لتلك “الأحصنة الهرمة نقول”: إننا نوفر طلقاتنا ـ إمعاناً في تعذيبهم ـ حتى تجيئهم رصاصات الرحمة من سيدهم الديكتاتورـ كالعادة ـ وللجراء الصغيرة البشرى، فسوف نداوم على إلقاء الفتات الذي تعودوا عليها حتى يشتد عودهم، وعندها سوف تبعوننا هازين ـ أذنابنهم ـ كالعادة.
إن الخروج من أطر تلك الثقافة الشمولية السلفية يعد شرطاً أساسياً لبدء عصر جديد من الإبداع المتحرر من قيم “ما قبل الأدب” تلك التي سادت الواقع الثقافي المصري، منذ ما بعد الخمسينيات وحتى الآن.
إن المساحة التي خلت بحصار وتصفية بعض أطراف القاهرة السلفية، قدمت إلى مؤيدي وممثلي الثقافة الشمولية، ولم تستطع القوى الليبرالية والديموقراطية توسيع أرضها ـ كما كان متوقعاً ـ لهذا، فربما نستمر لسنوات، تفسد أسماعنا تلك الرطانة الفاشية النخبوية، التي تتفق تماماً مع أطروحات الفصائل الإسلامية المتطرفة، وبعد استبدال المطلق الديني بالمطلق القومي العربي المشترك، أو بالاشتراكي الديكتاتوري في أحسن الأحوال، وفي الحالتين فإن ذلك الشيء الذي يسمونه الشعب، سيظل في حاجة إلى الهداية، إلى دروسهم وخرائطهم، سيظل هناك أئمة تختلف رطانتهم، ولكنهم ـ جميعاً يشيرون إلى نفس الطريق.
شعراء “الجراد” لا يمثلون هامشاً في الشعر المصري، إنهم تيار حي ومتكامل، له جذوره في الثقافة المصرية والعالمية، وهذه الظاهرة تنهي “تاريخ” العقود الشعرية في مصر، وتنهي “شعرية الخنادق” التي استهلكت مععظم شعراء السبعينيات، فالهامش يسعى بحكم تكوينه وموقعه ـ إلى توسيع رقعته واحتلال المتن، أو ينهار بانهيار المتن كما حدث مع الهامش البيروتي في الخمسينيات والستينيات حيث انهار بانهيار المتن الذي كان يناوئه ـ وهو المتن العربي والناصري والبعثي ـ. والملفت للنظر في نصوص في نصوص شعراء هذه الظاهرة، اختلافها اختلافاً كبيراً بين شاعر وآخر، حيث لا يوجد ما هو مشترك بينهم ـ من حيث الأسلوب والبناء ـ باستثناء الأهداف الرئيسية، والنظرة الكلية، وهذا ما يثير انزعاج بعض القراء والدارسين من الذين يبحثون عن أطر عامة محددة ، مثلما حدث مع عصور سالفة كالكلاسيكية، الرومانسية، الواقعية، إلخ.
لأننا نعتقد أن الثقافة المصرية تعدد، أي أنها تتكون من عدة طبقات، تكونت بفعل تاريخ مصر الممتد في الزمان والمكان، وفي تلك الثقافات والحضارات العديدة التي عاشت على أرض مصر، بداية بالفرعونية وحتى الثقافة الإسلامية العربية، مروراً باليونانية والرومانية والقبطية، وإن لسان مصر العربي لا يعني اندثار الثقافات الأخرى وفاعلياتها في الوجدان المصري، كمان أن اللسان الفرنسي في أفريقيا الشمالية والغربية لا يعني طمس هوية هذه الشعوب، السابقة على سيادة هذا اللسان الوافد.
لذلك فإن كل محاولة لتحديد مسار الثقافة المصرية، باتجاه مكون واحد من مكوناتها، تعد محاولة ضد الثقافة المصرية وتحجيماَ لفعالياتها، وتدميراً لتراث إنساني لا يمكن تعويضه، مهما ادعت هذه المحاولا من دعاوى فضفاضة، ومهما أطلق عليها صبيانها من صفات ثورية، كما حدث مع صبيان حركة يوليو وكتابها، حيث اقترفت في حق الثقافة المصرية أبشع الجرائم باسم الاشتراكية العربية مرة، وباسم القومية العربية مرات.
فرغم “تطهير!” المراكز الثقافية والجامعات المصرية من أهم كوادرها، وتحويلها إلى مؤسسات أيديولوجية تابعة لنظام الحكم وأجهزة أمنه، ورغم اعتقال صفوة مثقفي مصر لسنوات طويلة، وتحويل معظمهم بالتعذيب إلى مجموعة من مشوهي الحرب الفكرية، التي شنها عليهم النظام، وما زلنا نجد أن هناك من يعتبر أن رفض هذه الفترة وتوابعها بثقافتها المشوهة ذات الطابع الأمني يعد مرتدا ويعد مشبوها، كما أن الخروج على قيم هذه الفترة المصرية يعد “انتكاسة حضارية”، وإجهازاً على قدرة الوطن على الرفض والمقاومة.
الذي يميز هذا العصر هو تأكيد التعايش بين الثقافات المختلفة أي أن “العلاقة ” لا الاندماج هي أساس الوحدة في عصرنا، العلاقة بين الفرد والآخر، وبين الثقافة والأخرى، لهذا فإن انحياز الإبداع إلى الشخصي، والنسبي لا يميز الإبداع فقط، بل يميز العصر الذي نعيشه بكامله.