جمال الغيطانى
ومع توالي السرد نجد أنفسنا في مواجهة لغة جديدة، إيقاعها مختلف، رغم بساطتها الظاهرة إلا أن الشاعرية الكامنة وراءها تمنحها عمقا، كأن المؤلف يري العالم بعيني طفل
بعد أن انتهيت من قراءة رواية (فانيليا) للأديب الطاهر شرقاوي، قلت لنفسي، تلك هي الكتابة الجديدة بحق، منذ فترة ليست بالقصيرة استشعر ميلاد ظاهرة أدبية جديدة، ليس الأمر مرتبطا بجيل جديد، فالحياة الأدبية لا تمضي بمنطق الدفعات الدراسية، لكن تتعاقب فيها الظواهر الأدبية والتي تتبلور وفقا لشروط وظروف متداخلة، معقدة، منها التاريخي والاجتماعي والثقافي.
ما الجديد في رواية الطاهر شرقاوي؟في رواية ‘كيرياليسون’ هاني عبدالمريد، في رواية ‘غرفة الرعاية المركزة’ لعزالدين شكري؟ وروايات أخري سأتوقف أمام بعضها في الأسابيع القادمة محاولا رصد الظاهرة كقارئ، رواية ‘فانيليا’ للطاهر شرقاوي، كتابة جديدة في الفن الروائي لأنها تمسك بالقارئ منذ اللحظة الأولي، تجعله يتتبع فصوله بلهفة، رغم خلوها تماما من الشخصيات، من المعمار التقليدي، خلو حتي من الأسماء، تتبادل الفصول حول ولد وبنت، الشخصية الطاغية أكثر هي البنت، بل إننا نراها في الفصول المكرسة للولد من خلال نظرته وعيونه، أول ما نقرأه رؤية الولد لقدميها:
‘ومثل قدم طفل، هذا أول خاطر مر في ذهن الولد، وهو يتأمل القدمين الممدودتين في الهواء، كانت البنت تريه الشراب الذي اشترته حديثا، عندما لفتت نظره القدم الصغيرة، وفكر أن قدمها أيضا تصلح للفرجة، وأنه لو وضعها في راحة يده، بالكاد ستملؤها’.
تلك بداية الرواية، بداية غير تقليدية، ومع توالي السرد نجد أنفسنا في مواجهة لغة جديدة، إيقاعها مختلف، رغم بساطتها الظاهرة إلا أن الشاعرية الكامنة وراءها تمنحها عمقا، كأن المؤلف يري العالم بعيني طفل، ذكرني السرد بلوحات الفنان الفرنسي العبقري ماتيس، الذي كانت ألوانه تفيض ببراءة وطزاجة الحياة.
الفصل الثاني المكرس للبنت يبدأ هكذا:
‘إنها البنت النحيفة، ذات الملامح الهادئة، المحبة في معظم الأوقات لارتداء بنطلونات الجينز، والتي ما إن تظهر في الشارع حتي تلاحقها في صمت عيون الباعة وعساكر المرور، يتابعونها وهي تحمل صندلها في يدها، وتمشي حافية علي الرصيف. حتي تختفي في الزحام..’.
كما كان يقال دائما.. بيت القصيد، في كل قصيدة بيت هو اللب، من الطبيعي أن تنظر العيون إلي فتاة تمشي في الطريق، لكن المفاجأة هنا أنها تمشي حافية، هذا هو المفاجئ، وربما يكمن هنا أحد أسرار الرواية، فبرغم النّفّس الهادئ وعدم وجود أحداث أو شخصيات إلا أننا نتطلع، ونستمر حتي السطر الأخير.
البنت قررت أن تموت في الثامنة والأربعين.. لماذا؟ ما من سبب واضح، أعجبتها فكرة الموت في هذه السن، البنت يعيش معها ديناصور أخضر أطلقت عليه اسم أبريل، من قبل كانت تعيش مع الخرتيت. لا نعرف.. هل هي كائنات متخيلة أم حقيقية؟ هنا يتداخل الواقع مع الحلم.
‘طول حياتها والبنت تحتفظ بأشياء مختلفة، وأحيانا غريبة، حتي امتلأت أدراج دولابها ومكتبها في بيت العائلة بالزلط الملون، والعملات القديمة، وقرون الخروب الجافة، وأسنانها اللبنية وأزرار مختلفة الأحجام، وحقوق البخور، ومكاحل خشبية، وكيس قماشي ممتلئ بشعرها المتساقط، وفرش أسنان، وزجاجات فارغة، وأقلام رصاص، كانت هذه الممتلكات تتناقص مع مرور الأيام نتيجة استيلاء أخيها علي بعضها، أو قيام أمها علي فترات متباعدة برمي كل تلك الأشياء في القمامة..’
الجزء الثاني من الرواية يتكون من ثلاثة ملاحق تبدو في الظاهر منفصلة، لكنها متصلة جدا بالرواية وعالمها الرهيف، ولغتها الحساسة. لست مبالغا أبدا عندما أقول إنها كتابة جديدة، أمر أخير تتميز به تلك الرواية البديعة، إنها تخلو من طلبات التوسل الخاصة بالترجمة والتي بدأت تطل من نصوص عديدة، فلا نجد فيها مبالغة في وصف اليهود أو مشاكل الأقباط أو السخرية من الملتحين، وبالطبع التعاطف مع الشواذ!
ــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري