فرناندو بالبيردي.. الشاعر الإسباني الذي خطفته القاهرة والإسكندرية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد الشهاوي

التقيتُه قبل اثني عشر عاما في مكسيكو سيتي العاصمة المكسيكية، وكان معنا عددٌ كبيرٌ من كبار شُعراء العالم في المهرجان العالمي للشِّعْر، وكانت هي المرة الأولى التي أرى فيها المكسيك، كان مهرجانًا مُهمًّا ضمَّ أسماءً كبيرةً في الشِّعْر، وكان من بين هذه الأسماء الشَّاعرة الأمريكية الشهيرة كارولين فورشيه (ولدت في 28 من أبريل 1950) الحائزة على جائزة بوليتزر في الشعر، والشاعر الإسباني فرناندو بالبيردي الذي لم أره منذ ذلك التاريخ، وانقطعت السُّبل بيننا ؛لكنَّني كنتُ أتابعه من حينٍ إلى آخر على حسابه الشخصي في فيسبوك (الذي لا يستعملُه كثيرًا)، إلى أن التقينا في يوليو 2025 بالقاهرة التي جاءها مستكشفًا للمرَّة الأولى هي والإسكندرية ليزور مُتحف الشاعر السكندري اليوناني قسطنطين كفافيس (1863 – 1933) وقبره، وقد وقع في غرامهما، ووعد أن يأتي في يناير المقبل ومعه عددٌ من أهم شعراء العالم.

وهو عندي أحد الأسماء الأساسية في الشعرية العالمية الناطقة بالإسبانية، وقلّما يبرزُ صوتٌ يُصغِي إلى الذاكرة بقدر ما يُنصِتُ إلى ندوبها، يسيرُ على الحافَّة بين الشَّهادة والبوح، بين الانتماء والرحيل، بين اللغة كجسرٍ واللغة كجُرحٍ.

هذا ما يُجسّده فرناندو بالبيردي، المولود في غرناطة عام 1980.

ليس بالبيردي ليس مجرد وريث للضوء الأندلسي الذي عبر من جارثيا لوركا (1899_1936) إلى رفائيل ألبيرتي (16 من ديسمبر 1902 – 28 من أكتوبر 1999)، بل هو وريث الأسى الحديث، ذلك الذي يُصاغ من هشاشة الهُوية، وسؤال المنفى، وتجربة العولمة التي جعلت من الشاعر شاهدًا لا على أرضه فحسب، بل على العالم بأسره.

درس بالبيردي الفلسفة والفيلولوجيا في جامعة غرناطة الإسبانية، ومنذ بداياته، أظهر انحيازًا إلى لغة نقيّة تنهل من الشعر الكلاسيكي من دون أن يستعبدها.

 وفي أعماله الأولى نرى شاعرًا متأملا يستخدم الصورة الشعرية بوصفها مرآة للواقع، لكنه لا يغرق في الزُخرف، بل يُخُضِع البلاغة للتجربة.

هذا الميل إلى التوازن بين الشَّكل والمضمُون، بين الشَّاعرية والصدق التعبيري، جعله يحظى بتقديرٍ نقديٍّ مبكِّر، حيث حصل على جوائز مرموقة مثل جائزة الشاعر فدريكو جارثيا لوركا، وجائزة اللغوي الإسباني إميليو ألاركوس، إضافةً إلى جائزة الشاعر خوان رامون خيمينيث (١٨٨١–١٩٥٨ميلادية) الحائز على جائزة نوبل في الآداب سنة 1956 ميلادية، والشاعر والمترجم والأكاديمي فراي لويس دي ليون (1527 – 1591)، وكلها شهاداتٌ على موهبةٍ استثنائيةٍ تُعزِّزها رؤيةٌ فلسفيةٌ وشعورٌ شعريٌّ عميقٌ.

لا يكتبُ الشَّاعر الإسباني فرناندو بالبيردي من منفى جغرافي فقط، بل من منفى وجودي. وهذا ما تجلّى في ديوانه اللافت (إلحاح الضرر)، الذي حظي بإشادة واسعة، ونُظر إليه كأحد أهم الكتب الشعرية الصادرة في إسبانيا.

حيثُ يُعيدُ الشاعرُ في هذا الكتاب الشعري تعريفَ العلاقة بين الذات والعالم، بين الألم واللغة، عبر نصوصٍ تُشبه النبضات، مختزلة، كثيفة، ومشحونة بطبقاتٍ شعوريةٍ متراكبةٍ.

وقد شكّل هذا الكتابُ نقطةَ تحوُّلٍ في تجربته، إذ تخلّى فيه عن بعض تقاليد الشِّعْر الإسباني الحديث، وانفتح على تجارب شعريةٍ عابرةٍ للجغرافيا، الأمر الذي انعكس لاحقًا في عمله بالولايات المتحدة الأمريكية، وتحديدًا في جامعة فيرجينيا، حيث يُدرِّسُ الشعر الإسباني، ويشاركُ في الحياة الأكاديمية والثقافية الأمريكية.

وهناك، بدأت تتشكّلُ ملامح مشروعه الشعري الجديد، فنحن أمام شعرٍ يُخاطبُ القارئ العالمي من دون أن يتنكَّرَ لجذوره اللغوية والحضارية.

ومن رحم هذه التجربة الأمريكية، خرج ديوانه”أمريكا” بترجمة الشاعرة الشهيرة كارولين فورشيه، وقد حظي بتغطية واسعة في الصحافة الأدبية الأميركية، وفي هذا العمل، يُقدّم فرناندو بالبيردي أمريكا ليس كجغرافيا، بل بوصفها رمزًا. يرسمها من زوايا متعددة. . أرض الحلم والكابوس، وطن اللاجئين والمنفيين، ومسرح العنف السياسي والاجتماعي.

وليس في هذا الكتاب تقليد لصوت الذي حاز على جائزته جارثيا لوركا في “شاعر في نيويورك”، على الرغم من أن تأثير لوركا حاضر على نحوٍ خفيٍّ، بل ثمة إعادة كتابة لأمريكا المعاصرة، أمريكا الجراح المفتوحة.

واللافت أن فرناندو بالبيردي لا يقفُ موقف الواعظ أو الضحية، بل يكتفي بأن يكون شاهدا، بعين الشَّاعر، لا الصحفي، لكنه الشاعر الذي لا يخشى تسييس لغته حين تستدعيه الضرورة.

وفي العام 2022، أصدر فرناندو بالبيردي كتبا شعريًّا هو(شقاء/بؤس)، وهو عنوان يشِي منذ اللحظة الأولى بانقلاب داخلي في العالم الشعري للشَّاعر. فلم يعد الألم هنا استعارة، بل صار مادة أولى.

 هذا الكتاب، الذي كتب معظمه أثناء مرض والدته ورحيلها، يُعدّ من أكثر أعماله حميميةً ومأساويةً. فالقصائد فيه قصيرة، مكثفة، لكن حضورها النفسي ثقيلٌ. ينهار فيها الشاعر أمام فداحة الغياب، من دون أن يُعلن موته، بل يكتب موته على مراحل.

ولعلّ أكثر ما يُميز شعر فرناندو بالبيردي هو الاقتصاد التعبيري من دون التفريط في العمق، واستحضار الألم من دون الغرق في الشكوى. فلغته ليست تقريريةً، لكنها أيضًا لا تلجأ إلى الغمُوض المفتعل. وتتحدث قصائدُه بلغةٍ مباشرةٍ، أحيانًا جافة، لكنها مُشبعة بالحياة، كأنها كُتبت من حافة جرحٍ حيّ.

إضافة إلى ذلك، فإنَّ شعرَه مشبعٌ بـ”شُعور الضد” — أي الكتابة في مواجهة ما يُطلب من الشاعر أن يكونه. . متفرِّجًا، أو مهرِّجًا، أو ساعي شهرة.

يقول بالبيردي: “وصلنا إلى لحظة أصبح فيها الشاعر يعيشُ من الشِّعْر، لا له. ولستُ مُستعدًا إلى الانضمام إلى هذا السيرك. ” وهي جُملةٌ تختصر رؤيته للمشهد الثقافي، حيث يواجهُ الشعر خطرَ الابتذال وسط ضجيج الشبكات الاجتماعية.

وفرناندو بالبيردي، ليس شاعر إسبانيا فحسب، بل شاعر المنفى الحديث، والهُويات الهشَّة، والغربة داخل الوطن وخارج الجغرافيا.

 ولا تُقرأ أعماله لمجرد المُتعة الجمالية، بل لكونها دعوةً للتأمُّل، مرآةً لمجتمعٍ يُعاني من العطب، ومنفذًا لغويًّا لفهم ما لا يُفهم بالكلمات العادية.

إن فرناندو بالبيردي شاعر الذاكرة المتكسِّرة، وصوت الذين لا صوتَ لهم، ومَن استطاع أن يجعلَ من الشِّعْر ضرورةً داخل عالم يزدادُ تفاهةً.

وإذا كان الشِّعْرُ في بعض العصُور ترفًا، فإن شعر فرناندو بالبيردي تذكيرٌ دائمٌ بأنه ضرورةٌ وجوديةٌ، لا تكتب عن الحياة، بل تُكتب من شفير الموت.

في زمنٍ تتراجعُ فيه الكلمةُ لصالح الصُّورة، وتُستبدل فيه العاطفة بالضَّجيج، يقفُ فرناندو بالبيردي شاهدًا شعريًّا على ما تبقّى من صدق الإنسان في مواجهة العالم.

 شاعرٌ لا يطلبُ أن يُصفّق له أحدٌ، بل أن يُقرأ بعمقٍ، لأنَّ ما يكتبه ليس هو، بل هو نحن.

 وفي زمن يُباع فيه الشِّعْرُ بوصفه سلعةً، يُصرّ فرناندو بالبيردي أن يكتبه بوصفِهِ حياةً.

مقالات من نفس القسم