“غربة المنازل”.. الانتصار على الخوف بالفكاهة والحب

غربة المنازل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

في روايته الجديدة «غربة المنازل» الصادرة عن “الدار المصرية اللبنانية” يتخذ عزت القمحاوي من عزلة كوفيد خلفية لأحداثها وشخصياتها المتعددة، لكن الوباء لا يحرك الأحداث إلا بوصفه فسحة من الصمت تركت للحواس حرية التعبير عن نفسها، كما أتاحت للشخصيات الوقت لمراجعة ما عاشته لاهثة دون أن تتحقق إن كانت حياة الانتصارات والنجاحات المهنية هي ما أرادته فعلا؟

تعطل الكلام بفعل الإغلاق والعزلة فأفسح المجال لملمس الحياة ورائحتها وطعمها وألوانها، وإذا كان الاهتمام بالحواس ملمحا أساسيا في كتابة عزت القمحاوي، فقد بدا أكثر وضوحًا في  «غربة المنازل» يمنحها الكثير من البهجة ويجعلنا نرى عالما من الأحلام وقصص الحب تحت مظهر العزلة الحزين.

تتعانق في الرواية الفنتازيا مع الواقع، كما تبرز الفكاهة والسخرية في الكثير من المواضع.

كثير من الأحداث ذات مرجعيات حقيقية تتطور بعد ذلك إلى هوس عام ووسواس جماعي لا تتبين فيه الحقيقة من الخيال، بالإضافة إلى أن كل شخصية من شخصيات الرواية لديها هوسها الخاص، الطبيب الذي تعطلت حياته بسبب قوة حاسة شمه الخارقة، لكن هذه الحاسة بالذات هي التي ستجعله يتقاعد ويتفرغ للعيش، حارس مول  اكتسب خبرة كشف أكثر السرقات خفاء، منحته الثقة لمطاردة الفيروس حتى أعماق شقق جيرانه، ما أوقعه في مشاكل بسبب ما اكتشفه من أسرار، مؤرخ يحلم بآلة توقف آلة التاريخ الخربة، فيعتزل الحياة قبل عزلة كوفيد الجماعية ويختبئ في مشاهدة مسلسلات الأطفال مستريحًا إلى هذا التاريخ الموازي الذي ينتصر فيه الخير دائمًا، ثم يعود إلى الغرق في أوبئة التاريخ عاقدًا المقارنات بين أوبئة الماضي ووباء الحاضر. وهناك الباحث البيولوجي الذي أفنى حياته في تجارب فاشلة لتهجين الذباب، لكنه ينجح في العثور على الحب، وسط هدوء الحديقة التي يتريض فيها وقت العزلة.

ومما جاء في الرواية: كان من الممكن أن يواصل وديع هذا الانقسام حتى مماته، لكنه استأنف المشي في الحديقة بعد إلحاح من ابني شقيقه اللذين أصابهما القلق من أن ينتهي نهاية والدهما. وجد سيدة الكلب كما كانت، لا تخلف توقيتها اليومي قبل الغروب.

واظب كل منهما على الدوران في اتجاه مختلف، والتقاطع، في مصادفة يدبِّرها أحدهما، ثم بدأ تعارفهما، كما يتعارف الناس؛ كلمة حول الطقس ذات أصيل. كلمة حول الكلب في يوم آخر، كلمة حول سنوات غربة وديع، كلمة حول وحدتها، وهكذا توطدت علاقتهما، وبدآ الدوران باتجاه واحد في تلك الحديقة المهجورة.

 طرح اليأس خلفه، واكتشف أن الحياة ليست حربًا عبثية مع الذباب، بل مباراة شطرنج تكفي نقلة واحدة موفقة للفوز فيها، بشرط أن يكون القدر قد أنجز نقلتين أو ثلاث متعاطفات.

لو قضى بقية عمره  دائرًا في الحديقة وراء لطيفة العراقي، ما كان لشيء أن يحدث بينهما لولا أن الحياة أخذتها إلى دربه. كان لابد أن تعمل في قسم الترجمة بمنظمة دولية، وتعشق زميلها الهندي هيرام باندي، ويموت هيرام بعد خمس سنوات ويترك لها طفلهما راجي، فتربيه وحدها، وكان لابد أن يضجر راجي من الحياة في مدينة الغبار ويرحل إلى مدينة «الله أباد» مسقط رأس أبيه، التي صار لها اسم جديد لا تتذكَّره لطيفة بسهولة. وتتباعد اتصالات راجي، فتشعر بثقل الوحدة.

 بعد أن مزجهما الحب صار كلاهما يتدلل على الآخر:

ـ كُنتَ تتبع خطاي مثل “ليل”

ـ كُنتِ تحاصرينني كذبابة.

النتيجة واحدة. تزوجا، وأغلقت لطيفة شقتها وانتقلت للعيش معه. لم تتمكن من إدهاشه بخمس طرق لإعداد البرياني، ويخنة الدال، وسائر ما تعلمته من حبيبها الأول؛ لأن وديع يعرف كل أنواع الطعام الهندي والباكستاني والفلبيني، تعلَّم كل ذلك من زملائه في قلعة البحر. ولم يكن الولع المشترك بالمطبخ الهندي ليكفي وحده سببًا لسعادة اثنين في الحب، لكنهما اكتشفا الكثير من التوافق بينهما في أشياء أخرى، وأثبتا أن بوسع  اثنين أن يكونا واحدًا. عرف كيف يستغرق في حبها كذبابة، وعرفت كيف تفصد الدم الفاسد من جراح روحه، وكيف تُغلقها واحدًا بعد الآخر بلمسة من يدها.” غربة المنازل” تضيف أبعادا اخرى أكثر غرابة واغترابا في مناح الوجود  والعيش بطروحات ذاتية في البدء باحثة عن ثمة خلاص في النهاية ، خلاص كلي يبدد سأم البعيش في الإنساني والحياتي المتكرر التساؤلات الملغزة والمحيرة التي يعاني منها الإنسان في الزمن المعاصر/ الرجراج بل المنفلت من كل ما هو معقول وكذلك يوسع من مفاهيم الحيرة وتشظي تلك الأفكار الفلسفية ليضيف بآليات سردية مفعمة بعشق الكتابة المجردة دافعا بأزمات متاهات التناقض والحيرة لاستخلاص ثمة معان اوجدوى تبرز من ثنايا النص لتثريه بكم زخم ومفعم بالجوى والأسى يطرح جدوى سريان عصارة الحياة في قلب وعقل وروح وذاكرة الكاتب/ والفنان معا، وصولا بحواس صوفية لمعنى الحياة والموت والخوف لتتجلى رؤى اخرى أكثر عمقا وطلاوة وتأويلا في مشروع الكاتب / الروائي / القاص عزت القمحاوي الذي قدم للمكتبة المصرية والعربية أكثر من عناوين عشرة تبحث في جدلية النصوص العابرة للزمن و للتصنيف احتفاء بالدقة وكذلك تبدل الثقل بالخفة برشاقة مبدع كبير حاز من قبل على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية عن روايته ” بيت الديب” ورشح لجائزة الشيخ زايد العام الماضي من خلال القائمة القصيرة من خلال نصه السردي الفارق ” غرفة المسافرين” المنفتح على الوجود . يذكر ان لعزت القمحاوي أكثر من عشرة عناوين ما بين الرواية والقصة والمقال النقدي الثقافي منها،” من بلاد التراب والطين” ” ذهب وزجاج” ” يكفي أننا معاً” ” ما رأه سامي يعقوب” وغيرها.

مقالات من نفس القسم