عن رواية “باب الليل”

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

" لم يعد يعنيها أمره.. لكنها تحاول أن تطرد حكايتها بحكايته"

هكذا قال الراوى عن نعيمة فى استهلال رحلته عبر الحكايات المتتابعة والمتداخلة لشخصيات المقهى وبحثه خلف أبوابهم الموصدة وفتحها بابا تلو الآخر, فتحها ببطء وتأن كى لا تحدث (تزييقات) مزعجة. لا تبدو نعيمة وحيدة فى شعورها هذا, فالكل هنا يملك حكايات يود أن ينساها أو يطردها أو يخفيها فى ظل صخب المقهى أو بمخابئ عاهراته أو يدفنها على سرير العشق بآخر الليل أو فى لحظات النشوة والاصطياد المستمرة. الكل هنا يطرد حكاياته بحكايات غيره وينقلنا معه من قصة إلى أخرى ومن تونس إلى فلسطين إلى ليبيا إلى لبنان وسوريا وألمانيا.

ستلاحظ من نظرة سريعة على تعليقات قراء رواية (باب الليل) بمواقع التواصل الاجتماعى أن هناك إجماع تام وكامل بين المعجبين والمنتقدين للرواية على حد سواء فيما يخص شاعرية اللغة وأناقتها وتفردها, فهذا هو الملمح الأبرز والأكثر حضورا ولفتا للنظر عند دخولك لعالم تلك الرواية المليئة بسلاسل لا نهائية من التشبيهات والأوصاف الممتدة بتلك اللغة السلسة المنمقة المتدفقة.

عندما قرأت رواية (أحلام شهرزاد) لد. طه حسين, لم أحبها, أصابنى الملل ولم أستمتع كثيرا بالإطناب والإطالة المفرطة, فقدت القدرة على التتبع وسط هذا الكم من الأوصاف والتكرار, ثمة عدم توافق حدث بينى وبين لغة طه حسين الأدبية. لم ينتابنى ذلك الملل مع رواية وحيد الطويلة رغم انتهاجه للنهج نفسه, الإطناب والتوصيف والتكرار, بل أننى توقفت بلحظة ما, تحديدا فى الفصل المعنون ( باب العسل), وتخيلت نفسى أعيد كتابة ذلك الفصل بكل تفاصيله دون نقصان, ظننت أننى لن أزيد عن الأربع صفحات, قد أطنب وأكتب خمسة, ولكن عشرين صفحة فى وصف وتفصيص تلك الشخصية وعلاقاتها, عشرين صفحة رشيقة دون ملل كانوا إشارة واضحة عما نحن بصدده من كتابة متمكنه. لن يتوقف الأمر عند باب العسل ولكنه سيتكرر بكثير من الأبواب والمواقف لاحقة.

أذكر أننى قرأت مقالا بعام 1998 بعد فوز ستيفن سبيلبرج بجائزة الأوسكار لأحسن مخرج عن فيلمه إنقاذ الجندى ريانيفند فيه الناقد أسباب فوز المخرج بالجائزة, وكان تركيزه على أن المخرج أستطاع أن يصنع من سيناريو بسيط فيلما طويلا يمتد لأكثر من الساعتين والنصف, لا تخلو دقيقة فيه من المتعة, وأكمل الناقد قائلا أن أى مخرج آخر سيحاول تحويل ذلك السيناريو إلى فيلم بنفس الطول سيصنع فيلما مهلهلا مملا ضعيف البنيان. ولكن سبيلبرج, ومهارته فى رصد التفاصيل, وضبط الايقاع, جعلته يستحق الأوسكار بذلك العام. بعدها بعدة أعوام قرأت نقدا مشابها للحب فى زمن الكوليرا, الرواية التى قد تحكيها كاملة فى عشر أو عشرين صفحة, ولكن موهبة ماركيز الاستثنائية مكنته من كتابة مئات الصفحات لتلك الرواية شديدة البساطة, والشرط الأهم, دون أن يتسرب إليك الملل.

الأمر مماثل بروايتنا التى قبض فيها الكاتب تماما على الرتم والايقاع. كاد الملل أن يتسرب إلىّ مرة وحيدة, على باب النار, ولكنه سرعان ما زال مع الفصول اللاحقة..

ورغم الاختلاف الكبير فى منهج الكتابة إلا أن ذاكرتى استدعت فى بعض اللحظات روايات محفوظية شهيرة مثل ميرامار, فالروايتان من روايات المكان, مكان جامع لأشخاص متباينة تربطهم خيوط معقدة من العلاقات المتداخلة. رغم الاختلاف الكبير بين نهج نجيب محفوظ فى الكتابة ونهج وحيد الطويلة, إلا أننا قد نجد شيئا مشتركا بين ماريانا ونعيمة, أو بين عامر وجدى وأبو شندى, أو حتى بين زهرة وحبيبة,ولكن المشترك الحقيقى والأساسى والأهم بين الروايتين هو الحدث السياسى والتاريخى الظاهر بجلاء على خلفية الأحداث, فى الأولى كانت ثورة يوليو 1952 وتحولات المجتمع على أثرها, وفى الثانية كانت انهزام الثورة الفلسطينية أو أنحسارها, فى الروايتين تبدو القضية وتوابعها واضحة جدا ولكن من خلف ستار, دون تكلف, دون إدعاء, دون صخب مفتعل, ودون صراخ.

استمتعت للغاية بقراءة رواية باب الليل, وأظن أن قراءة ثانية ستكون أكثر امتاعا بعد تخطى ربكة تداخل الشخصيات المتعددة فى القراءة الأولى.

 

مقالات من نفس القسم