عن هيراقليطس والعزلة ورجال الليل… عندما تكون داخل ليلك

خالد النجار
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

خالد النجار

العزلة هي جوهر الانسان. فأنت كما يقال تولد وحدك وتموت وحدك. وعندما تحلم؛ تحلم وحدك كما قال الفيلسوف الاغريقي هيراقليطس الغامض قبل أكثر من ألفي سنة، فأنت وحيد داخل الحلم، ولا يستطيع أحد مشاركتك في الحلم. ولأن العزلة جوهرية فهي سجن الانسان الأبدي حتى وإن كان بين الآخرين. ولعلها أقسى العزلات هذه عندما تكون وسط الآخرين. مثل عزلة المصلحين الكبار والمفكرين والشعراء داخل مجتمعاتهم لما لهم من تميز واختلاف مع مجتمعاتهم في رؤية العالم لذلك قال افلاطون يظل الفيلسوف خارج المدينة حتى يغيرها؛ والمدينة في مصطلح العالم القديم كثيرا ما تعني الدولة. وكتلك العزلة التي تنشأ بين الزوجين عندما يخبوا لهيب العلاقة، أو تتفكك شيئا فشيئا وبهدوء بفعل الروتين، أو تتبخر مثل السحب وتختفي فجأة كالفيروسات؛ حينئذ تصير العزلة مع الآخر أقسى درجات العذاب.

والعزلة تعني الانفراد والانفراد يعني العود إلى جوهر الذات العميق، مكابدة الوجود الذي يتجنبه أغلب الناس. وهذا العود عسير كما يقول هيدغير… وأنت ترى أغلب الناس يهرعون إلى المقاهي والتجمعات والأصدقاء والثرثرة وسط الجموع وهو ما يعتبره الوجوديون الوجود المنحط. يهرعون للوجود وسط الجماعة لتجنب اللقاء بهذه الذات التي هي الخواء والعدم بالنسبة لهم. وإذا منع هذا الصنف من البشر وهو الغالب الأعم من لقاء الأخرين تكون عزلته القسرية درامية، تصحبها أحاسيس الحزن والوحشة والخواء والشعور بتخلي الآخرين عنه… 

يرتعب من العزلة ذاك الذي ليس له وجود لذاته. إنه موجود، يستمد احساسه بكيانه من خلال رؤية الآخرين له. ولأنه يعيش مع القطيع يتحول إلى شخصية ببغائية أي نقيض المبدع العصي عن التأقلم مع الجماعة …

ونحن نُنشّأ منذ البدء على الاندماج ومسايرة من حولنا. يقول هشام شرابي في كتابه مقدمات لدراسة المجتمع العربي: مبكرا تستولي العائلة في مجتمعاتنا على حياة الطفل؛ فهو لا يترك لوحده لحظة من الزمن فترى الأم تقول لابنتها الكبيرة روح شوف أخاك هل استيقظ من النوم…

 وهكذا وبمجرد استقاظه من النوم يتم استلامه والاستيلاء على وجوده. هكذا نبرمج مبكرا للهرب من عزلتنا الأساسية…

لذلك دعى الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشة تربية الناس على تقبل العزلة يقول:

إن الخطأ الأكثر شيوعًا في تربيتنا وتكويننا يتمثل في أنه لا أحد يتعلم، لا أحد يطمح ولا أحد يعلّم أي كان تحمّل العزلة… 

وارتبط الابداع منذ الأحقاب بالخروج المادي والروحي عن الجماعة. فالفلاسفة يعيشون خارج المدينة بالمعنى الفكري والشعراء في كل واد يهيمون، والمتصوفة في الصحاري مثل آباء الصحراء المصريين، أو في قمم الجبال المنعزلة كما هو شأن متصوفة بلاد المغرب الإسلامي، أو عزلة فيتكن شتاين في الجزر البريطانية البيضاء، أو عزلة هيدغير في كوخه في الغابة السوداء    أو انعزال ابن خلدون في قلعة بني سلامة غرب الجزائر اليوم حيث كتب المقدمة

إنها العزلة السعيدة التي تختارها والتي تعبر عن حريتك ولأنها تتضمن بعد الحريّة فكثيرا ما ترى الناس تنتقد من يستقل بنفسه ورأيه،  فهو الخارج عن الجماعة والمارق والانعزالي. وكلها صفات سلبية لديهم… مجتمعاتنا نقيض نيتشة لا تحب بل لا تشجع على التفرد والانفراد والعزلة، والاستقلال بالرأي

يقول الشاعر الاسباني خوان رامون خيمينيث إنك لن تجد في عزلتك إلا ما حملت إليها.

هم الناس الذين نموا حياة روحية داخلية بعيدا عن ضجيج العالم

إذن العزلة قدر الكائن ولكنهم قليلون من يقبلون بشجاعة على قدرهم هذا. وأنت لا تذهب للعزلة من أجل الابداع لأن الابداع ذاته عزلة، تدفعك إلى عزلة مادية هكذا ذهب ابن خلدون لقلعة بني حماد ليكتب المقدمة. وصعد رامبو إلى تلك العلية في البيت ليكتب فصل في الجحيم، وذهب هيدغير إلى كوخه في الغابة السوداء وهناك أنجز كثيرا من نصوصه لعل أبرزها كتابه دروب الحطابين يترجمه الفرنسيون

 Les chemins qui mènent nulle part أي الدروب التي تمضي إلى اللامكان

وإذ يكون الانسان داخل هذه العزلة الروحية عندما يكون داخل ليله يستوي لديه الأمر أن تكون هذه العزلة مفروضة أو إرادية لأنه في تلك اللحظات يكون العالم الخارجي قد انتفى بالكامل.

 

 

 

مقالات من نفس القسم