ولكن حين يكون الجاليري مفتوحاً , تستطيع أن تشاهده جالساً بهدوء خلف الزجاج , محاطاً بمهرجان شعبي صامت من المشغولات الفنية اليدوية والتماثيل واللوحات.
في كل مرة لابد أن يكون مستغرقاً في القراءة , وبجانبه صف من الكتب التي أنهت – أو تنتظر – دورها .
يبتسم مرحباً ويقوم بنفسه ليستقبلك داعياً إياك للدخول بمودّة . سيدعك تتكلم ولن يقاطعك , لكن صمته وهزة رأسه الخفيفة لا تعني بالضرورة موافقته على كل ما تقول ..ربما فقط تعني عنده أن من حق هذا الآخر أن يفكر ويبحث ليصل بطريقته .
علاء خالد يدرك قيمة الكلمة جيداً , لذا حين يتكلم أو يعلّق فغالباً ما يبدو تعليقه كباب مفتوح …تستطيع أن تدخل منه لأماكن أخرى في الطرح والرؤية . إنه أبداً لا يقدم الإجابات الواثقة السهلة . تشعر أنه في رحلة بحث مستمرة , محفّزاً إياك على مواصلة البحث , وتقبّل الثمن الكبير الذي تضطر لدفعه أمام التساؤلات.
………..
كنت أتساءل باستنكار ” وهل الكبار أيضا يحتاجون أمهات ؟! “
كشخص فقد أمه مبكراً كنت لا أشعر في الحقيقة بقدر كاف من التعاطف مع هؤلاء ” الناضجين ” الذين يرثون أمهاتهم .. ما الذي يفتقدونه حقاً الآن ؟
جاء ديوان ” تصبحين على خير ” , الصادر عن دار شرقيات 2007 , والذي يقدمه علاء خالد كقصيدة واحدة طويلة يرثى فيها والدته , جاء الديوان ليقدم لي معطيات جديدة لإعادة تكوين هذه الفكرة من أساسها..
ربما الوعي يلعب دوراً قاسياً لتكثيف الفقد .
” أتعامل مع الموت
كجريمة يجب أن أخفي آثارها
حتى أستأثر بالفقد
الشيء الوحيد الذي لا أقدر على إخفائه
الشيء الذي يمكن أن أحمله معي أينما ذهبت”
يحمل الشاعر فقده في رحلة حزن شفيفة , لقطات نافذة عن الأيام الأخيرة التي تقضيها الأم في تمزيق صورها القديمة
” تكسرين الأحجار الكبيرة للذكرى
وتحولينها إلى تراب
لم يبق دليل على حياة كنت أحد أبطالها
لا أعرف أي مخبر سري كنت تتوقعين ظهوره بعد موتك
ليقيم الحجة عليك”
المرض الأخير , والرحلة القصيرة في سيارة الإسعاف ..وتوديع الجسد والعودة بالملاءة البيضاء التي كانت تلفّه ” كعصا عداء في ماراثون طويل”
والقبلة التي كان من المفترض أن تكون الأخيرة … لكنها فرّت من المشهد لتعود وتطارده
” القبلة التي لم تخرج من فمي
وأنت ممددة على طاولة التغسيل
لم أشأ كالآخرين أن أقبلك
ولفافة بيضاء تؤطر وجهك
عادت القبلة مرة أخرى
وطاردتني في الحلم “
الجسد الغائب … والروح الحاضرة , والأشياء التي نتشبث بها كدليل على أننا مررنا يوماً ما هنا
” لم أحرك كوبك عن موضعه
هو وأسرارك النائمة على حافته
أنا الأب الكبير لأسرارك”
لكن الرحلة لا تنتهي بالفقد فقط … بل بمزيد من الرصد , والتأمل .
كأن الشعر يطبع قبلة على جبين الحزن..
” تلك الحكمة البسيطة
في آخر كل حزن فرح
في آخر كل موت حياة
نعم
تصبحين على خير”