته وخاصة جده إلي النور واللمعان بعد سنوات عجاف، يريد إثبات صحة النظرية النسبية نظرية جده الأكبر ألبرت أينشتاين. يحمل نفس اسم جده الأكبر ونفس ذكائه وولعه بالعلم. سيقابل اليوم ذلك الشاب العربي الذي يدعى سليمان كم يحب ذلك الشاب وشجاعته، ها هو يطرق الباب.
– ألبرت كيف حالك وحال الاختراع الذي تقول أنه سيغير العالم؟
– في أفضل حال، كيف حالك أنت أيها الشاب الذي سيكون أحد أسباب تغير التاريخ.
ابتسم سليمان ابتسامه تشي بسخرية كبيرة.
– التاريخ جيد بكل تأكيد، ولكن الاتفاق يبقي اتفاقا. المال سيد المشهد يا صديقي.
– بالتأكيد ستأخذ كل ما تريد وزيادة يكفي أنك الوحيد الذي وافق علي خوض هذه التجربة والذهاب في تلك المهمة.
أرجع سليمان ظهره في الكرسي وعقد حاجبيه في بعض الخوف.
– ولكنك وعدتني يا ألبرت أن التجربة مضمونة أليس كذلك؟
– بالتأكيد يا عزيزي، لكنك تعلم كل شيء في أول مرة يكون مخيفا.
رمقه سليمان بعينيه السوداويين، وهز كتفه باستهانة وقال بنبرة يملؤها الشك وعدم التصديق: حسنا متى سننفذ؟
– الأسبوع المقبل، ولذلك ستظل معنا لنجهزك ونراجع الخطة وندربك أكثر على الاختراع.
فكر في الاعتراض، لكنه وافق بالفعل علي الأصعب من ذلك.
– حسنا يا ألبرت أنا رهن إشارتك، ولكن ألن يكون ذلك تسرع؟
رد ألبرت بنبرة تشي بالتفاؤل وعينين يملأهما الأمل
– نعم أريد الانتهاء من التجربة في أسرع وقت ممكن يجب أن تذهب للمستقبل باختراعي وتعود لندخل ومعنا جدي التاريخ ونثبت صحة نظريته أخيرا، هيا أيها البطل لتستعد فرحلتك ستستغرق مئة عام، ولكن في بضع دقائق أو ربما حتى ثوان.
ضحك الرجلان وبدأ تجهيز سليمان للرحلة، وللمؤتمر العالمي الذي سيقام قبلها. بالتأكيد سيحضر المؤتمر الكثير من الناس من جميع أنحاء العالم وسيحظي بتغطية عالمية تاريخية لتوثيق رحلة تاريخية، ستمنح ألبرت كل الجوائز الممكنة وثروة طائلة، وستدخله التاريخ من أوسع أبوابه، وتزيد من تقدير جده أينشتاين العظيم. يجب توثيق ذلك الحدث التاريخي، ويجب أن يشعر سليمان أنه البطل المغوار الذي سيغير البشرية وحده فرغم كون المال هو الحافز الأساسي لموافقته، ولكن ألبرت يعرف خلفية شخصيته فرغم كونه شاب في نهاية العشرينات مهاجر وملاحق من السلطات أتى لكي يحصل علي المال وعلى الحماية من الملاحقة التي تلازمه، ولينتشل نفسه من الضياع، والجوع، والفقر، ولكن ألبرت عندما بحث في تاريخه علم أنه كان من الأساس إنسانا مثقفا يقرأ كثيرا، ومتعلما فعرف أنه مع حاجته للمال، ولكنه يعرف ويقدر حجم، وقيمة الاختراع الذي سيوضع بين يديه، وهذا كان أحد الأسباب الرئيسية للموافقة عليه إلي جانب عدم تقدم أحدا من الأساس للقيام بالمهمة، وهو ما زاد من قدر ومحبة سليمان في عقل وقلب ألبرت.
بالنسبة للاختراع العظيم فهو إعادة إحياء للنظرية النسبية عن طريق تلك المركبة التي صممت خصيصا لتكون مضادة لموجات الثقب الأسود الذي سيكون البوابة للمستقبل الذي يريد الإنسان رؤيته بأي طريقة، وكم من أفلام، وروايات وقصص عالجت هذا الموضوع الذي أرق المبدعين والمتلقين علي السواء بجانب العلماء والباحثين أصحاب الأمر، ولكن حقا الإنسان طامع كبير لا يريد التحكم في مصير بقية البشر فى زمانه بل حتي بشر المستقبل.
التجربة قائمة علي أن تستخدم المركبة في السفر أولا للفضاء ثم دخول أحد الثقوب السوداء الذي تمت دراسته وتحديد مكانه، هذا الثقب هو أقل الثقوب ذبذبات وتأثيرا على النسيج البشري، وبعد الدخول فيه سيخرج منه إلى فضاء الزمن الآخر فضاء المستقبل، وبعدها يذهب للأرض ليكمل الشق الثاني من المهمة، وهو رؤية ماذا حدث في المستقبل ونقله لأبرت ومنظمته المركبة أيضا مزودة بجهاز ترددي لتحديد السنة التي تريد السفر إليها، وجهاز لأخذ لقطات من المستقبل لرؤية ماذا حدث للبشر ولشكل العمران، وقد وقع الإختيار أن يتم السفر عبر مئة سنة من بعد العام المنطلق منه.
**
المؤتمر الصحفي بداية الرحلة:
– أقدم لكم يا سادة البطل سليمان الذي سيغير التاريخ البشري، وإختراعي الأعظم مركبة أينشتاين العظيم الذي سيعيد العلم للواجهة، وسيعيد إحياء جدي ونظريته من جديد، بل وسيجعلنا نرى مستقبلنا ومستقبل أحفادنا، وربما في وقت قريب التحكم في المستقبل، وتشكيله كيفما نريد، والآن أترككم مع كلمة للبطل. قال ألبرت تلك الكلمات مع إنفراجة كبيرة لأساريره، وظهور لأسنانه اللامعة.
بعد أن رمق الحشد بعينيه البنيتين التي ورثهما عن أمه التي تركها ورحل يا تري كيف حالها هل تغيرت ملامحها؟ سؤالا طرح نفسه في عقله، تقدم ثم بدأ يستهل حديثه:
أشكر صديقي العزيز وعالمنا الكبير ألبرت علي إتاحة تلك الفرصة للمساهمة في تاريخ العلم، وتاريخ البشرية. أنهى حديثه المقتضب بابتسامة صفراء وعينين ضائعتين، ولكنه أمسك بيد ألبرت رافعين أيديهم عاليا كالفائزين في أحد الرياضات القتالية. ركب سليمان المركبة بعد أن ودع الحشد، وهذا أدخل علي قلبه الخوف أكثر وأكثر، بدأت المركبة في الإقلاع وألبرت كأنه ينظر إلي قلبه وهو يطير.
**
جلس تحت النافذة يطل علي الفضاء من حوله، وعرض شريط الذكريات أمام عينيه سريعا من قراءة وثقافة إلى فشل وكره، علاقات اجتماعية وعاطفية فاشلة، تغريب عن الأرض والوطن والأهل كل الأبواب سدت في وجهه، سيل من الأفكار اجتاح رأسه تكاد تنفجر منها. ماذا فعلت يا سليمان تضحي بحياتك وعمرك من أجل المال، وأي مال وشهرة سأكسب لقد اتفقت علي تملك الهواء فلو لم أرجع سيضيع كل شئ لماذا وافقت أيها الأحمق هل أصبحت جشعا وجاهلا إلى هذه الدرجة؟ اصمت، وهل نسيت الأيام التي نمت فيها بدون طعام ملاحقا في الشوارع تحت مطر الشتاء القارس بدون ملابس ثقيلة تدفئك؟! وأنت لا تستطيع أن تشتري ما تريده من كتب، ألست من أردت أن تخوض مغامرة مغايرة أن تكون مؤثرا؟!
أثقلت الأفكار رأسه حتي كاد يضربها بالطاولة أمامه التي وضعوا عليها بعض الطعام والشراب يكفي بعض الأيام احتياطيا، ولكن كل تلك الأفكار تبخرت عندما سمع وأحس بصوت إرتطام السفينة بالأرض ربما أخذت الرحلة عاما أو يزيد بقليل، أو أي وقتا آخر، ولكنه لم يحس إلا أنها بضع دقائق بسبب سرعة الضوء، فتح باب المركبة وحط على الأرض نجح القسم الأول من المهمة.
لقد وصلت بدون أن أتمزق أو حتي أصب بخدش، ولكن هل هذا الزمن المحدد؟ تذكر أن عليه أن يضغط على الزر الذي يخفي المركبة حتى لا يثير الريبة في أمره كما أخبره ألبرت.
ما هذه الأرض القاحلة، الصحراء تملأ النظر الطقس فظيع حقا أسوء من عصرنا يبدو أن منظمة البيئة بالأمم المتحدة قد فشلت في عملها، وأقفلت أبوابها قالها وهو يبتسم بسخرية، يالا كآبة تلك الأرض لقد فاقت زماننا كآبة يجب أن ألتقط الصور وأعود لأنهي مهمتي، وأحصل على المال، والتقدير من العالم كله، ولكن يجب أولا أن أجد عمارا وناسا فأنا لن أصور هذه الصحراء، لكن أين ذهب البشر ماذا حدث للبشر هل إنقرضوا؟ أم أسوء هل قامت القيامة؟ ما هذا الذي أراه تبدو كالأسوار. ذهب نحو ما رآى فهو لم يجع أو يعطش بعد كي يظن أن هذا سراب.
………………
*فصل من رواية “الأرض الأخيرة” الصادرة أخيرة عن دار “نيسان”.