عن المناخ والمشير وحنين مخاتل لا يؤبد

حسين عبد الرحيم: "زووم إن" مرثيتي الجديدة عن فردوسي المفقود "بورسعيد"
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

ها أنا أعود من مدينتي، بلا بيت ولا ملاذ ولا سفر إلا قبض الريح. سنوات ثلاث. ومن قبلها أربعون عاما وأنا مسافر ليل. في المدينة؟!! تلك التي ولدت بها وفيها ومنها كانت الفجيعة.. في العام السابع والستين تاريخ ميلادي والنكسة.. ومعايرة أبي لي ب:

ـ الفقري وش النكسة.

بلا متاع، كانت الأسفار في سنواتي الثلاث الأخيرة لزيارة أمي التي رحلت ولم ترحل لتزيد آلامي وتطفو الهواجس مع الجنون وخطف الروح وطيرانها كشظايا هذه المرة، أبي.. والداي.. كانا معلقين ما بين رحمة الرب وشياطين هواجسي، بعد منتصف الليل.

كانت دائماً ما تبدأ رحلتي في السفر، في البيجو 504، مع بدايات السبعينيات، والبحث عن ملاذ، لم يكن هناك في مدينتي الساحلية مكان يأوينا كأسرة هُجّرت مع حروب ثلاث 56، 67، 73، ثلاثة حروب مثلت مفارق طرق في ماهية الشتات للأسرة، عائلة عبد الرحيم الكبير، تاجر الفاكهة. 

منهم ومعهم وبعيدا جدا عنهم كنت، في شتات آخر وليس أخير، أطير إلى القاهرة لاستكمال طموحي في السينما والكتابة ليكون البدء في العام 1989.. بلا بيت قلت، إلا صوت حفيف الأشجار في شوارع خالية استهوتني فيها رياح الخريف وسقوط المطر غزيرا فوق أسطح بيوت “المناخ”.

 في “حي المناخ” كانت سكنتنا الاولى عقب عودتنا من التهجير، في المنصورة كنا، في البصراط، في طلخا وفي المنزلة دقهلية وشيش في الليل والنهار، وأنات إطارات كاوتشوك تهاجم خيالي الجامح فتزيد من توقي إلي الترحال لمرسى بلا ضفاف. طرقات فوق أبواب ليست موصدة ولا مفتوحة.. مزنوقة بقطعة قماش مهترئة في البعيد في هجرة وتهجير للأسرة وعودة في العام الخامس والسبعين والبحث عن سكن في عينيّ وروحي وجسدي وحواسي وعقلي الذي لا يسكن.

كان الارتباط بحي المناخ لتلتهب وتجتر الذاكرة، الهوان، الصبر، الأمل، الخيبة، الركض في المكان والزمان واقف يشاهد صرعتي ويضحك عالما بأنني لن أخضع لأي إحباط، أسمع صفارات إنذار…هجوم مباغت.. صدى أصوات لرحل تائهين يرددون فوق رمال الشاطيئ في بلاد الحرق والغرق:

ـ يا جمال يا حبيب الملايين.

دكت رؤوسنا، وانهالت راجمات الصواريخ، حطوا علينا، من قبل دول ثلاث، في “العدوان الثلاثي” وخروج عاصف بالمراكب أو اللانشات بلا قبلة، إلا أطفال تصرخ وآخرون يسقطون في الماء الهادر، غرقى وقتلي بلا وداع، وأنا الباحث عن بيت أو سكن، متأهبا لسفر دام في الزمان والمكان، في سفر الاحلام والحواس.

كان حي المناخ وبيت إيجار في شارع 100، سابقا المشير احمد إسماعيل علي حالياً، كنت ولم أزل أسأل نفسي، من قبل وبعد علاقتي بأسرتي هل سكنت يوما، كفؤاد وجسد وعقل ونفس، لاااا وألف لا.. بقت لغة العصف تجر العقل اليقظ الواع، هاجر، سافر، كان سقف البيت يهطل بالماء الغزير في الشتاء، غطاؤنا كانت السماوات، مناجاة الرب وتوقي للتحليق لآخر الدنيا.

رجفة خوف في طفولتي وصباي الذي تحدى العصف، فلا إمكانيات مادية تسمح بالبحث عن مكان أو سكن آخر، أقول في نفسي من ثلاثة عقود متى تسكن؟!!..فترد حواسي: إذا سكنت الروح وصار قلب الغلام، الصبي، الفتي، الشاب الطموح المجنون بالسينما والمسرح وباليرينا بعينها في فيلم تانجو لكارلوس ساورا، بلا مراوحات بين القعود والطيران لآخر بلاد الدنيا، بلاد الله خلق الله.

كانت تتردد المصطلحات عن جدوى الأماكن في البدء وليس السكن: إذاً من يسكن الآخر، نسكن نحن الأماكن أم هي التي تسكننا، وتلبد حتى آخر الرحلة التي تخايلني في السفر حتى ساعاتي العشر الأخيرة.

أمي الراحلة التي مرضت في الثمانين، قهرت الآلام فغلبها الموت، بعد أن راوغته لساعات حتى نصل إليها. رحلت وحيدة ليلا.. وأبي معلق بقدميه في هواء السقف في بيت غريب بمساكن الإسراء، ليسرى صوب سماء مخنوقة وحبلى بذكريات تقتلني في لحظة عن جدوى الحياة والموت، لم أكترث كثيرا بقرف ولا غمام العيش، أعيش في اللا مكان داخل أحلامي بخارطة لا تحدها حدود في زرع الأمل العفي والعمل به وعليه من أجل السكن، سكنا نفسي قبل أية جدران أو حوائط لبيت أحس أنني سأمكث فيه كثيرا وحدي كما تعودت من أول الزمان.

خمسة عقود وثلاثة سنوات وأنا أبحث عن سكن حقيقي به عيش أو بيت بحيطان أربعة، سأضع فيه فنار ومركب مغادر بلا مرسى ولا قبله حيث أنني خائب الامل في العثور على سكن بالمعني التقليدي، بيت، مكتبة ومكتب ومدفأة ومطبخ وغرفة للنوم.. بعيدا عن ذكريات صقيع مثله مطر لم يزل ينهمر في وعاء قلب رهيف يمثلني في ضمير كل من قابلت وعرفت وعاشرت وصادقت، وعنده توقفت.. فبكى الرائي والسامع والمستمع والمنصت في شجن بلا دمع، على هذا الرجل / الكاتب / الفنان الروائي القاص، الذي اتسعت ذاكرته لخيال شاسع بلا حدود لم تتحمل سطوته البنايات إلا في ثكنة، المشير في بورسعيد / قبل مدرسة الجلاء، حيث كان سريري مع أشقائي، صورتين بالابيض والأسود لناصر والسادات، الأول كدر مكفهر والثاني يمسك بالبايب فوق سرير الغريب. وثمة أطياف وشريط صوت يردد في الخلاء ليلاً وأنا أستعيد بيتاُ كان هناك وقتما كنت في الثالثة عشر، أرتجف تحت غطاء وبجانب طست نحاسي وآخر من الألمونيوم نستقبل فيها الماء الغزير لأكثر من خمسة عشر ساعة.

 كل الليل ونصف النهار، حيث أن سقف السكن مثقوب بعدما طار القرميد والزفت والأكلمة التي كانت تقوي وتشد من متانة الفاصل من سقف يصل بنا لله. فتضحكني بنشوة برقة النجوم وقت دوي الرعد والبرق لأفرح بالمطر من فوق سطوح الجلاء.

أجتر وأرى ناصر وهو يخطب في ميدان المسلة وقت الحدث وذكرى العدوان في ديسمبر، في بورسعيد:

ـ كان فيه رجاله دفعت ضريبة الدم!!!

 أجتر أجتر كثيرا، وأسخر وأبكي وأشخر دون وعي وقت اجتراري لما حدث في بعيد الزمان، بلا دمع أضحك ساخرا بزعيق ترتج له السماء، تناوشني محطات العمر والحصاد والهجرة والسكن فيأتي الوشيش من صوت مصر وصوت العرب فينطق السادات القرار بجعل بورسعيد “منطقة حرة” بالقرار كذا، لما عانوه من تهجير عقب ويلات حروب ثلاث، تحيا مدن الواجهة والمواجهة، بورسعيد الباسلة، التي مثلت لي، الجنة والنار وشريط صوت يدلني لمكان مجهول، أسكن فيه حتى في الفؤاد،  بعيدا عن روح، روحي التى أتعبها الحنين فصارت النوستالجيا تتجلي بحنين مخاتل أرفض أن تؤبده حواسي، ولكن هيهات من قرب وبعد المسافة عن بيتنا الذي كان ولم يكن هناك..

مقالات من نفس القسم