أحمد طيباوي
في رواية “مع النساء ضد الحب” التي صدرت عن دار ديوان بالقاهرة مطلع العام الجاري، تمتزج شخصيتا الكاتب وبطله حتى يظهر للقارئ في كثير من الأحيان كأنهما واحد، إذ يصعب الفصل بينهما على طول المتن. يقوم الروائي محمد جعفر بتضمين مقتطفات من سيرته الذاتية، يومياته في أثناء الحجر بفترة وباء كورونا، سفر الوالد إلى باريس من أجل العلاج ووفاته بعد عودته، مرض الوالدة وتعافيها، العمل، تجواله في المدينة.. في خط سردي مركبّ، حيث هناك كاتب آخر من اختراعه، يشبهه حد التطابق، أعاره اسمه وهويته، وبعض هواجسه، نقاط ضعفه وعقده، وتطلعاته في صناعة سيرة أدبية مجيدة. يتّحدان أحيانا وينأى أحدهما عن الآخر في أحيان أخرى: الكاتب الباحث عن رواية تشبهه والناقم على الوضع الثقافي والحالة العامة للبلد، مع رجل آخر من اختراعه، فقد الثقة في الحب وراح ينتقل من امرأة لأخرى ليمارس انتقاما قاسيا من الماضي أو ليملأ خواء يتسع بلا توقف.
تتمحور الحكاية حول العلاقة مع نوال، الموظفة المطلقة التي أحبها على الرغم منه، تعلق بها حدّ التورط فيما كان يعتبر نفسه محصنا بما يكفي ضده، ثم أكل الشك قلبه فخوّنها دون بيّنة ونفر منها، ثم عاد وتخلى عن شكوكه واستغرق في حبها مرة أخرى.. أما باقي النساء قبل أن يعرف نوال وأثناء علاقته معها، لسن سوى روافد لحب جاءه متأخرا وعلى غير ما تهوى نفسه، أنكره مكابرة، قبل أن يعترف به في الأخير.
تحققت شكوكه في النهاية، وانكشف سرّ نوال، التي كانت امرأة متزوجة من رجل يكبرها بسنوات كثيرة، تبحث عن تعويض عاطفي وحسّي مع من هو في سنّها. وفي الوقت الذي يعرف فيه الرجل الذي كفر بالحب بأنه كان مغيّبا عن حقيقة خليلته، التي صارت بمرتبة الحبيبة، تُفتح أمام الكاتب آفاق جديدة وزاوية نظر لسردية فائقة فنيا وإنسانيا يتجاوز بها منجزه الأدبي السابق، إذ يعرف أن خيبة العاشقين أرض خصبة للحكايات، وكل دمعة نزلت من أعينهم تروي قصة.
هناك تجريب على مستوى كل من الموضوع، أقصد العلاقة بين الكاتب وأبطاله، وعلى مستوى البناء الفني حيث الحد الذي يفصل بينهما رفيع وغير موجود كما قد يبدو لمن يطلع على هذه الرواية. ولا أتخيل بأن الروائي محمد جعفر كان غرضه تتويه القارئ أو تضليله بطرحها على أنها رواية وهي حسب قراءته سيرة ذاتية أو يوميات.. بل كان خيارا فنيا ارتأى أن يلقي الضوء بواسطته على الحياة الواقعية كما هي من جهة بما تتضمنه من مواقف وعلاقات وعواطف وأفكار، وعلى الحياة المدركة أو المتخيلة بكل التحيز النفسي والإدراكي ونظرتنا لأنفسنا وفق تجاربنا الإنسانية التي عشناها.
يتوارى الرجل الذي كفر بالحب في آخر الرواية، ليعود الكاتب. يحدث فك الارتباط بينهما بشكل غير معلن، دون صخب يصاحب نصرا أو هزيمة، أو لعل مدركاته تصالحت مع الزمن بعد أن علّمته الوقائع ما يجب أن يعلمه. يخبرنا الروائي محمد جعفر -بعد أن ينجح في تخطي شخصية روائية كادت أن تتمرد عليه- كيف أن بلوغنا للسلام النفسي في الأخير هو غنيمة مرضية وتستحق أن نتجاوز من أجلها عن كل شيء. الكتابة الجميلة قد تكون أحيانا ثمرة تجارب قاسية، مع اقتدار فني، مثلما تحقق في رواية “مع النساء ضد الحب” التي بدأت بمثابة إعلان هزيمة فادحة ثم انتهت للتأكيد على أن الحب هو سفينة نوح هذا الزمان.
من أجواء الرواية:
ولم أصمد بعيدا عن عالمي الذي لذت به، لهذا فتحت الحاسوب ثانية، معوّلا على قراءة ما سبق أن سودته، لكن ما إن تصفحت شيئا من البداية، حتى تلاشت قدرتي على الانتباه والتركيز. محاصرا بوهني، استسلمت، وإن لم أعرف كيف أكبح تفكيري في نوال. وكنت أعاود استعادة لقائي الخاطف بها هذا اليوم عندما تساءلت: “مـا مـعني أن أنتظر كل هـذا الوقـت لأكتب؟ أم هـل كان يجـب أن تظهـر نـوال حتى أعـاود فعـل الكتابـة؟”
وروايــة مقابــل امــرأة وعيــش في الخــذلان تبــدو معــادلة غير مفهومــة، لكنهــا مستساغة، مع ذلك فإني لم أستطع الجزم والحسم، أيضا من المحال أن أستبق الأحداث وأراهن على قيمة ما أنجزته، فقد حصل معي ذلك كثيرا وأنا بصدد طرح أعمال أخرى سابقة لم أبلغ منها إلا قبض الريح. وإن كان هذا لا يجعلني أشك للحظة أن ما قدمته جاء مختلفا ورهيبا، وأنه لا يشله قط ما سودته سابقا، كما أنه أيضا زاخر بالحياة شفاف وصادق.
……………..
*روائي من الجزائر