د. يسرى عبد الله
عبر غلاف لصبى يمتطى حصانا يسابق الريح، يجر زمنا وراءه، فى أجواء تشير إلى عالم مبتغى يفارق الواقع بعتامته وقسوته، شَرطه هو الفرح، غلاف تحيل إليه خاتمة الرواية، ويحيل إليها، تأتى رواية «شَرطى هو الفرح» للكاتب الروائي المصري أشرف الصباغ، والصادرة حديثا عن دار الآداب البيروتية، يعاين الروائى فيها عالما يخصه، تتنوع فيه جغرافيا السرد وفضاءاته ما بين المدينة بزخمها وتحولها اللانهائي، والمدينة الشعبية بعشوائيتها وفطريتها النسبية وروحها الصاخبة، والريف- مركز السرد- بحكاياته الأسطورية وعالمه المفعم بالجواب، وخياله الذي لا ينضب.
يتحرك السرد فى المساحات الثلاث التي يبدو فيها (يوسف عمران) خيطا جامعا بين فضاءات السرد من جهة، وحكاياته المتشعبة من جهة ثانية، فالرجل الذى أصبحه وقد صار منتميا إلى الطبقة البرجوازية، وتتسرب إشارات من السرد إلى كونه مثقفا، يعاين عالمه الجديد بشغف، يسافر فيعود ليبحث عن حانات وسط المدينة وطرزها المعمارية البديعة، يعانى اغترابا داخليا مرده إلى إخفاق عام، فالثورة التي يتواتر حضورها على لسانه، صارت علامة على تلك الأماني المجهضة والخيانات المتواترة، وحينما يدخل فى علاقة عاطفية مع امرأة جديدة يبدوان على طرفي نقيض في التعامل مع العالم، على الأقل من حيث قشرته الخارجية، فيشيران إلى رؤيتين متمايزتين للعالم، إحداهما مدينية تمثلها السيدة، حيث لم تزل تعتقد بصرامة الجدران الفاصلة بين الريف والحضر فى عالم متغير باستمرار، والأخرى أكثر ارتباطا بالواقع، تعي طبقاته المتراكبة والمتداخلة، وإن ظلت بها بعض آثار ريفية تحيل إلى التعصب للمكان، لم تر فرقا بين سكان المدن الشعبية والريف، حتى لو أسست السيدة تصورها على مركزية الخبز لدى الريفيين، وهنا يصبح الحوار السردي جزءا مركزيا من بنية السرد، ويعقبه تعليق من الراوي الرئيسي للعمل.
ينطلق خط القص الرئيسي إذن من الآن وهنا، من الراهن، من أزمة مكتومة للبطل المركزى (يوسف) يمكن أن ترى ملامحها فى الإخفاق العاطفي النسبي مع صديقته، وفي الإخفاق العام بتجلياته السياسية والثقافية.
وهناك دائما ترصيع سردي باستخدام عدد من الحكايات الفرعية، التي تزداد مساحتها ويتعمق حضورها في كل فضاء بما يناسبه، هنا مثلا سنجد حكاية النادل الأرميني «عم أرمين سارويان» الذى فرت أسرته من مذابح الأترك ضد الأرمن، ثم نرى تحولا تقنيا في بنية الزمن، يستتبع تحولا فى المكان، فنرى استخداما لتقنية الفلاش باك، حيث العودة إلى القرية التي لم يحددها الكاتب على نحو دقيق، فى إشارة إلى سياق يتجاوز المكان، وإن ظلت خصوصية المكان الريفي لدى الكاتب حاضرة وبقوة. ثم يحدث استخدام لتقنية الاستباق، فنرى قفزة فى الزمن، وإشارة إلى وقائع ستحدث بعد اللحظة الراهنة، يذهب فيها الصبي يوسف عمران إلى العمل فى ورشة الكاوتش، ونتعرف على المدينة ذات الطابع الشعبي (الفضاء الثالث للرواية)، حيث «الوايلي وباب الشعرية وشارع بورسعيد».
ثم يعود الكاتب إلى مركز السرد ( الريف) بما يحويه من جملة من الحكايات المدهشة التى يقدمها الكاتب، بدءا من مقامي الشيخين «سيدى الخراشي» و«سعيد» والفرع الملعون للنهر بجوار أشجار السنط والنبق، والمقابل للمقامين، والذى يغرق أو يجن كل من ينزل فيه، وحكايات الجدات، والقط الذى يدفن رأسه في صدر المرأة ، ويسير مختالا فى البيت، واللافت أنه هنا لا يصادر على متلقيه فيمعن فى كشف الدلالة التي يتركها لقارئ يكمل الفراغات النصية، فموروث حلول الروح وتعددها لدى القطط ضارب بجذره فى الثقافة المصرية بتنويعاتها، والعمتان أمينة وعزيزة، علامة على عالم موحش وقاس يسوسه الجد (عزيز) بغلظة لا نهائية، فتموت عزيزة، وتجن أمينة، وتتعدد عناصر الثقافة الشعبية هنا من كرامات الأولياء، سواء أكانوا حقيقيين مثل الخراشي، أو مزيفين مثل الشيخ السباعي، وتتجادل مساحات التقاطع بين الحقيقي والمتخيل، الواقع والحلم، ونرى المنامات والأحلام بوصفهما تقنيتين أساسيتين تقوم عليهما الكتابة هنا.
توظف الرواية السرد الخبري في البداية، مستعينة بجمل مجازية يتنامى معها السرد ولا يتعطل، ويحكى الكاتب عن مروى عنه محدد (أنثى عجوز)، توصى أولادها في لهجة آمرة لا تخلو من السخرية الفطرية للريفيين (العجائز تحديدا)، وتتعدد مستويات اللغة في النص وتحيل إلى خطابات مختلفة ابنة المنطق الديمقراطي للكتابة. ثم الانتقال السردي المصنوع ببراعة، واللغة التي تكسر إيقاعها الثابت، كما فى المقطع التالي: «ارتجف جسده رجفة عظيمة. صاح بكل قوته: وماذا بشأـنها، يا أم؟! فردت عليه ضاحكة:
– من، يا موكوس؟! اذهب لترى أين تجلس الآن».
يستخدم الكاتب الوظيفة التحليلية للسرد في مناطق عديدة في الرواية، ويتواتر هذا النزوع التحليلي فيكشف عن جدل رهيف بين السخرية والمأساة.
يبدو الكاتب مولعا بالبناء المحكم للشخصيات، وتبرز شخصية «العضاضة» بوصفها علامة على جوهر النص، حيث يلتقي فيها الحقيقي بالمتخيل، الواقع بالخرافة، نموذج إنساني ثرى ومتنوع، والمحيط الاجتماعي لها بدا ثريا أيضا على المستوى الفني (زوجها اللحاد الكوميدي)، والابنان «بحبح» و«منصور» اللذان غيبهما الموت، أحدهما بالحرب، والثاني بسقوطه في الفرع الملعون.
وبعد.. تبدو رواية «شرطي هو الفرح» لأشرف الصباغ رواية محكمة بنائيا، بنيتها السردية متناغمة، وتضرب في فضاءات سردية متعددة، الجامع بينها بطل مأزوم «يوسف» لم يزل موصولا بحكايات الجدات، وروح أعجزتها المقاومة، لكنها لم تزل مصرة على الحلم، على استعادة المعنى بنبل وفرح شديدين.
