عودة نبات الخشخاش

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 16
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خالد الكبير

بينما أنا جالس برحاب إحدى المقاهي المشهورة بهدوئها وسكونها إد طلع على المكان مجموعة من الأشخاص فاق عددهم الثمانية، يحملون ملفات بين أيديهم، يقودهم صاحب المقهى الحاج عامر، حتى جلسوا إلى إحدى طاولات المقهى،

فصاروا يتحدثون بصوت مرتفع كمن يريدون أن يجذبوا اهتمام الحضور، ويلفتون انتباههم ويشركونهم في مواضيعهم رغما عنهم، فارضين سيطرتهم على المكان، دون أن يعيروا اهتماما أو احتراما للحاضرين بالمقهى، ولم يأبهوا لمن ينتبه لهم أو يسمع حديثهم، فهم يمارسون حريتهم في الكلام بكل ما أوتيت أصواتهم من قوة.

تطلعت إليهم فوجدتهم كمن كانوا كمن كانوا على عجلة من أمرهم، صاحب المقهى هو من كان يقود مجلسهم، يجيب على أسئلتهم الكثيرة وهم متعطشين لمعرفة المزيد من المعلومات، يدقق معهم في مجموع الوثائق الضرورية وهم يستفسرونه عن كل صغيرة وكبيرة، كل علامات وجهه كانت توحي لمن كان يلتف حوله بأنه العالم بكل خبايا ودهاليز الإدارة وأن كل ما يقوله هو منبع صدق وتأكيد ينمي عن تجربة كبيرة ودراية واسعة، هناك من كان يمجد معرفته ودرايته، وهناك من كان يعظم شخصيته ودكائه، وهناك من كان يشكر له مساعدته ويثمن حسن ما فعله.

لقد صار من بين ليلة وضحاها قدوة لهم وبطلا في أعينهم، كيف لا وهو الذي كان بالأمس القريب واحد من أهالي الدوار المتواضعين، وهو الان واحد من كبار الأغنياء الجدد الذي يضرب بهم المثل في الثراء والبذخ والسخاء، ويتحدث عنهم كل العادي والبادي…

يكفي أن تبيع بعض الهكتارات من أرض أجدادك لتصبح غنيا تركب سيارة المرسيدس، تملك مقهى فاخرا، وتجاور كبار الأغنياء، وتنال لقب الحاج، لا يهم أن تغادر قريتك بأشجارها وحقولها وبيادرها، لا يهم أن تترك عاداتها وتقاليديها، لا يهم أن تبيع الأرض والعرض، لا يهم أن تنسى الوصل وتنكر الأصل، لا يهم ولا يهم.. لكن أرض الأجداد لا تباع كما كان يقول لي أبي دائما الانسان كيموت على بلادو ولا على ولادو.  

صرفت نظري عنهم وانشغلت بعدها بقراءة رواية –عودة نبات الخشخاش- للكاتب ميشيل راجون والتي هي بمثابة صرخة ثورية لكي لا تموت الأرض، حيث تبقى المقهى بالنسبة لي مَحَجَّي الخاص للقراءة وملاذي للاستمتاع بوقت جميل، وانشغل أغلب زبائن المقهى بهواتفهم الذكية والانغماس والغوص في عوالمها، بينما استمرت المجموعة في نقاشاتها المتواصلة دون انقطاع ما يقارب الساعتين.

وفجأة خيم هدوء مذو على كل الفضاء، سكنت معه كل الأصوات التي غيبت بسبب ضجيج ولغط المجموعة، مثل أصوات بعض الطيور التي كانت تحلق بالفضاء، وأدرك ساعتها كل من كان متواجدا بأن أصدقاء الحاج عامر غادروا المقهى، بعد أن عكروا صفو سكون المكان ومزاج الحضور، غادروها مثنى مثنى، حاملين ملفاتهم بألوانها المختلفة ووثائقها العقارية المتنوعة، مثل أطفال غادرت روضتها صباحا فارحين بما حصلوا عليه من معلومات ونصائح وتشجيعات من الحاج عامر.

بينما توجه هو إلى الحديقة التي تتوسط مقهاه، وصار يتطلع الى بعض المحتويات التي كانت تزين وسطها من رحى حجرية قديمة، وجرات طينية تنبع منها مياه جب عميق متأملا إياها وعلامة وجهه توحي لمن يشاهده حينها من بعيد أنه كله حسرة على زمن ضاع منه في وهلة لم يحسن التفكير فيه، ففرط في أرضه مقابل مال استثمره وربح من ورائه الكثير لكنه لم يربح راحة باله.

يحكى أن سائقه سي المفضل يروي لبعض زبائن المقهى من أصدقائه أنه عندما يمر بالحاج على الطريق المؤدية لضيعة أجداده القديمة التي فقدت كل معالمها وصارت متجزئات ووحدات سكنية ومراكز تجارية، يميل ببصره لكي لا يرى أماكن مراتع طفولته، ودفء تربة أرضه ورائحة أجداده، ولكي لا يفكر أنه كان سببا في هجران ورحيل طيور الحقول لأوكارها وسببا في عدم عودة نبات الخشخاش لأراضيه.    

 

مقالات من نفس القسم