فتنة الحواجب

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لماذا تكتب؟

سؤال وجودي ، سيظل عابراً للأعمار طالما هناك من يمسك بقلم أو يطرق بأصابعه على لوحة المفاتيح ، ستجد أن معظم الاجابات في ازمنة قريبة كانت إن الكتابة تقاوم الموت ، أو أنها السلاح اليتيم الذي يشهره الكاتب في وجهه.

كتبت روايتين متلبستين بالموت ، واحدة كان البطل يسخرمنه طوال الرواية ، يخرج له لسانه ، بل يصل الأمر به إلى مقارعته . كنت مازلت أصغر في العمر ، في أحد المشاهد على ما أذكر كان عزرائيل يقول لبطل الرواية : إن هذه هي زيارته الأخيرة له وإنه لن يعود إليه مرة ثانية ، وإنه – أي البطل – إن شاء أن يذهب معه الآن فلا بأس ، لكن بطل ألعاب الهوى أجابه بثبات : كل شيء معد سلفاً : الصلاة والكفن والمعزون. .الحسنات تم وزنها وتعادلت مع السيئات وإنه فقط يبحث عن حسنة واحدة  ليجد لنفسه موقعاً أفضل ،  ولم ينس أن يسخر منه كأنه يتوعده بلا مبالاة : تعال متى تحب.

حلمت بالأموات كثيراً ، حلمت بهم قبل أن يموتوا بأيام أو ساعات ، وتمنيت ألا يحدث هذا لي مرة أخرى، كان يرعب من أحكي لهم فيرتد الرعب إليً.

صديقي الشاعر عبد المنعم رمضان يهبط إلى مكتبات وسط البلد ، أحياناً يشتري كتباً اشتراها من قبل ، ربما لأنه يشق عليه العثور عليها وسط أضابير مكتبته ، وربما لأن شهوة شراء الكتب تقاوم حضور فعل الموت ، من المؤكد أنها هكذا وليست ربما ، كأنه يقول لنفسه بالضبط : إنني لن أموت إلا بعد أن أقرأ هذه الكتب أولاً ، وأن الموت لا بد أن عنده بعض الذوق والدم ليمهل شاعراً حتى ينهي الكتب التي أحبها .

ولدت في منطقة مطوقة بالدم ، ولدت في البراري في الشمال حيث اصطياد روح إنسان مثل اصطياد البط العابر من الشمال طلباً للدفء ، يتركون الميت في دمه حتى ينشف ، لكنهم يقلبون الطير الذي صادوه سريعاً ، الحياة أبقى من الموت .

كان لا بد من الأغاني ، رجال يخرجون لا يعرف أهلوهم هل يعودون أم لا ، ونساء تتحرق بالشوق وتخشى الموت تطلق أغانيها من قعر القلب ، تطلقها بلوعة الغياب وفحيح مكتوم بالرغبة.

عشنا بين لغة مسجوعة مملوكة للرجال،  مكرورة مملة ، قاطعة كالموت ، ولغة أخرى دافئة منطلقة تصنعها النساء ، لغة تمط فيها الكلمة فينتج الايقاع ، وتقف فجأة في نهايتها لتعرف متى يجب أن تنتهي الجملة . حين تكون الأمنية بعيدة تهدأ العبارة ، حين تكون حارة وحالة تجري العبارة ، كلمة كغزال خلف كلمة ، وحين كان الأمر متعلقاً بالأمل يطل الغناء من الفم ، يطل من العيون ، يشبه الحياة .

المطر يقضي ثلاثة أشهر بلياليها ، لا ينقطع ليلة ، والشمس تطل مثل صغير يحبو في الصباح طلباً للعب والزاد ، وقمر حين لا يكون عاشقاً يغيب ، يجلس وحده فارساً متوجاً على بقعة فضية، ويسافر وحده ملكاً كما يقول منصور رحباني .

نحن في وقت المديوكر بامتياز ، لكن الكتب الردئية مطلوبة أيضاً ، إنها تصنع سوق الكتابة ، لا يمكن أن يكتب الجيدون وحدهم ، الهامش كان دائماً للكتابة الفاتنة ، وكلنا أبناؤه ، المصيبة حين يأكل المتن هذا الهامش .

أحلم مثل فيلليني ، أحلم بالشخصيات قبل أن أكتبها ، اضحك وحدي أحياناً ليسألني رفيقي عن السبب ، فأجيبه أن أحد الشخصيات قال جملة أضحكتني .

مطردائم وموت مقيم وغيم وشمس وقمر ، وأحلام مرفرفة لأطفال صغار لم يلبسوا حذاءً جديداً سوى مرة في العمر ، وبنات بحواجب بكر مزججة من خلف ظهور الآباء ، حواجب زاهية ، وضحكة خافتة معجونة بالرغبة ، بالوعود ، وأفق يعبره طير من الشمال للجنوب والعكس ، بنادق تطارده مرة ، وغناء يلاحق أجنحته مرات .

من هنا كان لا بد منها .

 

مقالات من نفس القسم