د. رجاء علي
منذ الوهلة الأولى للاطلاع على المجموعة القصصة (عين سحرية تطل على خرابة) للكاتب أحمد عامر نلاحظ أن ثمة ثراء في طرحه لمتخيله السردي في تلك المجموعة؛ فعلى عتبات النص نجد عنواناً قصصياً مشعاً ومفعماً بالدلالات العميقة والمخاتلة أيضاً، والتي تلقي بإشعاعاتها للقارئ الذي يجد نفسه فجأة مكتوباً بين سطور قصص تلك المجموعة؛ فالعين مصدر الرؤية وآداة الوعي والإدراك الإنساني، ولكنها هنا ليست عيناً طبيعية، إنها عين (سحرية) تري من خلف الأبواب المتوارية وتكشف المستور؛ فالنعت قد قيد منعوته ليثير فضول القارئ، كما فتح آفاقاً واسعة للمقاربة التأويلية خارجاً بمفرداته عن الإطار التقليدي للتأويل كي نتساءل جميعا، ما المستور هناك فيأتي الجواب صادماً لنعرف أنها تطل على (خرابة)، ومع تلك المقاربة تستحيل الترجمة الحرفية للكلمة بمعناها الدارج رغم قسوته، فالنص يريد قسوة أكثر عمقاً؛ وليس المراد المعنى المألوف للكلمة إنما دلالاتها المشعة تؤكد أن المقصود هو الخراب الداخلي لشخوص رواياته التي تعد جميعها وجوهاً لعملة واحدة، بل تعكس نفوس المتلقين الذين يرون في شخصيات قصصه مرآة لأنفسهم أكد ذلك توظيفه لشخصيات قصصه التي تنتمي جميعها لفئة الكادحين والمهمشين والمتعبين، ثم يأتي الفعل المضارع (تطل) ليؤكد ديمومة الخراب وتجدده؛ وهنا يتجلى البعد الترميزي الذي يعكس رؤية القاص للعالم من حوله بأنه (خرابة)، فالعين السحرية لم تكن راصدة لضيف عابر كما تفعل في بيوتنا، بل كانت مطلة على خرابة؛ فالإطلالة ليست عابرة بل كائنة ودائمة ومستقرة، ولكن على خراب.
في قصص المجموعة نلاحظ نزوعاً واضحاً من قبل الكاتب لإيضاح عمق المفارقة بل الفجوة بين الخيال والواقع وربما الموجود والمأمول من خلال تقنية تيار الوعي التي تجلت بمستوياتها المختلفة بدءا من المنولوج الداخلي والمناجاة وأحلام اليقظة، كذلك نلاحظ تلاعبه البارع بثنائية الفعل ورد الفعل من خلال التقنية ذاتها وكأنه يخيط بحروفه ثوباً سردياً متعدد الألوان والدلالات التي تفرض على قارئه أن يكون متيقظاً ؛ فيدخلنا في دهاليزه السردية المتفرعة والمتشعبة والمتداخلة أيضاً بدءا من الشاعر الذي رفض تسلم جائزة مميزة لأنه يعلم مقدار الكذب والزيف الكائن في الواقع المعيش معلناً حيثيات رفضه لها، و مخرجاً وجعه السرمدي على حياته الضائعة التي لمس الكاتب أو الشاعر (ولا أراهما إلا وجهين لعملة واحدة) عالم متلقيه الداخلي الذي يعلم أنه لا يقرأ قصة أحمد عامر فقط، ولكنه يقرأ أبجديات ذاته وأوجاعه بين السطور التي احتوت أهم أسباب المعاناة واسرارها في تلك الأوقات العصيبة على الجميع مسرداً من خلال متخيله السردي أسباب الخراب في ذلك العالم الذي انتقل إلينا من خلال منظور الكاتب ذاته، مروراً بمن يجلس على المقهي خارجاً من حدود ذاته المحبطة، ويبدو أن اختياره لمفردات الشعر ودواوينه وحياة الشعراء داخل عمله القصصي يحمل بعداً ترميزياً وربما معادلاً موضوعياً لعالم الخيال والمثال؛ حيث كل شيء جميل ومثالي ولكنه يذبح ذبحاً على مقصلة الواقع، وهنا ينجح الكاتب في أن يصدم متلقيه ويمس شغاف قلبه من خلال ذلك المتخيل
اللافت للنظر أيضاً أن الكاتب ينزع نزوعاً إلى أن يجعل عناوين قصصه تدور جميعها في ذات الدائرة لتحمل المدلولات ذاتها؛ فالشاعر يعلن اعتزاله، والوردة معتقلة، والمرأة قد باعت حلمها لصائغ مزيف، والزجاجة ملونة ولكنها فارغة، وكلها تخدم رؤيته للعالم الخرب من حوله.
أما عن شعرية المكان في قصص المجموعة فنجدها واضحة بدءا من العنوان الرئيس الصادم الذي جاء مفعماً بالدلالات مروراً بالأماكن التي تردد عليها أبطال قصصه خاصة المقهي الذي يثير في الذاكرة الجماعية كثيراً من المعاني والذكريات الحبلى بالدلالات.
أخيراً وليس آخراً المجموعة القصصة للكاتب أحمد عامر تستحق التأمل لأنها تستجلي أبجديات الروح، وتعكس معها قسوة العالم وتناقضاته.