نهى محمود
الوحدة.. إحساس مدهش بالسكون.
رائحتها تشبه نسمات الصباح التي تهمس في كل لفحة هواء، انا لك وحدك، لم يتشاركني بشر كثيرين.
لازلت طازجة قادمة من بعيد، شابة، حلوة، رشيقة.
أن أكون وحدي، أقطع شوارع أحبها أسفل شمس لطيفة كتلك التي تستأذن لتدخل البيوت، لتطرد الرتابة والطاقة السيئة وتطبع قبلات على الفراش والوسائد. أعبر الطريق، أقف في لحظة عشوائية لأتأمل طفلة تعبر الشارع أو “أبو قردان” زحف العمار على مساحته فسار يمشي على الأسفلت مثلنا عابرا طريقا سريعا، أسمعه يلعن ويسب البشر، ينظر نحوي فأبتسم له معتذرة عن سخافتنا نحن البشر.
الوحدة الجميلة التي تعني أن أجلس في مكاني المفضل على الأريكة، أحتضن “مج” به أي شيء أشربه على مهل في ساعة أو أكثر. لا أفكر في شيء جدي، لحظة تبدو خارج الوقت، يتوقف فيها الزمن وجزيئاته، استمتع بنفسي. أحتضن المج، أجلس بالطريقة التي أحبها طاوية ساق تحتي.
الوحدة التي تبدو مثل تذكرة سينما وحيدة في يومي المفضل للذهاب لمشاهدة الأفلام في حفلة صباحية مخفضة السعر، مهما كانت حالتي المزاجية، أعرف اني سأبدو رائقة وسعيدة بعد المشاهدة.
وحدي في السينما، وفي أتوبيس مدينتي البعيدة ومعي سماعات التليفون واغاني عمرو دياب وكاظم الساهر.
وحدي في البيت، أتمشي في طرقة أألفها وأحبها، تذكرني بأخرى في بيت طفولتي حين كنت أحمل مرآة كبيرة واقلبها نحو السقف فتظهر المصابيح الطويلة، أعبر بينها، يدق قلبي من الإثارة ويبدو الأمر وكأني أتمشي على الحائط. في كل مرة اعبر ممر البيت أتذكر لعبة طفولتي تلك.
الوحدة الجميلة، أن أسألني هذا الصباح، عما أنوي طهيه للغداء..
تفضل الوحدة في معظم الوقت سلطة التونة مع خبر توست أسمر.
الوحدة على شاطئ البحر، تمكني أن افتح له قلبي، وأهمس باسم حبيب يسكنه.
يسمعني البحر، ويخبرني أنه يعرف ويتمنى.
الوحدة لها عين حلوة، تكشف الجمال، تحب الكاميرا التي لا يحبها الونس، تصور الأشياء أوضح، وبشكل رائق بلا زيف ولا زحام.
الوحدة في التجول في السوق، تعني تمهل، وحرية خالصة.
الوحدة في الليل، تعني أن أصبح أكثر حساسية لأصوات المحبين والمعذبين، وغمزات النجوم والعاب القمر.
الوحدة في الحب، تعني أن أكون مستبدة فأحرك العلامات والسحر كما أريد. الوحدة عالم خالص من المتعة واللعب.
الونس.. كان اسم مقترح آخر لصغيرتي
فكرت في زينب، ويسر، وونس..
الونس يبدد الوحشة، ويطرد الشياطين، والأفكار المحزنة.
الونس يعني إناء كبيرا يكفي لأطهو لشخص أحبه، وأهل واصدقاء ومشردين..
في حياة أخرى سأكون فتاة تملك إناء كبيرا تقف في شارع طيب تقدم طعاما ساخنا مع ابتسامة. سأمنح الجميع لمسة على الكتف.
أحب ان ألمس كتف من ـحب، تبدو مثل طبطبة، هي حركة أمي أيضا، حركة سحرية، تلقائية مشحونة بمحبة كبيرة ورغبة أن يطمئن قلب من ألمسه، يطمئن ويفرح.
الونس الذي يقف لي في مكان معين، ألمحه في كل مرة أعبر من هناك، يسألني لماذا لا أفعل حركته المفضلة وأنا اسير جوار رجل أحبه.
ابتسم له بخجل، واشير له أن يتوارى الآن وسنتحدث فيما بعد..
يبتسم ويغادر.
الونس طيب، وكريم، يمنح البشر الكثير من الدفء والمشاركة. يحب مشاهدة الأفلام، يتقاسم معي تذاكر السينما وعلبة الفشار الكراميل، يمسك يدي في شارع طويل.يسمع حكاياتي، ويقص شيئا من عنده.
الونس يسألني عما أجهز للغداء، يقدم اقتراحات مبهجة.ربما المزيد من سلطة التونة وشرائح التوست الأسمر.
الونس يضحكني من القلب، يذكرني أن اشتري ليسر “حاجة حلوة“ قبل أن أعود للبيت، وأن
أسألها عن يومها. وأن اهز رأسي بالموافقة والإمتنان عندما تسألني “انتي كويسة يا ماما؟”
“مبسوطة يا ماما؟”
الونس يحب الكاميرا، التي لا تفضلها الوحدة.
يمسك الكاميرا، ويبتسم خلفها، وهو يجمعني مع أصدقائي وأهلي.
يسير معي على البحر، نغمس أقدامنا في الرمال، نعاكس الموج، نضحك او نبكي.
الونس، يحب البشر، يحب أن يراهم سعداء ومحتشدين حول حكاية أو نار تدفئة أو قمر في ليلة طويلة.
الونس شهم، يضم القلوب في الحزن، يخرج دواء قوياً من جعبته، يشفي الوجع، ويقص
الحكايات، ويعلم البشر كيف يتبادلون المحبة والود.
كيف يقفون معا، ويعبرون الحياة في صورة جماعية مبهجة.
الوحدة التي بفضلها تلتئم جروحي، وأسمع صوت أفكاري للكتابة وللحياة.
الونس الذي يبدد الحزن من قلبي، ويسمعني صوت ضحكتي مختلطة بأصوات حكايات
وأغنيات عذبة كثيرة قادمة من بعيد..