عن مينا سعيد وارنست همنجواي والغابات وأفعال الحركة

الغول والعنقاء والخل الوفي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

باسم طه

كانت غابة فارغه من قبل وصول ارنست وبندقيته. هكذا ارتدي دون كيشوت الدرع ومشي فرسه بالقرب من تلك الغابة، لكنه رجع. هكذا، ارنست هو اول من دخلها، كانت هناك غزاله مفتون بها، لكن بعده مباشرة، دخل مينا سعيد[1].

كان مينا مرتجلا، كان معه فَرْد، هاو وليس صياد! لكنه اراد ان يقابل ارنست ايضا، لم يعتد على التردد كثيرا. وبالفعل، تمت المقابلة! كان يروي عن همنجواي دائما، استعمر ارنست افكاره، فقرر ان يذهب ليقابله. ولكن قابلته رصاصه انطلقت بجوار اذنه، اصمته لدقيقه، ولما شعر بالهلع، كان ارنست يفحص عينيه، هكذا اكلا معا الغزالة الفاتنة.

يأكل ارنست بيديه، قال لمينا مباغتا: “علك لا تدري ما الذي جعلني اصطاد تلك الغزالة، لم اندم مطلقا على صيدي، دائما يكون شواء لذيذ! سوف تأتي غزاله اخري في يوم اخر، اذهب بها لزوجتي، واخري اذهب بها لعشيقتي، وأُخَر اقدمهم كهدايا، سوف اهديك واحده في يوم ما…”

كان مينا مرتجلا تماما، لا يعرف ما سوف يحدث لطبقه، فهمنجواي يأكل كما يكتب، بسرعه وشراهة وبساطه، لم يعتد مينا ذلك، ولكن قرر ان يفعل مثله. ذلك حينما انهي ارنست كلامه، ضحك من طريقه مينا في الاكل مثله، كاد يحشو فمه على اخره، لا يقدر على المضغ السليم، حينها اعطاه همنجواي بعضا من الخمر وأكمل اكله كأن لم يحدث شيء.

تحرك مينا بنظره الي عيني همنجواي، قال لي انه سوف يذهب لينقذه! حاولت التعجب، ولكن لم يفلح ولا الضحك ولا المرح، سوف ينتحر، وحينما سألت مينا عما سيفعل، قال لي انه سيذهب اليه ويقول له ” إنك ستنتحر بعد عام من الان… “، هكذا قالها بعد ان بلع أكثر مما مضغ، ولما سمعها ارنست، ضرب الطبق بيده فأسقطه ارضا، فقد كان يخطط لذلك الان، تأكد حينما تذكر كلام عرافه قالت له ان روائي مصري سيأكل معه الغداء قبل ان يتوفى بعام، حينها رمي أُجرتها على المنضدة وتذكر عالمة المصريات الفاتنة، فقد تزوجت من مصري بعد ان تركته بوقت قصير!

لم يفصح مينا عن شيء أكثر من ذلك، حتى عندما بدى ارنست في حالة يرثي لها، فقد أكمل اكله الي ان انتهي منه بعد ذلك بنصف ساعة ثم جمع الاشياء ورجعا الي بيت همنجواي. كان مينا يفكر في الطريق عن كيفية انقاذ ارنست من حالته الانتحارية… دعوني اروي لكم ما حكاه مينا حينما رجع من رحلته مع همنجواي.

قال مينا سعيد: ” انه سوف ينتحر، لَكَم احببتُ حياته واحببتُ ايضا غرضه في الانتحار، فقد أقنعني بموقفه، كان نبيلا من نبلاء روما، وكل ما اقترفه هذا النبيل انه عرف الحياة، فأصبح شحاذا نبيلا، لن يهتم به أحد، فأمرأته هي العاشرة، أسيهتم إذا ماتت اي من التسع الاخريات… لن يهتم، ولن تهتم العاشرة كثيرا! …..”

توقف حين ظهر على وجهي بعض الذهول والحيرة، ثم اكمل:
 ” قال همنجواي عندما أقررت له بما سيفعل بعد سنه، انه يحب ان يصنع التنبؤات، فهي الشيء الثابت الوحيد في حياته، فهو مغامر لدرجه انه يشعر بأن المفاجآت تشعر بالحيرة ألا تفاجئه… أسيفاجئها هو…. لم يتكلم عن ذلك، لكنه تكلم عن النبيذ… لم يحب يوما أكثر منها”… ثم سكت.

رأي مينا ان النبوءة تحققت، وأسرع ليغير الامر، قرر ان يمكث معه عدة ايام، أيا كان ما سيحدث، فقد عرف همنجواي كل شيء عنه، قرر ان يكتب قصة أسمها افعال الحركة، استطاع انهاء جزء كبير منها قبل ان ينام، لم يتذكر طعم اللحم الذي اكله!  فقد اراد ان يحلم، لكنه استيقظ على ضربه بندقية في جنبه، كانت امرأة مصرية، لم تهتم بشيء، فقد جاءت ايضا الى همنجواي لنفس الغرض تقريبا، لم يعرف مينا انها ناقده الا بعدما رأي عينيها، كل ذلك حدث بعد ان افاق بخمس دقائق، فبعد ان علم بكل ذلك، رأى نفسه يلبس لباسا داخليا ابيض واسع، وتلك الناقدة تتصنع السُكر، نظر مينا في عينيها فجأة، كانت تدغدغ مقلتيها بأي شيء لتنقُده، … لم يحك مينا ما تبقى من تلك الليلة، اظن انها لم تقدر ان تنقُد عينيه!

أيقظهم همنجواي، كان عاريا تماما، كان مختلا يزمجر ككلبة عجوز عمياء، كان ضخما ظله وهو يغطي صدر مينا العريض العاري، اراد مينا ان يتم احتجازه بقلب ذلك الرجل، كانت الناقدة هناك في الحمام، لم يرد ازعاجها، فقد كانت تدندن اغنيه تحت قطرات الماء الدافئ، ولما رأي دموع همنجواي، تساءل عن دفئها، فقد حدق في عينيه واصابها بعضا من دموعه!  بعد ذلك بقليل، خرجت الناقدة (أسماء عبد السلام) ذلك هو اسمها، ورأتهم يحضنان بعضهما وهما منهارين… رأت ان تجفف شعرها وتصعد لتقرأ قصه مينا غير المكتملة.

نام ارنست في حضن مينا سعيد، رأي مينا ان يغطيه بغطاء قماشي ويمسد له شعره، أحس انه يحتاج الى رفقة، فمغامرات ذلك الرجل حقا قاسية، كانت مدينته قاسية، قاهرة مينا قاسية أيضا، وتلك الناقدة التي…… يا إلهي، فقد نسى مينا أسماء، هكذا تذكرها، فتحرك بهدوء ناحية الحجرة، تاركا ارنست نائما. تسحب ككلب من الممكن ان ينقض على شخص ما في أي لحظه، كانت تمسك الفَرْد الخاص بمينا، كانت تلعب به كدمية، لذلك لم يستطع الكلب الانقضاض، فرجع للوراء ثلاث او أربع خطوات وكح ثم حاول الامساك بيدها، لم يمسك بها، وانطلقت رصاصه خرقاء ثقبت دماغ ارنست قبل ان تدوي فسمعا صوته يجري مذعورا، شد مينا اسماء واختبئا تحت السرير بعدما سحب منها الفرد واخفاه في جيبه. رأى مينا اقدام همنجواي تقترب من الطاولة، كانت ريالته تسيل مثل كلب عجوز، وكاد يخرج ما في جوفه عند كحاته البطيئة. امسك افعال الحركة في يده، ظن مينا انها قصه خرقاء، غير جديرة بالترجمة، و ….. توقف مينا عن التفكير حينما مسّدَتْ أسماء شعر رأسه ببطء، شعر كأن همنجواي قد حصل على صيده، شعر انه نجح وشعراته بين أصابعها. شعر بأن هناك شخص يحدق في المشهد، رقد همنجواي بجانبهم، ثم بكى!

استيقظ في الليل البارد، كانت أسماء تضع اصابعها في شعر ارنست. اصاب مينا بعض الشلل حين أحس بلعاب الكلب العجوز على وجهه غزيرا. قد توالت الافكار في دماغه قليلاً.. قليلاً، فشد أفعال الحركة ليكملها من أجل همنجواي. أحضر النص وكتب حتى الفجر، ووضع النص بعيدا بين ملابسه، نام على السرير الكبير في ذلك القصر حين شعر بنفسه مرهقا. أرهقه التفكير في ملابسات الموقف. قد يتمنى مصرية، لا يتمناها أحدنا، لكن همنجواي يحتاج لناقدة تهدهد له حركته فيصير أهدأ، وأقدَر على الحياة! لكن افعال الحركة ما تزال موجودة، انها هنا لتنقدني انا، ولكنها لم تقدر لأن عيني أصابتها بالملل، أيا شريف هنا، دعونا من الفقد، الاخذ السيء لمرتكزات النص، الاستعارة المكذوبة لهداهد صائحة هادئة مقيتة، تجعل من نصك شفتيها ورق لا يكاد يبول عليه كلب أحمق عجوز في شارع قاهري فقير ومهجور وقذر… هكذا تفكر، ولكنها قطعت أفكاره حينا آخر… قالت له ببساطة وعينيها ملأه بالدموع المضطربة…. مينا.. انه مات… لم ينتحر، … لم ينتحر العظيم، أيا لصوص الشعر الاسود ومقاولي الافكار المهتاجة للاهتمام، ان كتبه لا تبيع الآن… لن يكون هو في مأساة…. مرفهٌ هو…. مدملك صدغيه ومسلسل ظهره… ببساطة ….. لم يدعها تكمل كلامها، وللمرة الثانية، ترك أفعال الحركة وراءه، وترّجل غير قادر على الهرولة، وذهب للخارج فرآه يلعب مع كلبه العجوز كالعادة، كان رقيقا، ما لأفعال الحركة وماله؟!!… انها معركة وهميه بين ابطال وهميين على الحياة… هكذا زعق مينا …. (أين أفعال الحركة)، لم أتي هنا لأدعه بدونها. تذكر ذلك، فذهب لها ووجدها تقرأ آخر فقرة من النص، كانت تبدو كطائر صغير وجميل في عشه يرقد وحيدا، كلنا نحتاج الى كتاب….. أسكت ايها الصغير، انت لا تدري اي شيء، قد اضطربت امعائي جراء الخوف من رمي النصوص كورق زبالة ترقد الكلاب عليه. وصلت بي الحال أن اضطررت لأخد بعض الادوية لأحضر حفل توقيع روايتي. تهدهد لساني فتتوعك بطني وتظل تكركب حتى تسمع الاصوات من على الميكروفون. لكنها تمتلك يدا جميله، لا تكتب بها الا نقدا…. هكذا أمسكها من رقبتها الطويلة، فوجدها عارية تماما، حتى أن نحرها بدا فاتناً، قالت له… فتنتني أفعال الحركة.. فانتظرتُ حتى تأتي وتمسكني من … واشارت الى صدرها….

حقا! كله ارتباك، فحينما قابلت أسماء، اعترفت لي بأنها تعرت من كل شيء، كانت تعرف ما سيفعله مثل ما كانت تعرف أن صدرها سيعجبه…كانت تقول دائما ان الناقد له بصر فج وهي تشير الى كنكة قهوة تكاد تفور على موقدي! وقالت انها لا تحبها مضبوطة….. لم أرها بعدها، ولكن رأيت أفعال حركتها موزونة ومحسوسة جدا. كانت فائقة الوصف، تدغدغ الكلام بشفتيها قبل القائه…. وقد كان ذلك بعد ان نُشرت افعال الحركة كقصة مكتشفة جديدة لهمنجواي!

ليس من اللازم تحقيق المعادلة الصعبة واعطاء تنويهات خليعة عما فعله مينا معها بعد ذلك. فهمنجواي قد كاد يأكله الاسد، لكن كلبه افتداه ووقع فريسة سهلة للأسد حتى يهرب ارنست. جاء باكيا ايضا، ووجدا بينهما ارنست نائما، هلعا…. حينها تذكر مينا أنه عاري، ولكنه لم يرتد شيئا، ارتدت اسماء عباءة سوداء واسعة، بدت فيها كساحرة مغربية قديمة. طبعا لم تعرف أنها تشبه العرافة. ولم تعرف أن مينا لا يعرف، لكن الظروف اقتضت ذلك. أخد مينا يراجع أفعال الحركة عاريا، بينما شغلت اسماء موسيقى جاز رخيمة على الجرامافون.

وضع مينا أفعال الحركة في مكان عميق بداخل خزانة همنجواي للأشياء الثمينة، وقرر بعد ذلك أن يرحل! فلا نفع ولا جدوى من الذهاب الى الغابات طالما توجد تعاسة صارخة ومرارة سقيمة.. قد فكر ان يوقظه ويقول له… قد كان يا ارنست وانتهي … فلتبقى… إنك عظيم.. ثم كوّر نفسه بذراعيه وبدى كطفل قد نزل للتو على الارض… دخل الى الحمام ونام هناك في حوض كبير ممتلئ بالماء الدافئ… فشعره ملئ بالغبار ورأسه مشوش… نام هناك وانتهى الى اسماعه حركة ما… لما أفاق تحول الى صخب شديد… اغنية عالية الصوت.. ارنست يرقص عاريا وهو يقرأ ما تلته عليه العرافة.. كانت اسماء قد أتَمّت أفعال الحركة، وسلّمتها لإرنست… كانت تعرف بكل ما يدور حول مينا… لكنه يعرف أكثر….. لكنه -حتى- لا يعرف لمَ يرقص ارنست!

رأى المشهد امامه مرتين… رأى همنجواي يتحرك مرة ويهجع اخرى… رأى العظيم ورأى البسيط.. توتر مينا كعادته…توتر أكثر وأكثر حين فكت اسماء رداءها وبسطت يدها لمينا تدعوه لمشاركتهما افعال الحركة… ولما لم يتحرك، ذهبت ورقصت مع همنجواي بعدما أكمل القصة وانتشى حتى تحول الرقص العشوائي الى حفل جنسي بديع. موت صغير. انتحار. حياه بسيطة بين رجل وامرأة. تلك هي الحياة يا مينا.. كان مينا غير عابئ، حتى مع دعوة اخرى من فخدي اسماء… لم يقبل… لم يرفض… اراد الخير… ففي اخر الحكاية، فرح مينا لفرحتهم، لم يهتم بأسماء ولا بإرنست.. ولا بنفسه…فقد اعتاد الرحيل، لقد غيّر ما استطاع تغييره، غير مصير همنجواي لعدة ايام.. هكذا، وفي وقت الفجر، حين كانت الموسيقى الجسدية تعزف عالية، هدأ الجو، وراح مينا يتجول في الغابة ليخرج كما دخل… لكنه ما ان خرج، حتى سمع طلقة مدوية تصدر من ناحية بيت ارنست، همّ بالرجوع…. وجد اسماء تعود مسرعة، مبللة، عارية، … هلعة…. قالت… لقد أطلق رصاصة على رأسه لأنه ظن ان هناك حشرة بداخلها.

………………………………….

[1]مينا سعيد، هو روائي وسينمائي شاب من القاهرة.

*من المجموعة القصصية “الغول والعنقاء والخل الوفي” تصدر قريبا عن المجلس الأعلى للثقافة

مقالات من نفس القسم