نهى محمود
ألوح للصغيرة وأبيها، وأغلق ستائر الشرفة.. أو ربما أغلق الشرفة فقط دون أن أخرج للتلويح لهما، ذلك الطقس الذي يحبانه كثيرا ويزعجني أنا.
ربما لا يزعجني بقدر ما يضايقني فشلي في الظهور في لحظة مناسبة لهذا الحدث الجلل، يستعدان للمغادرة بينما أكون قد قررت التلويح لهما اليوم، أخرج للشرفة فأجد الشارع مزدحما والحديقة المقابلة ممتلئة بالمارة.. أو أنهما تأخرا في هبوط الدرج. في أيام اخرى أفضل البقاء في مكاني، أو صنع فنجان قهوة فور مغادرتهما أو التجمد. فقط التجمد بينما ينتظران هما بصخب وترقب خروجي للشرفة، يتصلان على هاتفي، يستخدمان بوق السيارة، يناديان، وفي النهاية يغادران دون أن أودعهما.
اليوم.. أغلقت الستائر والشرفة، وعدت للمطبخ، صنعت قهوتي وفكرت أني ربما أشتري قداحة جديدة عندما أركب الأتوبيس، لأشعل سيجارتي الصباحية الوحيدة التي تعني أنني ربما سأكتب شيئا جديدا بعد حرقها..
فكرت أني مشوشة تماما، لأن الأحلام المتداخلة عادت تهاجمني، الأحلام المكررة المتداخلة..
حلمت اليوم حلم “البيت المقبض”، يتغير ويختلف قليلا، لكنه يحدث في البيت ذاته..
بيت لم أدخله من قبل في الحياة الحقيقية، لكني في الحلم يتعين علي أن اقضي فيه ليلة، يصطحبني له في كل مرة رجل أعرفه، أثق به.. أو رجل قابلته في حياة أخرى حيث يبدو مألوفا لي في الحلم.
يغادر لسبب ما ويتركني، لا أشاهد شيئاً مخيفاً في الحلم، لكني أشعر برهبة وانقباض من البيت، شرشف منضدة الطعام وستائر تفصل حجرات البيت، الستائر تراوغني منذ طفولتي.
طالما عذبتني ستائر حجرتي في ليال الشتاء الطويلة المقبضة وأنا طفلة، طالما قضيت الليالي أتوجس مما خلفها، كثيرا ما فكرت في كونه أسدا، ربما جاءتني الفكرة من حلقة لطيفة من “توم وجيري” أسد هارب من حديقة الحيوان لأنه غير متأقلم ويريد العودة للغابة، كان يختبئ خلف ستارة زرقاء، يساعده الفأر جيري للوصول للميناء حيث يستقل سفينة عائدة للوطن.
منذ ذلك الوقت بقى هاجسي أن خلف الستائر أسد قاتل، في الحلم أتجول في البيت وأفكر أني ربما كنت هنا من قبل، وأني شاهدت ما أراه الآن وشعرت بذلك القلق والرهبة..
هذه المرة التي حلمت فيها بالبيت المقبض، خرجت من البيت/ الحلم، وذهبت لزيارة أبي وحكيت له.
أحاول أن أشرح ما شعرت به، فيقول مقاطعا: مثل الشقة التي استأجرناها ليلة واحدة عندما ذهبنا معا لقضاء أمر في الأسكندرية، أومئ برأسي وينتهي الحلم.
داخل الحلم أشعر بامتنان حقيقي لأبي لأنه يفهم طوال الوقت مشاعري حتى دون أن ألوح بها..
في الصباح وبعدما أنهيت قهوتي جلست أفكر فيما قاله أبي في الحلم عن ليلة الإسكندرية تلك، أنهينا ما جئنا لإنجازه في الواحدة صباحا، كنا في الشتاء وكان البرد قارصا، جلسنا بمقهي، تناولنا شايا، وسألنا عن بيت لقضاء الليلة، ظهر رجل، طلب بطاقات الهوية ليتأكد من صلة قرابتنا، وأخذ مبلغا ليس كبيرا وأشار إلى بناية عالية ترى البحر ومنحنا المفتاح، صوت صرير المصعد وظلام المدخل والسلالم والشقة حتى بعدما أضأنا نورها بقى خافتا ومعتما.
الشقة كانت عالية، ومقبضة، ترى البحر، وتشعر أنها مزدحمة بالأرواح، ذلك الإحساس الذي يلازمني عند زيارة متحف أندرسون أو بيت الكرتيلية أو مقابر الملوك والملكات في البر الغربي.
كنت أشعر بزحام غير مريح في الشقة، قضيت ليلتي في حجرة تطل على البحر، جالسة في الشرفة أتابع سواد السماء الملتحم بسواد البحر، بقيت هناك حتى تغير المشهد وظهرت الألوان بيضاء وزرقاء ورمادية. بات أبي ليلته في الغرفة المقابلة، استيقظ مبكرا جدا، غادرنا البيت سريعا.عدنا للمقهي، تركنا المفتاح هناك، تناولنا إفطارا سريعا وشربنا الشاي، ابتسم في وجهي وسألني “حسيتي بحاجة في الشقة؟”، حركت رأسي بالإيجاب وابتسمت، ساد صمت ثقيل على روحي، لم أستطع أن أخبره أن ما أزعجني حقا كانت رغبة الرجل من التحقق من هويتنا.
كانت أمي قد توفيت حديثا، لم يكمل والدي الخمسين وقتها، وكنت في أوائل العشرينات، وفكرت أن ذلك الموقف أشعرني باليتم، وبفوضى حياتنا واحتياجنا لأمي، لكني لم أخبره بشيء، وتحليت بالشجاعة لأمضي وسط غابة الفقد التي تلتهم روحي.
جلست اليوم في الصباح لأكتب عن الحلم المقبض المتكرر، بينما أفكر أيضا في احتياجي للتدرب على
الغوص داخلي، كذلك المشهد المخيف في فيلم Get out للمخرج جوردن بيل، عندما يسقط البطل دانيال كالويا أسيرا للتنويم المغناطيسي، يتجمد في كرسيه بينما يغرق جسده وروحه في الظلام.. مشهد مثل ذلك يبدو غارقا داخل الجانب المظلم من النفس والذاكرة، يجعلني استدعني الفيلم الكابوسي الآخر للمخرج نفسه فيلم Us .
أراقبني أقف في المطبخ، أغسل صحون لا تنتهي وأفكر في الأداء الرهيب للممثلة “لوبيتا نيونغو”، كابوسية ان يخرج القرين من تحت الارض ليسلبك حياتك، قبل أن نكتشف في نهاية الفيلم أن تلك الفتاة التي جاءت من تحت الارض بثورة لقرناء البشر جميعا، كانت في الأصل هي الفتاة الحقيقية قبل أن تخطفها القرينة وتحبسها تحت الأرض في طفولتها وتسرق حياتها..
إعلان قناة الأفلام عن موعد إذاعة الفيلم الأول لجوردن بيل استدعى داخلي الفيلم الثاني مشاهدة وبوستره المقبض ونظرة لوبيتا نيونغو لنا وللحياة كفكرة يمكن سرقتها بسهولة.
أسلمتني الأفكار لبعضها، الكابوسية التي استدعاها حلمي المقبض شوشت روحي، واستدعت أفكار كثيرة داخلي، وبقت رغبتي في الغرق داخل ذاتي مسيطرة تماما وواضحة وسط ذلك الطوفان.
أحالتني رغبتي في الغرق للداخل، لسبب ذلك الشعور، الكتابة هي السبب.. أعرف الآن أن الجهل كان السبب الحقيقي الذي جعلني أكتب.
رغبتي في معرفة ذاتي والعالم حركتني في البدء لأكتب، جهلي وعجزي عن التواصل مع البشر، الخجل الذي لف ذراعيه والتهمني، الكتابة تبدد ضباب الجهل لكن الضباب لا يختفي، فقط ينسحب للعمق، لداخل الغابة حيث يتشابك مع الذكريات المنسية والأحلام المربكة، والحزن البعيد الذي تنساه الذاكرة ليتمكن البشر من النجاة والمضي قدما، لكنه هناك تحديدا وسط الضباب والضياع والجهل.. هناك تحديدا مادة يمكنني كتابتها، أعرف أني لو تمكنت من الغوص ودخول متاهة الضباب، قد أخرج بأرنب الحكايات وهو صيد ثمين، لمخبولة مثلي يختلط داخلها الحلم بالواقع، يتساوى ما حدث بما لم يحدث، تقف على مسافة واحدة من كل احتمالات الحكاية، تشعر بكل الخطط المحتملة للقدر.
عندما كنت أصغر، كنت أفكر في النجاة والتشبث بالحافة، الآن يدفعني التقدم بالعمر للرغبة في الغرق، المجازفة، التورط في النسيان والجهل ربما أخرج من جعبة الظلال بحكايات تصلح للكتابة.
ربما وسط التورط والغوص في الظلام تكمن النجاة والنور والطمأنينة.