أميرة حسن الدسوقي
أيًّا كان ما تريده أو ما تحتاجه في أي وقت من اليوم؛ سيحضره لك “عم جبار”، علبة سجائرك النادرة القديمة -بلمونت في علبة ورق وليس كارتون- أو وجبة سمك فاخرة بالفجر، ربما منشار في منتصف الليل، وأيضًا معلومات عن تاريخ كل أسرة في هذا الحي والتاريخ الجغرافي والمعماري للشارع، كل شيء على رف تجاعيد وجه عم جبار.. كل ما يحتاجه هو أن يمد يده ويلتقط ما تريده وينظر لك في انتظار دفع الثمن بلا مبالاة، أنا لا أريد المجد.. أنا أريد المال.
عم “عبد الجبار” الذي نادوه صغيرًا “جبار” لثقل الاسم على لسانهم لطفل.
– “وهل جبار اسم جيد لطفل يا عم جبار!” اقولها له وانا اضحك .
فيبتسم ويقول: الله يسامح أمي.. كانت تريد أن تخلد ذكرى جدها.
لن يفلت أي منا من أمه، حتى عم جبار!
يداعب عم جبار أعضاءه وهو يتأمل الفراغ ويضيق عينيه وكأنه يصطاد فكرة، ذلك الوضع الذي يرسمه كلما سرح مفكرًا، ويجد صعوبة في التخلِّي عن تلك العادة إذا تحدث معه أي شخص واضطر للتفكير أو تذكر معلومة مهمة، ولذلك تجد عم جبار جالسًا طوال الوقت أمام الكشك الصغير الذي يمتلكه بجوار مزلنا، متخذًا وضع المفكر المداعب لأشيائه.
منذ أن انتقلت إلى هنا وأنا أتساءل: كيف يستطيع سكان الشارع التعامل معه وهو لديه تلك الحالة العصبية النادرة؟ ولكن ها أنا أقف أمامه أتحدث إليه وهو يداعب ثعبانه الصغير ونضحك سويًّا ويقص لي حكايات أهل الشارع الغريبة، ويغمرني وجهه البشوش ببعض الأمان الذي يخبرني أنه إذا حدث أي مكروه سأجد عم جبار يحله بمكالمة هاتفية من جهازه المحمول الذكي الذي لا يليق مع جلبابه أو عمته في “كونتراست» يسيل له لعاب أي مصور فوتوغرافيا مدَّعٍ.
كيف تصالحت مع حركة عم جبار العصبية، التي كانت تثير اشمئزاي في البداية؟
التعود.. والاحتياج، إنهما يضعان رقعًا سوداء فوق كل تشوهات الوضع الذي نحياه، يمنعان عينك –رحمةً بك- عن رؤية الأشياء التي تكرهها في وضع لا تستطيع الخروج منه، صدقني وجودك الدائم في المشهد لا يجعلك مطلعًا على كل تفاصيله بل يجعلك تفصيلةً منه لا ترى باقي أجزاءه المشوهة، ولذلك لم أنتبه –هذه المرة- لما يقوله عم جبار الآن عن الفتاة التي كانت تسكن هنا قبل ريم، كانت هناك رقعة سوداء على فمه وهو يحكي، ستنكشف لي… ولكن العقل الباطن يقول من بعيد.. ليس الآن.. ليس الآن.. امنحها استراحة.
هل تتذكر تلك اليافطة في شارع بيتك التي عشت فيه كل طفولتك ومراهقتك وشبابك ولكنك لم تكتشفها إلا في الزيارة الأولى لبيت أهلك بعد الزواج.
– “ما هذا.. متى وضعت تلك اليافطة هنا؟».
– “إنها موجودة منذ البداية».
لحظة.. آه.. ثم لقطة “فلاش باك» لك وأنت صغير عندما رأيت تلك اليافطة للمرة الأولى، وقعت عيناك عليها ثم محوتها من ذاكرتك ووضعت عليها رقعة سوداء، كما وضع الطبيب صاحب تلك اليافطة رقعة شاش بيضاء بين فخذيك بعد أن جز قطعة من لحمك، و”يا ام المطاهر رشي الملح سبع مرات».. قل شكرًا لعقلك الباطن.. وفر عليك لحظات ألمٍ كنت ستعيد تشغيلها في مخك كلما نظرت إلى اليافظة يومًا وراء يوم، عامًا بعد عام.
ولأني لم أعد أرى يافطة عم جبار، وجدت نفسي أضم اسمه إلى قائمة الأسماء في هاتفي، دون التركيز فيما يذكره حول ساكنة الشقة قبل ريم، ريم التي وضعت يافطتها في حقيبة، وألقتها في الصحراء، وأشعلت فيها النيران، أنا أرى ريم دون أي يافطات تحذير الآن.
– “إن احتجت أي شيء اتصلي بي».
– “أشكرك يا عم جبار».
في تلك الليلة جلست مع ريم أؤنس وحدتي بها حتى يعود “نايس» من العمل، فبعد أن وضعت المظروف في مكانه؛ هدأت أفكاري ومنحت ريم فرصة ثانية، ولا أرى منها سوى ما تركته الرقع السوداء المنتشرة حولها في كل مكان، حدثتها كثيرًا عن “نايس» وعن سعادتي معه، وأكثر ما كان يعجبني في ريم – في البداية – هي قدرتها القوية على الاستماع لك لفترات طويلة دون أن تقاطعك فلا توقِف فيض استرسالك، ولا تفحمك بمداخلة ثقيلة تفقدك حماسك للحكي، ولا تصدر لك تعبير وجهٍ ملول يخرسك قبل أن تكمل.
هي فقط تجلس أمامك وتنظر إليك أنت وحدك دون أن يشغل عينها غيرك، إذا ضحكت وأنت تحكي ستبتسم ابتسامة كسولة بجانب شفتيها، وإذا دمعت عيناك ستعقد حاجبيها وتلمع عينيها بدموع لا تنهمر منها أبدًا.
ولكنك سرعان ما تدرك الخدعة بعد أن تنتهي من الحكي، عندما تميل عليك وتغرس في حلقك تعليقًا ناريًّا قاتلاً، يشعرك بغباء وتفاهة كل ما حرقت قلبك فيه منذ قليل.
“سارة! حبيبتي!! نايس لا يحبك! أنتِ لا تعنين له أي شيء سوى سكنٍ قريب من عمله وجحر لثعبانه.. لا تستقبليه مرة أخرى.. وأخرجيه من حياتك.. هذه نصيحتي لك“.
سكتَ دهرًا!
نظرت لها دون أن أرد وهي لم تنتظر هذا، ظللنا وقتها صامتتين لساعات، تنكش هي في أوراقها وتضع بعض الألوان على لوحتها الغريبة، وقتها خطر لي أن أستغل أول فرصة ذهبت فيها إلى دورة المياه وقرأت ما تكتبه في أورقها.
“أنا هَريما المُسَبَّعة، الروح الطيبة الأولى التي لم تضل طريق العودة..
بعد أن ضاجع أبي الأرض مع باقي رجالنا، طرحت روحي على إحدى أشجار مدينتنا البنية، وعلى عكس كل الأرواح، لم أضل طريق بيتي، لم يتوقع رجل في عالمنا أن يرى وليده، فكان الرجال يذهبون إلى أرض الزواج، يضحون بمائهم في مكامنها، فتطرح بعد برهة أشجار مدينتنا نساءً ورجالاً كاملي البلوغ، ولكنهم لا يعرفون أنسابهم.
وقت الحصاد؛ يأتي الرجال الذين ضحوا في موسم الزواج، يقفون عند الأشجار المثمرة بالرجال والنساء يتساقطون من على الشجر كأوراق الخريف وسريعًا ما يقفون بأجسادهن العارية، ناصعة البياض، تكاد ترى عروقهم من بياضها الشفاف، بعد أن يتأكد الرجال أن كل المواليد نضجت وسقطت، يختار كل شخص منهم وليدًا اختيارًا عشوائيًّا، يتجه إليه ويلبسه غطاء في يديه، وآخر في قدميه وآخر صغير لجلد رأسه الخالي من الشعر، ثم يسحبه أو يسحبها إلى منزله ليقيم فيه عامًا ثم يرحل.
في هذا العام، يتعلم الوليد كيف يطير، كيف يغوص في سائل الأرض كأحد مخلوقاتهم، يتعلم الولدان التضحية عند البلوغ ببذورهم للأرض مقابل إعمارها، وإعمار روحنا، والنساء؟ تسألون، لا يتعلمن شيئًا!
ما ضرورة إعمار الأرض إن لم ننعم بها، ذاك السؤال رن بقلب أبي عند عودته من أرض الزواج، بعد أن ضحى ببذرتي دون أمل في عودتها، نام في بيته، اثنان وأربعون ليلة، حزينًا، مكسور القلب، يشعر بالخواء، فقد كنت أنا بذرته الأولى التي يضحى بها منذ بلوغه، ولم يكن يظن أن الأمر قاتل هكذا، أصابته الحمى وكاد أن يموت، وعندما جاء وقت الحصاد، لم يخرج أبي من منزله، رفض أن يقبل بديلاً عن وليده، وظل راقدًا في فراشه ينتظر الفناء، ثم وجدني واقفة أمامه، وبياض جسدي يضيء ظلام الغرفة، ظل يتأملني بدهشة ولمعت عينه وهو يسألني:
“من أنتِ؟“
أجبته:
“أنا هَريما يا أبي.. الروح الطيبة الأولى”
قفز من الفراش وضمني بالرغم من قوانين مدينتنا، وكأنه لم يمسه المرض لحظة، ألبسني غطاء الرأس واليد والقدمين، وسحبني إلى كل بيت في مدينتنا البنية ليقص ويحكي لهم، التفَّ أهل المدينة حولنا، انتشر الخبر وعم أرجاء المدينة، أصبحت أنا هَريما الأولى التي لم تضل الطريق، هَريما التي رفضت روحها الطيبة التخلي عن أبيها، وعادت إليه، تبث الروح فيه، وعم الفرح المدينة من البركة التي حلت عليها بوجود روح طيبة بينهم، وعشنا أيامًا زاهية، وتلك كانت بداية النهاية الأولى“.
هنا فقط تأكدت أن هريما وكل تلك الأسماء ليست سوى قصة جديدة تكتبها ريم، لم أشعر بشيء وقتها فقد كنت توقفت عن التفكير في كل هذا منذ أن جاء نايس ليعيش معي، وبدأ ود حذر ينمو بيني وبين ريم لم أرِد أن أعكره.
عندما عادت من دورة المياه لم أجد رغبة في المكوث بالبيت ونايس ليس موجودًا فأغمضت عيني وانفصلت عنها قليلاً وهي لم تحاول إزعاجي.
ظللت أعومًا في ظلام بركتي بكثافتها الثقيلة، أرفع يدي للمرة الأولى وأتحسس الجدران التي تحيط بالمياه، شعرت أنني في دائرة، فلم أجد ركنًا أنحشر فيه، وكأنها سجن مائي يلفظني بحوافه المائلة، الماء يصل إلى رقبتي يصيبني باختناق ولكنه -للأسف- لا يغرقني، أتحسس الجدران مرة تلو الأخرى حتى لاحظت أن لها نهاية علوية، قفزت بكل قوتي ومددت كفي لفراغ لم ألمس نهايته، تابعت القفز مرة تلو الأخرى حتى تشبثت بالحافة، ووجدت نفسي خارج البركة، ولكني اصطدمت بباب موصد بإحكام، ولاحظت أن الفراغ الذي أقف فيه لا يكفي جسدي كاملاً ومن جانبي حاجزين حجريين يجعلان مصيري الوحيد إذا لم أفتح الباب؛ هو النزول إلى دائرة المياه مرة أخرى، حاولت نزع قفل الباب الحديد بلا فائدة، عدت إلى المياه وزحفت قليلاً لليسار فوجدت فراغًا جديدًا صعدت إليه فوجدت بابًا آخر موصدًا، عدت إلى المياه وأعدت الكرَّة مرات عديدة لأفهم وضعي الحقيقي الذي لا أراه في هذا الظلام التام. وحيدة في بركة مياه مُقبضة، محاطة في الأعلى بمخارج مغلقة في وجهي لا أستطيع العبور منها.
صوت أمعائي وهي تتغذى على الهواء يؤلمني، وأطرافي تكاد تتجمد وتتكسر من رعشة جسدي وأهفو لأي طعام، فشعرت بشيء صغير يمر أمام وجهي فتحت فمي فجأة وبلعته دون أن أفكر في مضغه، أسكتَ صراخ معدتي قليلاً ولكنه لم يمنع البرد القارس.
أخرجتني حركة ريم المتوترة من بركتي وأفكاري، فتحت عيني فوجدتها تتحرك في الغرفة باحثة عن شيء، تتعثر أحيانا في الكتب المكومة ثم تتوقف لتتذكر أين وضعت الشيء.
– “عمَّ تبحثين يا ريم؟».
– “رأسي…».
– “تبحثين عن رأسك؟؟».
– “رأسي تحتاج بعض الأخضر.. لحظة.. كان هنا.. ها هو».
والتقطته من العلبة الصغيرة الموضوعة على الأرض واتجهت إلى اللوحة وهي ممسكة بالقلم الأخضر الباستيل وبدأت تملأ بعض الفراغات في اللوحة باللون الأخضر.
– “ماذا ترسمين يا ريم؟»
– “أنا»، ردت دون أن تنظر إليَّ.
وقفت بجوارها وأنا أتأمل اللوحة جيدًا للمرة المائة:
– “ولكنها لا تشبهك على الإطلاق!».
– “بل هي أنا بالظبط… ألا ترينه؟».
– “أرى ماذا؟!».
أشارت بطرف القلم الأخضر إلى أحد الأشكال غير المفهومة في اللوحة وقالت:
– “هذا رأسي».
– “لن أجادلك في هذا!»، قلتها في سري.
فأكملت هي قائلة:
– “ميلي بنظرك لليسار قليلاً سترين الأنف واضحًا».
ملت برأسي ونظرت للوحة بتركيز ولم أرَ أي شيء.
– “آه نعم.. أراه الآن»، قلتها لأنهي هذا الحوار العبثي.
نظرت إليَّ قليلاً وهي صامته وعلى وجهها تعبير الزيرو، ثم ابتسمت وقالت:
– “كم أنت لطيفة! لماذا يا سارة… لماذا!!؟».
– “ماذا تقصدين؟».
– “ليس هناك أي أنف أو حتى رأس… لماذا قلتِ إنك رأيتِه؟».
– “لم أُرِد أن أحرجك».
– “ولماذا تظنين أنك بهذة الأهمية.. لدرجة أن رأيك في لوحتي سيغير موقفي منها! إذا كنت أنا أرى الأنف ومقتنعة أنه موجود 100% فلن يؤثر عليَّ رؤيتك له من عدمها».
– “ريم.. أنا لم أفكر في الموقف طويلاً لأصل لهذا التحليل.. لقد تصرفت بتلقائية، كما قلتِ أنتِ.. كنت أريد أن أكون لطيفة معك.. لماذا أزعجك هذا!».
– “إنه لا يزعجني على الإطلاق!».
– “ما مشكلتك إذن!!».
– “أنا ليس لدي مشكلة.. أنت من لديه المشكلة.. هذا الوضع يزعجك».
هززت رأسي.. عاقدة حاجبي كدليل على عدم فهمي.
– “كونك لطيفة طوال الوقت يا سارة.. هذا يزعجك.. لماذا لا تقولي ما يدور في رأسك وتنعمي ببعض الراحة».
لم أجد أي رد مناسب.. فقط وقفت أنظر لها كما كنت أنظر لأمي بعد أن كسرت كوبها المفضل
– “لماذا كسرت الكوب يا سارة؟!».
ما هذا السؤال!! لماذا في خيالك قد أكسره يا أمي.. هل بيننا ثأر بائت وأنا خططت طوال أعوامي السبع حتى أعود لأنتقم منك وأكسر كوبك المفضل.. إنه ببساطة انكسر!
– “انطقي!» صوت أمي يدوي في رأسي.
ولكن لم تقلها ريم كما كانت تلحُّ أمي في الحصول على إجابة كل مرة، ابتسمت ريم وأدارت ظهرها لي وأكملت وضع الأخضر في اللوحة، وقبل أن أخرج من باب الغرفة وأنا ألملم نفسي لأعود لنايس بتأنيب على تأخره؛ أعلم أنني لن أخرجه عندما أراه، أوقفتني قائلة:
– “على فكرة.. هناك أنف في اللوحة».
– “حسنًا يا ريم! أتمنى أن تكوني قد رسمتِه على قفاكِ».
قلتها في سري وابتسمت لها ورحلت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصّة مصريّة، صدر لها مجموعتين قصصيتين، و “كالورمي” روايتها الأولى ـ تصدر قريبًا عن ميريت