فصل من “الأرملة تكتب الخطابات سراً”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

طارق إمام

 في لحظة ما ، تستنشق الأرملة الهواء بعمق ، كأنها تبتلع الشارع الضيق نفسه . تشعر بألم في أحشائها .. غير أنها تزدرد لعابها بسرعة ، لتنام الغرف ، و الأضواء الشحيحة، و أنفاس الناس في أمعائها . تقف في البلكونة ، تمرر يديها من بين الفرجات. تمررهما أيضا على نقوش الأسيجة المعدنية الصدئة ، و تباغتها الذكرى . للذكرى رائحةُ ترابٍ ممزوجٍ بماء مطر شحيح .. و نبتات قليلة تستيقظ ، و شبابيك مواربة .

    المقابر هناك . تحت القمر تماماً . المقابر مضيئة .. عكس بيوت المدينة . فجأة تتوالى طرقات خفيضة على الباب . تجيء فتاة .كيف تسللت من بيتها في الفجر ؟ كيف عبرت الشوارع الموحلة ووصلت إلى هذا الباب بحذاء نظيف ؟ إنه الحب .تسأل الأرملة نفسها و تجيب . تستلقي الفتاة على أقرب كرسي . يخفي شعرها جبينها ، و تبكي . أي فتاة تلك ؟ .. تسأل الأرملة نفسها . العاشقات كثيرات ، و آلام الحب واحدة ، تماما كسعاداته . تضطر للعودة إلى الخطابات التي تخصها . لكل فتاة خطاباتها ـ المكتوبة بخط ملك ـ و المربوطة بشريط رقيق لكنه قوي ، عليها اسمها. تتشابه حكايات الحب .. مصادفات اللقاء السريعة ، الفجائية ، و ترتيبات الوداع الطويلة. تخمن أن لكل دموع الحب نفس المذاق حتى لو اختلف اسم العينين في كل مرة.

     النسخُ الأصلية من الخطابات ، و المكتوبة بخط يدها ، كانت تحتفظ بها في صندوق اشترته خصيصاً من أجل تلك المهمة . تعرف أن هذه الفتاة ستنساها ذات يوم .كلهن يفعلن ذلك . بمجرد زواجهن تنساها الفتيات تماماً ولا يعدن لزيارتها ، و تقابل الأرملة  ذلك بتسامح ، لأنها  تعرف  أن النسيان قدر كل شخص اختار أن يبني مملكته في الظل. كانت مستمتعةً فقط بلعبتها ، تتلقى النتائج بارتياح .. متمنيةً في أعماقها لو عادت شابة صغيرة .. و لكنها كانت تقول لنفسها : ” لو عدت شابة لن أستطيع كتابة هذه الخطابات .. وسأفشل من جديد ” . الشيء الوحيد الذي كانت حريصة عليه هو احتفاظها بالسرية . و قد خشيت من افتضاح الأمر خاصةً مع ازدياد زبوناتها .. حتى صارت غرف المنزل أشبه بفصول دراسية تكتظ بالعاشقات و تسيل في طرقاتها دموع اللوعة .. وكانت الفتيات أشد حرصاً منها على هذه السرية ، لأن أي مساس بها كان يعني ـ بلا مواربة ـ نهايتهن المُهينة .

    تسألها فتاة، و ثانية ، و ثالثة : من كان زوجك ؟ و تجيب مرة و ثانية و ألف : رجل .. كأي رجل في الدنيا . لن أقول لكن : كان صائغاً في المدينة الكبيرة  ، يربي كلباً ليحرس ماله، و أثاث البيت ، و جسدي . و كنت أنا المرأة التي لا تغادر الغرف. لم أتخل عن عاداتي أبداً يا صغيراتي . فقط ، أزحت غطاء الرأس ، ليواجه شعري الدنيا لأول مرة وأنا في الثانية و العشرين. فقط ، كشفت ساقيَّ قليلاً ، و عريت ذراعيَّ . صارت ملابسي أكثر بساطة و ضيقاً .

    هل أحكي لكن الحكاية ؟ لكن حذار .. إنها حكاية حقيقية حتى أنها لا تُصدَّق .كان أبوها يشتري لها سلسلة . رآها الصائغ ، و قرر ــ بينما تلامس أنامله عنقها بدربة ــ أن هذه الفتاة ستكون زوجته. بعدها جاء إلى البيت بلا موعد . لم يصطحب معه أحداً سوى الذهب . كيف عرفتَ العنوان ؟ . في مدينتكم يكفي أن يسأل الشخص عن الإسم .. إنها بلدة ضيقة حتى أن الإسم لا يحمله شخصان . و حتى لو لم أعرف الاسم .. يكفي أن أصف الشكل .. صدقيني .. لقد أخبروني بمكان بيتكم قبل أن أسأل ! .

    في اليوم السابق ، السابق مباشرة والله .. أعاد لها حبيبها خطاباتها الغرامية ، كما طلبت ، و ردَّت له خطاباته . دون أن يتفقا ، سلَّم كل منهما الآخر خطاباته إلا واحداً. لأنه رجل ، احتجز آخر خطاب أرسلته له ، كعلامة على الذكرى .. و لأنها امرأة ، احتفظت بالخطاب الذي لم يقل فيه كلمة ” أحبك ” .. لأنه الخطاب الذي قال فيه كل شيء .

    _ و ماذا حدث .. هه ؟ .. إنها حكاية خيالية حتى أنها قابلة للتصديق !

    ـــ  أنتن بنات فضوليات . فضوليات جداً .. و هذه صفقة ساذجة . هل لأنني أعرف كل شيء عنكن تعرفن كل شيء عني ؟؟ .

    حسناً .. أخفت الصغيرة ملك خطاباتها ، و خطاب حبيبها الوحيد ، في حقيبة يد صغيرة ، و زجت بها في قاع دولاب زواجها المعتم .. و قررت أنها لن تعود لقراءتها إلا بعد أن يموت الصائغ .و كانت تقول لنفسها : قد أموت أولاً و يقرأها هو بعد أن يعود من جنازتي غائباً في مذاق التراب .و لكن الرجل ربح رهاني . مات أولاً ، و تكفل أبناؤه الأقوياء ، الصاغة ، الذين تحرس الكلاب بيوتهم ، و الذين تزوجوا من الريف تنفيذاً لشرطه ، بكل شيء . إنهم أبناؤه من زوجته الثانية .. ابنة المدينة .. التي تزوجها حين يأس من رحمي . نعم لم أنجب . و لم أندهش لذلك ، و لم أحزن . استسلمتُ للكلب ، موقنةً أن هذا المخلوق المظلم يقف عند الباب ــ فقط ــ ليحرس وحدتي . يموت ، و أستيقظ في الصباح التالي على نفس النباح ، نفس الجسد ، نفس  الطوق حول الرقبة . عشرات الكلاب تبادلت حراستي دون أن أميز ، و لو لمرة ، متى يموت أحدهم ليولد الآخر .

    في المدينة الكبيرة يا بنات ، على سطح الفيللا الواسع المبلط ، كنت أنبطح على بطني .. أكتب خطابات و أتركها للريح . من سيقرأها ؟ لا أعرف ، و لا يهم . المهم أن أنتقم من هؤلاء العمليين الذين لا يرون البحر إلا من شرفات بيوتهم . كنت أنثرها كما  تنثر ريفية الحب للدجاج .ذات يوم حدثني زوجي عن الخطابات التي تتساقط فوق الناس من السماء . قلت له أنت كاذب .. لم يرد . لم يصفعني ، و لم يبك .  انتظر حتى سقط أحدها ، في يوم آخر ، أمام عتبة محله .  التقطه ، و منحه لي عندما عاد ليدلل على أن ما يقول ليس أحلام يقظة .

    كفى يا بنات . هل حقاً أخبرتكن بكل ذلك أم أحدث نفسي ؟ .     

،

ملك الآن امرأة تتمشى في شوارع المدينة ، تلمح تلميذاتها القديمات مع أطفالهن و أزواجهن .. و تتظاهر بأنها لا تعرفهن ، و هكذا يفعلن أيضاً . ترى فتياتها الصغيرات في الشوارع الجانبية مع عشاقهن ، فتعبرهن بسرعة .

   هؤلاء العشاق بالذات  أدمنوا  خطاباتها المكتوبة بخطوط فتياتهم الساذجات. كانوا في الحقيقة مشدودين لسحر الخطابات المكتوبة بدماء قلب لا يزال ينزف ، و التي بسببها فقط تحققت زيجات ما كانت لتتم في الظروف العادية . كان الشباب يعترفون لأنفسهم سراً بأن تلك الرسائل أشبه بمعجزات من الورق و الحبر . . و أنها ربما تكون الذكرى الوحيدة التي ستتبقى ذات يوم بعيد قادم ،حين يفقد كل شيء سحره بفعل العادة، و حين تتوقف الخطابات مع تحول الحب المُعذَّب إلى زواج رتيب . تفكر ملك ،  و تقول لنفسها كنوع من العزاء : أنا العشيقة المجهولة لكل هؤلاء الرجال .

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم