عيد الأم

عيد الأم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

أميرة طاهر 


بينما تتحرك في الهواء إشاراتٌ و إحالاتٌ كثيرة لعيد الأم، الأم المقدسة، أغنية ست الحبايب لفايزة أحمد، ومشاهد تلفزيونيّة لنساء عجائز نبيلات طاعنات في السّن يتحركن بمهابة الآلهة، مناداة ضارعة بست الكل وست الحبايب وست الستات وستي وتاج راسي، جعلت أفكّر في هذه الحفاوة العنيفة شديدة الجديّة بعيد الأم، جديّة تجعلها أقرب إلى السخرية، عبر خطاب أقرب إلى أن يكون "جوبلزيّ" الطابع، رائج بعنف، فخيم النبرة، مأسويّ، زاعق، جادّ إلى درجة تمسّ الهزل.

 فجأة صار المشهد السنوي لتمجيد الأم بكل هذا الجدّ الهزلي مثيرًا عندي للاستغراب. الأم: ذلك الكيان الضخم الألوهيّ الطابع، كلّي القدرة، مستقَر الرّحم، حامل سرّ الحياة الأقدس، هو هو ذات الكيان الذي يتعرض للقتل إن جاءت الأمومة خارج المنظومة الاجتماعيّة والدينيّة المرضيّ عنها بغير دفع الإتاوة من الرسوم المقررة للكهنة، كي يشرفوا على أمومة “شرعيّة” نظيفة، مهذّبة و محترمة، مكتملة الكيان والأركان. الأم كيان يتباهى به الرّجل في مساحة الأم فقط، لا في مساحة المرأة، لذا وجب تغطيتها في الوجدان الجمعي بذلك الاحتشام النوراني الأبيض، أو بسواد الأرامل الإيزيسي المقدّس المثير للقشعريرة. الأم امرأة ليست امرأة، امرأة لا جسد لها، تصور غريب، يثير الدهشة والتأملات. الرّجال يتباهون بشكل مبالغ فيه، عنيف وفجّ ومَرَضي طوال الوقت بإيورهم، لا بأجسادهم بأكملها وقد تكون شوهاء كرشاء قبيحة، إنما فقط بإيورهم، كأنما يستمدّون منها وجودهم بأكمله، رغم أن لا أحد يراها بوجه عام في الدائرة المجتمعيّة باعتبارها عورة، تستطيع أن تلمح ذلك في كل موضع، في باطن أحاديث الناس، في الإيحاءات الجنسية في أفلام السينما، على مواقع الدردشة، على المقاهي الشعبية بوضوح يعقبه ضحك عال، بينما نحن النساء مسحوقات تحت الضغوط الاجتماعية العنيفة باحتقار أجسادنا وأعضائنا والخجل منها نرزح تحت أمراض التحشم والاحتجاب، كأن أجسادنا نحن النساء؛ فضلاً عن أرحامنا العظيمة؛ جديرة بالاحتقار المجتمعي العارم لمجرد وجودها، وغير جديرة بالمجد و التمجيد والتباهي والفرح

من تداعيات هذا المرض الاجتماعي عَرَض عيد الأم، المناسبة التي تحوّل الأم إلى كيان ضخم فوق المساءلة، كيان فوق-إنساني، لا-جنساني، غير-أنثويّ، أقرب إلى الإله، ينجب بلا مضاجعة، بمعجزة مريميّة، كيان أقرب إلى الإله الواحد الأحد الجبّار المتجبّر المُتكبّر، مخيف باطش، يشكّلُ عبر تقديس الأم هاجسًا مزمنًا ينبع من فكرة هلع إنساني ذكريّ عكسي؛ للهرب المفتعل والمقصود؛ من خاطر مضاجعة الأم، الذي هو بالضرورة مُفضٍ إلى الأمومة، بكل ما فيه من فزع حضاريّ مفهوم معروف. الأم لا تَشتهي ولا تَطلب ولا تتطلّع ولا تتأوّه، هي فوق هذا كلّه، متجاوزة لذلك كله، “أرقى” من ذلك كله. هذا الفصام الذكري لا حلّ له إلا بالعودة للمجتمع الأمومي الإيزيسي القديم، حيث كانت النساء يسرن في الشوارع عاريات الجذع مرفوعات الهامة يتباهين بأثدائهن العملاقة كضرع حتحور. برغم اعتراضي على الرؤية الجنسانيّة للإنسان، لما يعتورها من اختزال عنيف لجوانب أخرى في كيانه، لكني لم أدفع بسيْر النساء عرايا في الشارع في زماننا المعاصر، فحتى الرجال لا يسيرون في الشارع عرايا، أنا أتحدث فقط عن “التباهي” بالجسد، تباه يحمل بين طياته الاعتراف بفضيلة الاعتزاز بالذات وبالجنسانية للفرد الواحد ذكرًا كان أو أنثى، و من ثم تجريمه بالنسبه للنساء وحدهن دون الرجال، حتى على مستوى المثقفين، تتعرض المرأة عند أول اختلاف في الرأي إلى سبّها باعتبارها امرأة بمختلف أنواع السباب الجنسي. نحن نقدّس الأم فقط، مانحين إياها صك الأموميّة والألوهيّة، دون أن يمنعنا ذلك التقديس من إهانة بقيّة النساء، والتسخيف من شأن بقيّة النساء، واعتبارهن جوار ومتاع، و نعتهن بالعاهرات عند أوّل صدام كأن أمهات الرجال جميعًا قد أنجبن كل تلك الشوارب بلا مضاجعة، احترامنا للمرأة مسوّر بسور من حديد حول هذه الأم- الإلاهة، مريم-يسوع، دون أن يمتد ولو لملليمتر واحد خارج هذه الدائرة الحديديّة. ربما يكون هذا التقديس الذكوري العكسي حقيقيًا و صادقًا بما يحمله الذكور من موروث أنثروبولوجي ضخم مؤلم ثقيل، يجعلني أتفهّم؛ وأحيانًا ألتمس لهم العذر

.

أما نحن .. نحن النساء .. فلا نشعر نحو أمهاتنا بهذا التقديس الإلاهي المفتعل، لا ندعوها بست الستات وست الكل وستي وتاج راسي و بقيّة المصطلحات المنسحبة على الإله “ست” إله الشر الصحراوي ذاته، الكفيلة بتحويل عيد الأم إلى مناسبة اتّجار وتسوّق أقرب للكريسمس، وتحوّل الأم بمعاناتها العميقة الجليلة إلى سانتا كلوز من طراز آخر، إنما تجمعنا بأمهاتنا علاقة تفاهم صامت عميق جميل، مبعثه مشاركة ذات الآلام، ذات أعراض الجسد بكافة أطواره المتحوّلة؛ القاسية والمفزعة؛ من البلوغ إلى الجنس إلى الحمل والولادة والإرضاع وحتى انقطاع الطمث فالشيخوخة والهرم، علاقة أشبه بفوتونات الضوء في شعاع منساب من النور، ترتقي بحسب مستوى ثقافة الأم ووعيها بجسدها وجنسانيتها، علاقة أقرب إلى الروحانيّة؛ ننقلها إلى بناتنا ربما دون أبنائنا!

 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ناقدة ومترجمة وفنانة تشكيلية مصرية 

مقالات من نفس القسم