فردوس التراب.. في المدينة السحرية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ياسمين مجدي

كيف ينجح رجل في أن يصنع كتابًا كاملاً من الأساطير، هذه لعبة يلعبها طارق إمام في كتابة "مدينة الحوائط اللانهائية". واللعبة تمتد، فبعض الأساطير تبدو أنها لا تعرف الأخرى، مثل الشيطان الذي يسرق صندوق الدنيا. أما في مجموعة أساطير أخرى كانت كل أسطورة تسلمنا إلى الأسطورة الأخرى، وانتهاء أسطورة معينة هو سبب في ميلاد الأسطورة التالية. فتتلاشي المرأة صاحبة العين الواحدة ويفنى جبل الكحل الذي تحرسه.. القصة الثانية عن الهيكل العظمي الذي وجدوه خلف جبل الكحل وماذا حدث له في وجود السيدة القرصانة.. القصة الثالة عن السيدة القرصانة نفسها. هذا التوالي من الحكايات داخل مدينة الحوائط، كان يمكن أن يسمي العمل رواية ، هذا لأن المدينة هي البطلة، أو هي الأرض التي تصلح لكل الأعاجيب كما أطلق عليها أحد الشخصيات، لكي تكون بذلك المدينة هي البطل، والأساطير هي أحداثها. لكن الكاتب اختار لها أن تسمى قصصًا وأن نقرأها كمجموعة أساطير.

“فردوس التراب” هكذا يسمى المؤلف المكان الذي وجدوا فيه الهيكل العظمي تحت التراب واستخرجوه منه.. وهذه هي المساحة نفسها التي تخرج منها أساطير الكتاب، حكايات تبدو كأن المؤلف يستخرجها من تحت التراب، من منطقة سحرية في ذاكرته، وأيضًا في الذاكرة الإنسانية للأساطير القديمة ليخرج إلينا بالكثير من الحكايات.

الصراع

حيز كبير من الشخصيات الأسطورية، والسحرة، النساء والرجال غير المألوفين، والمدينة التي تجمعهم كلهم بحوائط كثيرة، لكن لا أبواب لها.

ربما كان أحد جوانب الصراع هو ما قامت به بعض الشخصيات من محاولة القضاء على التنوع البشري ليبقى ذكر واحد وسط كل النساء يستمتع بهن بلا رادع، أو في أساطير أخرى تبقى امرأة واحدة تغوي كل الرجال.  وبهذا كانت تقدم الحكايات فكرة مختلفة، فالمرأة لا تدخل في صراع مع الرجل ليقضي أحدها على الآخر، لكن الرجل هو الذي يقضي على كل الرجال. والمرأة هي التي تصنع لعنات تصيب كل النساء.  

هذه الكائنات الأسطورية كانت تراهن على شيء آخر أيضًا.. على دوام ملامحهم، فيأتي بائع الملامح ليعطيهم وجوهًا بدلاً من وجوههم الدميمة، لكنهم يكتشفوا أن الوجوه التي حصلوا عليها تذوب بعد رحيله ليصبحوا في ظلام وبلا حواس. تتكرر الفكرة كثيرًا فالبنت تسرق ملامح أبيها في الحلم، والمرأة الدميمة تحصل على صوت ساحر ووجه بديع يكون عليها الاختيار بين ملامحها أو صوتها في النهاية. ربما كانت الملامح بذلك هي أحد بوابات تلك الشخصيات السحرية للحياة… فهم كائنات عجيبة، ومع ذلك وجوههم هي التي تربطهم بالعالم، والصراع دائر حول من يمتلك تلك الوجوه.

كانت تسعى أيضًا الكائنات العجيبة لكي تعيش على حساب الكائنات الأخرى، وهو ليس بالضرورة صراعًا بين الخير والشر، لكنه صراع بين الطرف الذي يمتلك الأعاجيب والطرف الذي يندهش من سحر الأعاجيب فيتبعها. فبائع الساعات يراهن على وقت سكان المدينة يمنحهم ساعات كثيرة ويضبط ساعة كل شخص على توقيت مختلف، وهكذا لا يتقابل أهل المدينة أبدًا. أيضًا البحار الذي يخشى الغرق على الأرض، لن يستطيع  النزول إلى الأرض، إلا حين يصبح أباه وأمه على المركب. فكرة المقابل، وأن يحصل على شيء في مقابل ضياعه من كائن آخر تكررت بذلك كثيرًا. الرأس الذي يحصل على جسد من رجل آخر، والرجل الورقي الذي يتحول إلى لحم ودم في مقابل تحول رجال المدينة كلهم إلى رجال من ورق.

الحارس

طوال الحكايات كانت تأتى كلمة جبل الكحل. وقد ظهر جبل الكحل في بداية الحكايات، وبدا كأنه حارس المدينة وإلى جواره كانت السيدة ذات العين الواحدة التي تتكحل بكحل الجبل، حتى سرق منها النساء الكحل وأفنوا الجبل، ليبدو ذلك مثل لعنة تسببت في كل الحكايات التالية، رغم أن المؤلف لم يقل أن ضياع الجبل جلب هذه اللعنات، لكن الجبل بدا محورًا تتحرك حوله كثير من الحكايات. وقد تبع ضياعه الكثير من الأساطير والكثير من الغرباء الذين طمعوا في أشياء ثمينة لدى أهل المدينة، مثل ملامحهم، أجسادهم، الحب أو حتى قيمة الفضيلة لديهم.

المدينة هي الأخرى كانت تبدو مثل حارس للذاكرة، فكثير من الحكايات كانت عن الذين يمتلكون ذاكرة الآخرين، أو الذين يعيشون ولا يموتون، أو الرجل الذي يحلم أحلام تخص الآخرين، أو الرجل الذي يتذكر المستقبل، لتبدو العلاقة قوية بين الزمن والذاكرة .. والأكثر أهمية هو أن كل شخص لا يملك ذاكرته وحده، لأن سكان المدينة كلهم يمتلكونها معًا. ويقدم طارق سؤالاً مدهشًا في النهاية عن هذه الذاكرة أو التي تسمى تاريخًا عند تدوينها… من يكتب التاريخ.. وهل يكتب الحقيقة؟

تتميز الأساطير بأنها مستقلة. بنى طارق إمام كل حكاية لا تشبه الأخرى في فكرتها، فالبنت التي تطهو الطعام بأنفاسها ليصبح جميلاً، لا تشبه الساحرة التي تنام فوق جدار في السماء.. كل شخصية مختلفة تمامًا عن الأخرى ويمكن تذكرها باستقلالية.

ألف ليلة

قام المؤلف بتوظيف بعض الأساطير داخل سياق أساطيره،  فيأخذ فكرة أسطورة معروفة سابقًا ويبنى عليها أسطورته الخاصة، مثلاً يأخذ قصة سندريلا، وبدلاً من أن يبحث الحراس عن فتاة على مقاسها حذاء، كانوا يدخلوا البيوت ويبحثون عن البنت التي تصنع أفضل حساء. مثال آخر عن توظيفه لأسطورة قديمة في حكاية الرأس التي تركب فوق جسد إنسان ولا تريد مفارقته.

يبدو المؤلف كأنه يقدم كتابًا معاصرًا للأساطير، مثل ألف ليلة وليلة أو الأساطير اليونانية القديمة،وهو منذ بداية الحكايات يقول “بلغني أن “. ربما يكون السبب في اتجاه المؤلف إلى هذا العالم، هو روايته السابقة عن الشاعر اليوناني كفافيس، والتي ربما منحته بعض الكتابات اليونانية والأساطير الإغريقية فشدته إلى ذلك العالم.

يبدو كتاب الأساطير تجربة في مسيرة كاتب قام بتعبئة خياله بشخصيات أسطورية مدهشة، وكان يستهلك جموح هذا الخيال بشدة ليكتب هذه التجربة الغنية. لكن ربما كنا ننتظر أن يخبرنا إلى أين تذهب الأساطير بالمدينة، وما الجوهرة التي يتصارع حولها كل هذا السحر. فوضع حكايات شديدة الدهشة والجمال وحدها لا يكفي.. وثمة قيمة مثل الخيط عليها أن تشد كل الحكايات.

كانت أيضًا بعض الحكايات مدهشة في بنيتها وأسطورتها، وبعض الحكايات لجأت لخاتمة تقليدية بدت مثل درسًا وحكمة.

قدم رسوم الكتاب الفنان صلاح المر، وأكدت الرسوم مع الحكايات على حالة ألف ليلة، مجسدة الأسطورة أكثر لتبدو حقيقية، وكانت الرسوم تبدو مثل مسوخ تحاكي شخصيات الحكايات، وحاولت الرسوم أن تبدو عصرية، مقدمة نسخة جديدة لهذه الشخصيات الأسطورية، لكن بعض العلامات كانت خارج السياق وغير مبررة، مثل علامات التشريح أو الإشارات بحروف A B C  إلى أجزاء في الرسوم مثلاً.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم