هكذا تفهم الشاعرة والكاتبة غادة نبيل الكتابة ، وهو ما تؤكده قصائد ديوانها الشعـرى الجديد “هواء المنسيين ” الصادر حديثا عن دار نشر شرقيات ، حيث تتنفس فيه هواء “المنسيين “فى محاولة أخيرة للبقاء حية فى عالم يكاد يخلو من الأوكسجين الإنسانى ومن الجمال بكافة أشكاله
انشغلت غادة فى ديوانها بالبحث عن الإنسانى بمعناه الواسع الذى يتجاوز حدود الزمان والمكان ، ذلك الجمال الذى لا تقيده لغة بعينها أولون أو جنسية ولعل تلك السطور من قصيدتها ” أرض الرعود ” ص41 ونصها:
” التلميذات / فى حصة التربية البدنية/ يحممهن المطر / محاطات بيمام الهيمالايا / لا يفكرن / إلا بأرض الملعب التى صارت كالبحيرة “
كافية للتدليل على ذلك الجمال المطلق ؛ فاللوحة الشعرية لو ترجمت مفرداتها ومعانيها إلى كل لغات الأرض لنطق جمالها بكل لغة.
الديوان هو الخامس فى مشروعها الشعرى وهى تخطو به خطوات واسعة نحو رسم ملامح ذلك المشروع ، وكعادتها فى معظم كتاباتها ورغم مجايلتها للعديد من الشعراء الذين منحوا قصيدة النثر تجاربهم كاملة فهى تغرد وحيدة بكتابة لا تشبه إلا روحها تبحر فيها على قارب من الصدق بمجدافين من القلق ، متجنبة السقوط فى مستنقع اجترار العادى واليومى والمألوف والمعيش الذى غرزت فيه أقدام كثير من شعراء النثر فراحوا وراحت تجاربهم بل وأعمارهم سدى بعد أن وهبوا قصائدهم للتعبير عن ذلك العادى واليومى دون أن يقبضوا من وراء ذلك على أية شاعرية مستسلمين للاستسهال والضحالة
اتكأت غادة عند طرحها لرؤيتها الشعرية فى عدد من قصائد الديوان على تقنية التناص، ومزجت فى أكثر من موضع من قصائدها بين سطور وفقرات من نصوص أخرى تنتمى لعوالم وأزمنة بعيدة ومغايرة، استدعتها إلى الديوان بأشكال مختلفة فحضرت تحمل معها عبق تلك الأزمنة التى تنتمى إليها وحملت معها جانبا كبيرا من دلالاتها وإيحاءاتها فى سياقاتها الأصلية ، بدءا من نص المثل الكشميرى وترجمته “الحياة لا تأتى مرة ثانية” والذى استدعته الشاعرة لتجعله تصديرا لديوانها وقد قام بدوره فى الإيحاء بهموم الشاعرة حتى قبل الولوج إلى عمق الديوان ، مرورا بتوظيفها العابر لجملة مثل ” قرابين الأغانى”، وهو نص عنوان فرعى لأحد أهم دواوين طاغور ، وقولها ” عشرون عاما فى عجن الأثداء ” وهو التعبير الذى يحيلنا إلى نص عنوان كتاب ” عشرون عاما فى التبت ” الذى تناصت معه الشاعرة وهو للدلاى لاما الثالث عشرص25
أما قصيدتها ” نظرة السجين ” ص 74 المهداة إلى تاج محل فقد افتتحتها بجملة ” يا من أنت لى كالمصطفى ، أنا لك كعمر ” وذلك السطر أو النص القصير لمولانا جلال الدين الرومى مع إهداء القصيدة نفسها لشاه جيهان وزوجته ممتاز محل وفى الخلفية قصتهما الأسطورية تصنع حالة مركبة من تداخل النصوص والمعانقات النصية سمحت بتمدد نصها الأصلى إلى مساحات أكثر رحابة وأوسع دلالة وكثافة إيحائية وفيها تقول : ” النهر مازال يحرس ملكة مغولية / مع الهداهد والضفادع /وهو مازال نائما / بمكان مجهول / بمنديل رأس أبيض / بينما يحكى العامة / أنه فى ليال ذات قمر مكتمل / يخرج ذئب وحيد / يعوى / بحزن كل الكائنات / أمام الضريح “
والحقيقة أن غادة امتلكت قدرة عجيبة على اصطياد اللحظات الحاسمة من عمر نصوصها لتنسج فيها تضميناتها أو التناصات الشعرية التى فتحت بها نوافذ واسعة فى حوائط قصائدها منحت القارىء فرصة ليطل على مساحات جديدة ربما لم يكن ليتيحها النص الأصلى بمفرده
فضلا على ذلك كشفت سطور الديوان عن مهارة الشاعرة فى صنع المفارقة وتوظيفها كواحدة من ألاعيب الشعراء المشروعة ؛ ولننظر مثلا قصيدتها ” محاولة أخيرة لكتابة قصيدة صادقة ” ص92 وقد توفر فيها نموذج جلى لاستخدامها للتقنيتين معا حيث افتتحتها بمقولة جلال الدين الرومى ” فأيديهم معوجة ، وأقدامهم معوجة ، وعيونهم معوجة ، وحبهم معوج ، وصلحهم معوج ، وغضبهم معوج “وهو الاستدعاء الذ ى فرض دلالات مسبقة على نصها قبل أن يبدأ بعد أن نجحت فى استغلال نص الرومى فى خلق حالة كره واستياء ونفور من الذين “هم ” معوجون فى كل شىء وهوما قد يستدعى إلى الذهن مقولة أراجون ” الجحيم هو الآخرون ” وقد كان من المتوقع أو ربما هذا الذى انتظره القارىء أن تبدأ الشاعرة حديثها عن ” هؤلاء” المعوجين ، لكن غادة قذفت بالقارىء من ارتفاع شاهق حيث قمة التوقع إلى سفح الدهشة بعد مراوغة شعرية ناجحة حيث بدأت سطرها الأول فى القصيدة متسائلة : من تظن نفسها غادة نبيل ؟! وهو آخر ما يمكن أن ينتظره القارىء بعد ذلك المفتتح للنص ، وهى مفارقة مربكة جعلتنى كقارىء فى حالة ارتباك شديدة ومحاولة للفهم هل الشاعرة تريد أو تبحث عن إدانة الـ “هم ” أم إدانة ذاتها ومحاسبتها ..وتلك النقلة الذهنية فى حد ذاتها شكل من أشكال الإيقاع الممتع الذى يكسر الرتابة ويحل بديلا عن أشكال أخرى من الإيقاع فقدت قدرتها مع الزمن على الإيحاء بالشعر أو الإحالة عليه من قريب أو بعيد
والقصيدة التى بين أيدينا نفسها شهدت فى مواضع منها تداخلات أخرى لنصوص من أبيات لعلى زين العابدين السجاد وكذلك لابن الفارض أسهمت كثيرا فى دفع الرؤية إلى مناطق أكثر جلاء ووضوحا فهى تقول ص 97: ” أريد أن أرصهم / واحدا بجوار الآخر / ” “الذين يظنون اقبح ما يأتونه حسنا ” والسطر الأخير لعلى زين العابدين . مثنوى – الكتاب الخامس فكأنها بتوظيفها للتناص تعمدت أن تزرع رئات جديدة للنص ليتنفس بها
أما ” المنسيين ” فهم فى الغالب ضحايا سقطوا من الذاكرة ، حاولت غادة أن تمنحهم القدرة على الحضور وهم ليسوا بالضرورة أشخاص ، بل من المحتمل أن يكونوا أشياء ذات خصوصية أو تواريخ أو أمكنة ، ولما لا يكون ” المنسيين ” مثلا ” علبة بودرة الجدة أو خطابات أبيها الراحل إلى أمها و لهما أهدت الشاعرة الديوان أو يكون العاشق شاه جيهان الذى صار عشقه بئرا يرتوى منه عطشى الغرام على مر الزمان ولما لا يكون هؤلاء المنسيين هم أنفسهم “الذين يظنون أقبح ما يأتونه حسنا ” لذلك فإن نسيانهم واجب وإسقاطهم من الذاكرة حتمى.