علاء دائم البحث عن موضوعات جديدة للمجلة، يقظ متحمّس، قد يصل به الالحاح على أصدقائه للكتابة فيها إلى درجة “الزن”. عندما أـذكر زمن “أمكنة” الأول هذا، وهو يبدو الآن زمنا آخر بعيدا، أتذكر بشكل مبهم قعدة على قهوة “التكعيبة” في وسط البلد، جمعتني بعلاء وسلوى وأصدقاء آخرين من الاسكندرية. لا أتذكر التفاصيل، لكني أتذكر إلحاح علاء علي كي أكتب في المجلة، وأتذكر شعورا غامرا بالألفة والطمأنينة رغم حداثة معرفتي بهذه “الشلة”، قد يكون نبع من تشجيع علاء المتحمس لي ومن القوة الهادئة التي تبثها عينا سلوى.
كان ذلك من أكثر من عشر سنوات ولكني إلى اليوم كلما أرى علاء، يفعل الشيء نفسه، بدأب وحرص شديدين: يأتي إلى القاهرة ويحكي عن سفرياته من الاسكندرية إلى النوبة مرورا بسيوة، في بيجو 504 بيضاء تقودها سلوى، وعن حوارات أجراها مع سكان المناطق التي يسافر إليها. ثم يسألني عما أنوي كتابته للمجلة. يسأل ذلك باهتمام صادق، وبلطف شديد، وأحيانا تنتابه خيبة أمل مكتومة، مستنكرا تكاسلي. حينها يُظهر على ملامحه عدم الرضا، فيشن مضطرا حملة إلحاح منظمة، قد تأتي بثمارها وقد لا تأتي. وعندما يصدر العدد أخيرا يتصل بالأصدقاء ويقابلهم على إحدى مقاهي وسط البلد ويوزعه عليهم أو بالأحرى يبيعهم إياه، فهو لا يجامل أحدا، وكنا جميعا ندفع الجنيهات العشر ثمن “أمكنة”. عدم التساهل هذا هو ما ضمن استقلالية المجلة واستمرارها، فالمجاملة كانت كفيلة بأن تقضي عليها من ثاني أعدادها.
أتذكر أنني سنة 2005 شاركت كمترجمة في “رحلة إلى أماكن الطفولة” نظمها المركز الثقافي السويسري في القاهرة وجمعت أربعة كتاب مصريين، أحمد أبو خنيجر وأسامة الدناصوري الله يرحمه وحسن عبد الموجود وعلاء خالد وكاتبين من سويسرا. في الاسكندرية، قادنا علاء إلى أماكنه الحميمة، فيلا خالات أمه في ضاحية كينج ماريوت، “البيت الصحراوي لسنوات الطفولة” الذي رفض أصحابه الجدد أن نزوره، الجاليري الذي يعمل به، والمقهى على البحر الذي كان مكان لقائه المفضل بالأصدقاء.
علاء من الأصدقاء الذين يشجعونني على عدم الاكتقاء بالكتابة الصحفية والأكاديمية. علاء من الأصدقاء الذين دائما يحثونك على الإنتاج وإعطاء أفضل ما عندك، هو من أولئك الحريصين على دفعك إلى تجاوز العقبات والكسل، الحريصين على السؤال الصادق عما يختلج بداخلك من مشاعر مبهمة قد يمكن تحويلها إلى نص قصير أو حتى كتاب، وسيتوقف دائما ليتأمل معك ويحاول من خلال المناقشة أن يساعدك على بلورة أفكارك والمضي قدما. كذلك علاء من الذين يعرفون طعم الغياب. حثني مرارا على الكتابة، بعد موت أبي. حثني على كتابة نص أتممت نصفه ولم ينشر بعد؛ وهو إن نشر يوما، فستستهله هذه الأبيات من ديوان “كرسيان متقابلان”:
بعد ثلاث عشرة سنة من وفاته
على فترات متباعدة
أتذكر أبي.
في كل تذكر،
أقف بجانبه، خلف نافذة
خفيفين من رابطة الأبوة والبنوة،
من جاذبية الحياة.
كائنين التقيا صدفة
وتحاشيا طويلا أن تصطدم عيناهما.
في كل منهما،
مقدار حبة بيضاء من العتاب.